موسوعة عبير الثقافية ..(مفهرسة),,

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نوران العلي
    V - I - P
    • Feb 2009
    • 3156

    المستطرف في كل فن مستظرف

    ذكر فصحاء النساء وحكاياتهن

    وقيل إن جارية عرضت على الرشيد ليشتريها فتأملها وقال لمولاها خذ جاريتك فلولا كلف بوجهها وخنس بأنفها لاشتريتها
    فلما سمعت الجارية مقالة أمير المؤمنين قالت مبادرة يا امير المؤمنين اسمع مني ما اقول
    فقال قولي فأنشدت تقول:
    ( ما سلم الظبي على حسنه ... كلا ولا البدر الذي يوصف )
    ( الظبي فيه خنس بين ... والبدر فيه كلف يعرف )
    قال فعجب من فصاحتها وأمر بشرائها

    وقيل عرضت على المأمون جارية بارعة الجمال فائقة في الكمال غير أنها كانت تعرج برجلها فقال لمولاها خذ بيدها وارجع فلولا عرج بها لاشتريتها
    فقالت الجارية يا أمير المؤمنين إنه في وقت حاجتك لا يكون بحيث تراه فأعجبه سرعة جوابها وأمر بشرائها

    ومن ذلك ما حكي أن كريم الملك كان من ظرفاء الكتاب فعبر يوما تحت جوسق ببستان فرأى جارية ذات وجه زاهر وكمال باهر لا يستطيع أحد وصفها
    فلما نظر إليها ذهل عقله وطار لبه فعاد إلى منزله وأرسل إليها هدية نفيسة مع عجوز كانت تخدمه وكانت الجارية عزباء
    وكتب إليها رقعة يعرض إليها بالزيارة في جوسقها فلما قرأت الرقعة قبلت الهدية ثم أرسلت إليه مع العجوز عنبرا وجعلت فيه زر ذهب وربطت ذلك على منديل
    وقالت للعجوز هذا جواب رقعته فلما رأى كريم الملك ذلك لم يفهم معناه وتحير في أمره وكانت له ابنة صغيرة السن فلما رأت أباها متحيرا في ذلك
    قالت له يا أبت أنا علمت معناه قال وما هو لله درك قالت:
    ( أهدت لك العنبر في جوفه ... زر من التبر خفي اللحام )
    ( فالزر والعنبر معناهما ... زر هكذا مختفيا في الظلام )
    قال فعجب من فطنتها وفصاحتها واستحسن ذلك منها.
    يتبع

    تعليق

    • نوران العلي
      V - I - P
      • Feb 2009
      • 3156

      المستطرف في كل فن مستظرف

      فصاحة النساء

      وحكي إن طائفة من بني تميم كانوا يكسرون أول الفعل فمرت فتاة منهم جميلة الصورة على جماعة فناداها شخص منهم وأراد أن يوقعها فيما ينسب إليهم من كسر الفعل فقال لأي شيء يا بني تميم ما تكتنون فقالت ولم لا نكتني وكسرت الفعل فضحك عليها وقال أفعل إن شاء الله فخجلت من قوله وتغير وجهها وأرادت
      أن توقعه كما أوقعها فقالت له هل تحسن شيئا من العروض قال نعم قالت قطع لي:
      ( حولوا عنا كنيستكم ... يا بني حمالة الحطب )
      فقطعه فوقف على عن ثم ابتدأ بالنون والألف مع بقية الحروف فضحكت عليه وأضحكت أصحابه فقال ويحك لم تبرحي حتى أخذت ثأرك

      وحكي إن شاعرا كان له عدو فبينما هو سائر ذات يوم في بعض الطرق إذا هو بعدوه فعلم الشاعر أن عدوه قاتله لا محالة فقال له يا هذا أنا أعلم أن المنية قد حضرت ولكن سألتك الله إذا أنت قتلتني أمض إلى داري وقف بالباب وقل ألا أيها البنتان إن أباكما فقال سمعا وطاعة ثم إنه قتله فلما فرغ من قتله أتى إلى داره وقف بالباب وقال ألا ايها البنتان إن أباكما وكان للشاعر ابنتان فلما سمعتا قول الرجل ألا أيها البنتان إن أباكما اجابتا بفم واحد قتيل خذا بالثأر ممن أتاكما ثم تعلقتا بالرجل ورفعتاه إلى الحاكم فاستقرره فأقر بقتله فقتله والله أعلم

      وقيل بينما كثير عزة مار بالطريق يوما إذا هو بعجوز عمياء على قارعة الطريق تمشي فقال لها تنحي عن الطريق فقالت له ويحك ومن تكون قال انا كثير عزة قالت قبحك الله وهل مثلك يتنحى له عن الطريق قال ولم قالت ألست القائل:
      ( وما روضة بالحسن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها )
      ( بأطيب من أردان عزة موهنا ... إذا أوقدت بالمجمر اللدن نارها )
      ويحك يا هذا لو تبخر بالمجمر اللدن مثلي ومثل أمك لطاب ريحها لم لا قلت مثل سيدك أمرىء القيس:
      ( وكنت إذا ما جئت بالليل طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب )
      فقطعته ولم يرد جوابا وقيل أتى الحجاج بامرأة من الخوارج فقال لأصحابه ما تقولون فيها قالوا عاجلها بالقتل أيها الأمير فقالت الخارجية لقد كان وزراء صاحبك خيرا من وزرائك يا حجاج قال ومن هو صاحبي قالت فرعون استشارهم في موسى عليه السلام فقالوا أرجه وأخاه وأتي بأخرى من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه فقيل لها الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه فقالت إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه

      وحكى ابن الجوزي في كتابه المنتظم في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة بلغه أن أصدقة أزواج النبي خمسمائة درهم وإن فاطمة رضي الله عنها كان صداقها على علي بن ابي طالب كرم الله وجهه أربعمائة درهم فأدى اجتهاد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن لا يزيد أحد على صداق البضعة النبوية فاطمة رضي الله عنها فصعد المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال أيها الناس لا تزيدوا في مهور النساء على أربعمائة درهم فمن زاد ألقيت زيادته في بيت مال المسلمين فهاب الناس أن يكلموه فقامت امرأة في يدها طول فقالت له كيف يحل لك هذا والله تعالى تقول ( واتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا )
      فقال عمر رضي الله عنه امرأة أصابت ورجل أخطأ وقيل جاءت امرأة إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقالت يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل فقال لها نعم الرجل زوجك وكان في مجلسه رجل يسمى كعبا فقال يا أمير المؤمنين إن هذه المرأة تشكو زوجها في أمر مباعدته إياها عن فراشه فقال له كما فهمت كلامها احكم بينهما فقال كعب علي بزوجها فأحضر فقال له إن هذه المرأة تشكوك قال أفي أمر طعام أم شراب قال بل في أمر مباعدتك إياها عن فراشك فأنشدت المرأة تقول:
      ( يا أيها القاضي الحكيم أنشده ... ألهى خليلي عن فراشي مسجده )
      ( نهاره وليله لا يرقده ... فلست في أمر النساء أحمده )
      فأنشأ الزوج يقول:
      ( زهدني في فرشها وفي الحلل ... أني امرؤ أذهلني ما قد نزل )
      ( في سورة النمل وفي السبع الطول ... وفي كتاب الله تخويف يجل )
      فقال له القاضي:
      ثم قال إن الله تعالى أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع فلك ثلاثة أيام بلياليهن ولها يوم وليلة فقال عمر رضي الله عنه لا أدري من ايكم أعجب أمن كلامها أم من حكمك بينهما اذهب فقد وليتك البصرة
      حكاية المتكلمة بالقران )
      قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى خرجت حاجا إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام فبينما أنا في بعض الطريق إذا أنا بسواد على الطريق فتميزت ذاك فإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت السلام عليك ورحمةالله وبركاته فقالت سلام قولا من رب رحيم قال فقلت لها يرحمك الله ما تصنعين في هذا المكان قالت ومن يضلل الله فلا هادي له فعلمت انها ضالة عن الطريق فقلت لها أين تريدين قالت سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فعلمت أنها قد قضت حجها وهي تريد بيت المقدس فقلت له أنت منذ كم في هذا الموضع قالت ( ثلاث ليال سويا ) فقلت ما أرى معك طعاما تأكلين قالت ( هو يطعمني ويسقين ) فقلت فبأي شيء تتوضئين قالت ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) فقلت لها إن معي طعاما فهل لك في الأكل قالت ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فقلت ليس هذا شهر رمضان قالت ( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) فقلت قد أبيح لنا الإفطار في السفر قالت ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) فقلت لم لا تكلميني مثل ما اكلمك قالت ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) فقلت فمن أي الناس أنت قالت ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) فقلت قد أخطأت فاجعليني في حل قالت ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ) فقلت فهل لك أن أحملك على ناقتي هذه فتدركي القافلة قالت ( وما تفعلوا من خير يعمله الله ) قال فانحت ناقتي قالت ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) فغضضت بصري عنها وقلت لها اركبي فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها فقالت ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) فقلت لها اصبري حتى أعقلها قالت ( ففهمناها سليمان ) فعقلت الناقة وقلت لها اركبي فلما ركبت قالت ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) قال فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح فقالت ( وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك ) فجعلت أمشي رويدا رويدا وأترنم بالشعر فقالت ( فاقرءوا ما تيسر من القران فقلت لها لقد أوتيت خيرا كثيرا قالت ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) فلما مشيت بها قليلا قلت ألك زوج قالت ( يا أيها الذين امنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبدلكم تسؤكم ) فسكت ولم اكلمها حتى أدركت بها القافلة فقلت لها هذه القافلة فمن لك فيها فقالت ( المال والبنون زينة الحياة والدنيا ) فعلمت أن لها أولاد فقلت وما شأنهم في الحج قالت ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت بها القباب والعمارات فقلت هذه القباب فمن لك فيها قالت ( واتخذ الله إبراهيم خليلا وكلم الله موسى تكليما يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر بهم الجلوس قالت ( فأبعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) فمضى أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي فقالت ( كلوا وأشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) فقلت الان طعامكم علي حرام حتى تخبروني بأمرها فقالوا هذه أمنا لها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقران مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن فسبحان القادرعلى ما يشاء فقلت ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
      والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
      ،،

      تعليق

      • نوران العلي
        V - I - P
        • Feb 2009
        • 3156

        المستطرف في كل فن مستظرف

        الباب الثامن في الاجوبة المسكتة والمستحسنة ورشقات اللسان وما جرى مجرى ذلك:-

        قيل أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقال له هيه يا معن تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف على قوله
        ( معن بن زائدة الذي زادت به ... شرفا على شرف بنو شيبان )
        فقال كلا يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على قوله:
        ( ما زلت يوم الهاشمية معلنا ... بالسيف دون الرحمن )
        ( فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان )
        فقال أحسنت والله يا معن وأمر له بالجوائز والخلع وفد ابن أبي محجن على معاوية فقام خطيبا فاحسن فحسده معاوية وأراد أن يوقعه فقال له أنت الذي أوصاك أبوك بقوله:
        ( إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروى عظامي بعد موتي عروقها )
        ( ولا تدفنني في الغلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها )
        وقال بل أنا الذي يقول أبي:
        ( لا تسأل الناس ما مالي وكثرته ... وسائل الناس ما جودي وما خلقي )
        ( أعطي الحسام غداة الروع حصته ... وعامل الرمح أرويه من العلق )
        ( وأطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنق )
        ( ويعلم الناس أني من سراتهم ... إذا سما بصر الرعديد بالفرق )
        فقال له معاوية أحسنت والله يا ابن أبي محجن وأمر له بصلة وجائزة
        وقيل أخذ عبد الملك بن مروان بعض أصحاب شبيب الحارثي فقال له ألست القائل:
        ( ومنا شريد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب )
        فقال يا أمير المؤمنين إنما قلت ومنا أمير المؤمنين شبيب وأردت بذلك مناداة لك فكان ذلك سببا لنجاته
        ودخل شريك بن الأعور على معاوية وكان دميما فقال له معاوية إنك لدميم والجميل خير من الدميم وإنك لشريك وما لله من شريك وإن اباك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك فقال له إنك معاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت الكلاب وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر وإنك لابن حرب والسلم خير من الحرب وإنك لابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت فكيف صرت أمير المؤمنين ثم خرج وهو يقول:
        ( أيشتمني معاوية بن حرب ... وسيفي صارم ومعي لساني )
        ( وحولي من ذوي يزن ليوث ... ضراغمة تهش إلى الطعان )
        ( يعير بالدمامة من سفاه ... وربات الحجال من الغواني )
        ودخل يزيد بنأبي مسلم صاحب شرطة الحجاج على سليمان بن عبد الملك بعد موت الحجاج فقال له سليمان قبح الله رجلا أجرك رسنه وأولاك أمانته فقال يا أمير المؤمنين رأيتني والأمر لك وهو عني مدبر فلو رأيتني وهو علي مقبل لاستكبرت مني ما استصغرت واستعظمت مني ما استعظمت فقال سليمان أترى الحجاج استقر في جهنم فقال يا أمير المؤمنين لا تقل ذلك فان الحجاج وطأ لكم المنابر وأذل لكم الجبابرة وهو يجيء يوم القيامة عن يمين ابيك وشمال أخيك فحيثما كانا كان
        وقال يهودي لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه ما لكم لم تلبثوا بعد نبيكم الا خمس عشرة سنة حتى تقاتلتم فقال علي كرم الله وجهه ولم أنتم لم تجف أقدامكم من البلل حتى قلتم يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم الهة وجد الحجاج على منبره مكتوبا قل تمتع بكفرك قليلا إنك من اصحاب النار فكتب تحته قل ( موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ) ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره فاجلسه معه على سريره ثم قال له أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم فقال له عقيل وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم وقيل اجتمعت بنو هاشم يوما عند معاوية فاقبل عليهم وقال يا بني هاشم ان خيري لكم لممنوح وان بابي لكم لمفتوح فلا يقطع خيري عنكم ولا يرد بأبي دونكم ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرا مختلفا انكم ترون أنكم أحق بما في يدي مني وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقوقكم قلتم أعطانا دون حقنا وقصر بنا عن قدرنا فصرت كالمسلوب والمسلوب لا حمد له هذا مع انصاف قائلكم وإسعاف سائلكم قال فاقبل عليه ابن عباس رضي الله عنهما فقال والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه ولئن قطعت عنا خيرك فخير الله أوسع منك ولئن أغلقت دوننا بابا لنكففن أنفسنا عنك وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما للرجل من المسلمين ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خف ولا حافر أكفاك أم أزيدك قال كفاني يا ابن عباس وقال معاوية يومها أيها الناس إن الله حبا قريش بثلاث فقال لنبيه ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ونحن عشيرته الأقربون وقال تعالى ( وإنه لذكر لك ولقومك ) ونحن قومه وقال:
        ( لا يلاف قريش إيلافهم ) ونحن قريش فأجابه رجل من الأنصار فقال على رسلك يا معاوية فإن الله تعالى يقول ( وكذب به قومك وهو الحق ) وأنتم قومه وقال تعالى ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) وأنتم قومه وقال تعالى وقال الرسول ( يا رب ان قومي اتخذوا هذا القران مهجورا ) وأنتم قومه ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا لزدناك

        وقال معاوية أيضا لرجل من اليمن ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة فقال أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ولم يقولوا اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه وقال يوما لجارية بن قدامة ما كان أهونك على قومك إذ سموك جارية فقال ما كان أهونك على قومك إذ سموك معاوية وهي الأنثى من الكلاب قال اسكت لا ام لك قال ام لي ولدتني أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا وإنك لم تهلكنا قسوة ولم تملكنا عنوة ولكنك أعطيتنا عهدا وميثاقا وأعطيناك سمعا وطاعة فإن وفيت لنا وفينا لك وإن نزعت إلى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا وأسنة حدادا فقال معاوية لا أكثر الله في الناس مثلك يا جارية فقال له قل معروفا فإن شر الدعاء محيط بأهله وخطب معاوية يوما فقال إن الله تعالى يقول ( وأن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) فعلام تلوموني إذا قصرت في عطاياكم فقال له الأحنف وإنا والله لا نلومك على ما في خزائن الله ولكن على ما انزله الله لنا من خزائنه فجعلته في خزائنك وحلت بيننا وبينه وقيل دخل مجنون الطاق يوما إلى الحمام وكان بغير مئزر فراه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكان في الحمام فغمض عينيه فقال المجنون متى أعماك الله قال حين هتك سترك
        ومن ذلك ما حكى أن الحجاج خرج يوما متنزها فلما فرغ من نزهته صرف عنه اصحابه وانفرد بنفسه فإذا هو بشيخ من بني عجل فقال له من أين أيها الشيخ قال من هذه القرية قال كيف ترون عمالكم قال شر عمال يظلمون الناس ويستحلون أموالهم قال فكيف قولك في الحجاج قال ذاك ما ولى العراق شر منه قبحه الله وقبح من استعمله قال أتعرف من أنا قال لا قال أنا الحجاج قال جعلت فداك أو تعرف من أنا قال لا قال فلان بن فلان مجنون بني عجل أصرع في كل يوم مرتين قال فضحك الحجاج منه وأمر له بصلة
        وقال رجل لصاحب منزل أصلح خشب هذا السقف فإنه يقرقع قال لاتخف فإنه يسبح قال إني أخاف أن تدركه رقة فيسجد

        وقالت عجوز لزوجها أما تستحي أن تزني ولك حلال طيب قال أما حلال فنعم وأما طيب فلا
        وقال ملك لوزيره ما خير ما يرزقه العبد قال عقل يعيش به قال فإن عدمه قال أدب يتحلى به قال فإن عدمه قال مال يستره قال فإن عدمه قال فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد
        وتنبأ رجل في زمن المنصور مقال له المنصور أنت نبي سفلة فقال جعلت فداك كل نبي يبعث إلى شكلها

        ومن الأجوبة المسكنة المستحسنة
        ما ذكر أن إبراهيم مغني الرشيد غنى يوما بين يديه فقال له أحسنت أحسن الله إليك فقال له يا أمير المؤمنين إنما يحسن الله الي بك فأمر له بمائة ألف درهم وقال رجل لبعض العلوية أنت بستان فقال العلوي وأنت النهر الذي يسقى منه البستان وذبحت عائشة رضي الله تعالى عنها شاة وتصدقت بها وأفضلت منها كتفا فقال لها النبي ما عندك منها فقالت ما بقي منها إلا كتف فقال كلها إلا كتفا وقال عبد الله بن يحيى لأبي العيناء كيف الحال قال أنت الحال فانظر كيف انت لنا فأمر له بمال جزيل وأحسن صلته وكان عمرو بن سعد بن سالم في حرس المأمون ليلة فخرج المأمون يتفقد الحرس فقال لعمرو من أنت قال عمرو عمرك الله بن سعد أسعدك الله بن سالم سلمك الله قال انت تلكؤنا الليلة قال الله يلكؤك يا أمير المؤمنين وهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين فقالالمأمون:
        ( إن أخا الهيجاء من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك )
        ( ومن اذا رأيت الزمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك )
        دفعوا إليه أربعة الاف دينار قال عمرو وددت لو أن الأبيات طالت وقال المعتصم للفتح بن خاقان وهو صبي صغير أرأيت يا فتح أحسن من هذا الفص لفص كان في يده قال نعم يا أمير المؤمنين اليد التي هو فيها أحسن منه فأعجبه جوابه وأمر له بصلة وكسوة وقيل أن رجلا سأل العباس رضي الله عنه أأنت أكبر أم رسول الله فقال رسول الله أكبر وأنا ولدت قبله وقال معاوية لسعيد بن مرة الكندي أأنت سعيد قال أمير المؤمنين السعيد وأنا ابن مرة وقال المأمون للسيد بن أنس أأنت السيد قال أمير المؤمنين السيد وأنا ابن أنس وقال الحجاج للمهلب وهو يماشيه أأنا أطول أم أنت قال الأمير أطول وأنا أبسط قامة أراد الطول وهو الفضل والأجوبة بهذا المعنى كثيرة لو تتبعتها لعجزت عنها ولكني اقتصرت على هذا وأوجزت وفيما ذكرته من ذلك كفاية
        وأسأل الله تعالى العون والعناية

        تعليق

        • نوران العلي
          V - I - P
          • Feb 2009
          • 3156

          المستطرف في كل فن مستظرف

          الباب التاسع في ذكر الخطب والخطباء والشعر والشعراء وسرقاتهم وكبوات الجياد وهفوات الأمجاد:-
          قيل خطب المأمون فقال اتقوا الله عباد الله وأنتم في مهل بادروا الأجل ولا يغرنكم الأمل فكأني بالموت قد نزل فشغلت المرء شواغله وتولت عنه فواصله وهيئت أكفانه وبكاه جيرانه وصار إلى التراب الخالي بجسده البالي فهو في التراب عفير وإلى ما قدم فقير وقال الشعبي ما سمعت أحدا يخطب إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يخطىء ما خلا زيادا فإنه لا يزداد اكثارا إلا أزداد إحسانا
          وخطب علي رضي الله عنه فقال في خطبته عباد الله الموت الموت ليس منه فوت إن أقمتم أخذكم وإن فررتم منه أدرككم الموت معقود بنواصيكم فالنجا النجا والوحا الوحا فإن وراءكم طالبا حثيثا وهو القبر ألا وإن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث كلمات فيقول أنا بيت الظلمة أنا بيت الوحشة أنا بيت الديدان ألا وإن وراء ذلك اليوم يوما أشد منه يوما يشيب فيه الصغير ويسكر فيه الكبير ( تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديدا ) ألا وإن وراء ذلك اليوم يوما أشد منه فيه نار تتسعر حرها شديد وقعرها بعيد وحليها حديد وماؤها صديد ليس لله فيها رحمة قال فبكي المسلمون بكاء شديدا ثم قال ألا وإن وراء ذلك اليوم ( جنة عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين ) أدخلنا الله وإياكم دار النعيم وأجارنا وإياكم من العذاب الأليم
          وخطب الحجاج بن يوسف فقال في بعض خطبه أن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن رضي الله عنه خطب بالبصرة فقال أيها الناس كل كلام في غير ذكر فهو لغو وكل صمت في غير فكر فهو سهو والدنيا حلم والاخرة يقظة والموت متوسط بينهما ونحن في أضغاث أحلام قيل اجتمع الناس عند معاوية وقام الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قوم الكراهة فقام رجل من الخطباء من عذرة يقال له يزيد بن المقنع فاخترط من سيفه شبرا ثم قال أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية ثم قال فإن يهلك فهذا وأشار إلى يزيد ثم قال فمن أبى فهذا وأشار إلى سيفه فقال له معاوية أنت سيد الخطباء

          فصل في ذكر الشعر والشعراء وسرقاتهم
          قيل ما استدعي شارد الشعر بمثل الماء الجاري والشرف العالي والمكان الخضر الخالي وقيل أمسك على النابغة الجعدي أربعين يوما فلم ينطق بالشعر ثم أن بني جعدة غزوا فظفروا فاستخفه الطرب والفرح فرام الشعر فذل له ما أستصعب عليه فقال له قومه والله لنحن بإطلاق لسان شاعرنا أسر منا بالظفر بعدونا وقال أبو نواس ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال وقال الرجال الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاؤا جائز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من اطلاق المعنى وتقييده ومن تسهيل اللفظ وتعقيده وقيل وفد زياد بن عبد الله على معاوية فقال له أقرأت القران قال نعم قال أقرضت القريض قال نعم قال أرويت الشعر قال لا فكتب إلى عبد الله أبا زياد بارك الله لك في ابنك فأروه الشعر فقد وجدته كاملا وأني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول أروا الشعر فإنه يدل على محاسن الأخلاق وبقي مساويها وتعلموا الأنساب فرب رحم مجهولة قد وصفت بعريان النسب وتعلموا من النجوم ما يدلكم على سبلكم في البر والبحر ولقد هممت بالهرب يوم صفين فما ثبتني الا قول القائل:
          ( أقول لها اذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي )
          وقيل لم ير قط أعلم بالشعر والشعراء من خلف الأحمر كان يعمل الشعر على ألسنة الفحول من القدماء فلا يتميز عن مفولهم ثم تنسك فكان يختم القران كل يوم وليلة وبذل له بعض الملوك مالا جزيلا على أن يتكلم في بيت من الشعر شكوا فيه فأبى وكان الحسن ابن علي رضي الله عنه يعطي الشعراء فقيل له في ذلك فقال خير مالك ما وقيت به في عرضك وقال أبو الزناد ما رأيت اروى للشعر من عروة قلت له ما أرواك يا أبا عبد الله فقال وما روايتي مع رواية عائشة رضي الله عنها ما كان ينزل بها شيء الا أنشدت فيه شعرا وكان رسول الله يتمثل بقول القائل كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا ولم ينطق به موزونا فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشهد أنك رسول الله حقا وتلا قوله تعالى ( وما علمناه الشعر وما ينبغي )
          ولنذكر نبذة من سرقات الشعراء وسقطاتهم
          فمن ذلك قول قيس بن الخطيم وهو شاعر الأوس وشجاعها:
          ( وما المال والأخلاق الا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزود )
          وكيف يخفى ما أخذه مع اشتهار قصيدة طرفة بن العبد وهي معلقه على الكعبة يقول فيها
          ( لعمرك ما الأيام الا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزود )
          ومن ذلك قول عبدة بن الطيب:
          ( فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما )
          أخذه من قول امرىء القيس:
          ( فلو أنها نفسي تموت شريتها ... ولكنها نفس تساقط أنفسا )
          ويقال من سرق شيئا واسترقه فقد استحقه وهو أن يسرق الشاعر المعنى دون اللفظ فمن السرقة الفاحشة قول كثير في عبد الملك بن مروان:
          ( إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها عقد در يزينها )
          أخذه من قول الحطيئة ولم يغير سوى الروي:
          ( إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها لؤلؤ وشنوف )
          وجرير على سعة تبحره وقدرته على غرر الشعر وابتكار الكلام نقل قوله:
          ( فلو كان الخلود بفضل قوم ... على قوم لكان لنا الخلود )
          من قول زهير وهو شعر مشهور يحفظه الصبيان وترويه النسوان وهو:
          ( فلو كان حمد يخلد المرء لم يمت ... ولكن حمد المرء غير مخلد )
          وقد قال الشماخ:
          ( وأمر ترجي النفس ليس بنافع ... واخر تخشى ضيره لا يضيرها )
          وهو مأخوذ من قول الاخ:
          ( ترجي النفوس الشيء لا تستطيعه ... وتخشى من الأشياء ما لا يضيرها )
          وأبو تمام مع قوته وقدرته على الكلام يقول:
          ( وأحسن من نور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المطالب )
          أخذه من قول الأخطل:
          ( رأيت بياضا في سواد كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب )

          تعليق

          • نوران العلي
            V - I - P
            • Feb 2009
            • 3156

            رد: موسوعة عبير الثقافة ..(مفهرسة),,

            ومن سقطات الشعراء
            ما قيل أن أبا العتاهية كان مع تقدمه في الشعر كثير السقط روي أنه لقي محمد ابن مبادر بمكة فمازحه وضاحكه ثم أنه دخل على الرشيد فقال يا أمير المؤمنين هذا شاعر البصرة يقول قصيدة في كل سنة وأنا أقول في كل سنة مائتي قصيدة فأدخله الرشيد إليه وقال ما هذا الذي يقول أبو العتاهية فقال يا أمير المؤمنين لو كنت أقول كما يقول:
            ( ألا يا عتبة الساعه ... أموت الساعة الساعه )
            لقلت كثيرا ولكني أقول:
            ( ابن عبد الحميد يوم توفى ... هد ركنا ما كان بالمهدود )
            ( ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود )
            فأعجب الرشيد قوله وأمر له بعشرة الاف درهم فكاد أبو العتاهية يموت غما وأسفا وكان بشار بن برد يسمونه أبا المحدثين ويسلمون إليه في الفضيلة والسبق وبعض أهل اللغة يستشهد بشعره ومع ذلك قال:
            ( إنما عظم سليمى حبتي ... قصب السكر لا عظم الحمل )
            ( واذا أدنيت منها بصلا ... غلب المسك على ريح البصل )
            هذا مع قوله:
            ( اذا قامت لمشيتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران )
            ومع قوله في الفخر:
            ( كأن مثار النقع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
            ومع قوله أيضا:
            ( اذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه )
            وأبو الطيب المتنبي في فضله المشهور وأخذه بزمام الكلام وقوته على رقائق المعاني وعلى ما في شعره من الحكم والأمثال السائرة يقول:
            ( وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... اذا رأى غير شيء ظنه رجلا )
            وغير شيء معناه المعدوم والمعدوم لا يرى فهذا سقط فاحش ومما يستهجن من قوله وتكاد أن تمجه الأسماع قوله:
            ( تقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عش كلهن قلاقل )
            وقوله وقد جمع بين قبح اللفظ وبرودة المعنى:
            ( ان كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام )
            ومن معانيه المسروقة قوله:
            ( ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش )
            أخذه من قول أبي تمام:
            ( ان الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب )
            قال ابو عبد الله الزبيري اجتمع راوية جرير وراوية كثير وراوية جميل وراوية الأحوص وراوية نصيب فافتخر كل منهم وقال صاحبي أشعر فحكموا السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما بينهم لعقلها وتبصرها بالشعر فخرجوا حتى استأذنوا عليها وذكروا لها أمرهم فقالت لراوية جرير أليس صاحبك الذي يقول:
            ( طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام )
            وأي ساعة أحلى من الزيارة بالطروق قبح الله صاحبك قبح شعره فهلا قال فادخلي بسلام ثم قالت لراوية كثير أليس صاحبك الذي يقول:
            ( يقر بعيني ما يقر بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرت )
            وليس شيء أقر بعينها من النكاح أيحب صاحبك أن ينكح قبح الله صاحبك وقبح شعره ثم قالت لراوية جميل أليس صاحبك الذي يقول
            ( فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي )
            فما أراه هوى وإنما طلب عقله قبح الله صاحبك وقبح شعره ثم قالت لراوية نصيب أليس صاحبك الذي يقول:
            ( أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حزني من ذا يهيم بها بعدي )
            فما له همة إلا من يتعشقها بعده قبحه الله وقبح شعره هلا قال
            ( أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي )
            ثم قالت لراوية الأحوص أليس صاحبك الذي يقول:
            ( من عاشقين تواعدا وتراسلا ... ليلا اذا نجم الثريا حلقا )
            ( باتا بأنعم ليلة وألذها ... حتى اذا وضح الصباح تفرقا )
            قبحه الله وقبح شعره هلا قال تعانقا فلم تثن على واحد منهم وأحجم رواتهم عن جوابها رضي الله عنها
            وروى ابن الكلبي قال لما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد على الخلفاء من قبله فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم في الدخول حتى قدم عدي بن أرطأة عليه وكان منه بمكانة فتعرض له جرير وقال:
            ( يا أيها الرجل المزجى مطيته ... هذا زمانك أني قد خلا زمني )
            ( أبلغ خليفتنا ان كنت لاقيه ... أني لدي الباب كالمشدود في قرن )
            ( لاتنس حاجتنا لاقيت مغفرة ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني )
            فقال نعم يا أبا عبد الله فلما دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وألسنتهم مسمومة وسهامهم صائبة فقال عمر رضي الله عنه مالي وللشعراء فقال يا أمير المؤمنين إن رسول الله مدح فأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال صدقت فمن بالباب منهم قال ابن عمك عمر بن أبي ربيعة القرشي قال لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل:
            ( ألا ليتني في يوم تدنو منيتي ... شممت الذي ما بين عينيك والفم )
            ( وليت طهوري كان ريقك كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم )
            ( وياليت سلمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنم )
            فليته عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ثم يعمل عملا صالحا والله لا يدخل علي أبدا فمن بالباب غيره ممن ذكرت قال جميل بن معمر العذري قال أليس هو القائل:
            ( ألا ليتنا نحيا جميعا فإن نمت ... يوافى لدى الموتى ضريحي ضريحها )
            ( فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوي عليها صفيحها )
            ( أظل نهاري لا أراها وتلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها )
            والله لا يدخل علي أبدا فمن بالباب غيره ممن ذكرت قال كثير عزة قال أليس هو القائل:
            ( رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر الفراق قعودا )
            ( لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعا وسجودا )
            أبعده الله فوالله لا يدخل علي أبدا فمن بالباب غيره ممن ذكرت قال الأحوص الأنصاري قال أبعده الله والله لا يدخل علي أبدا أليس هو القائل وقد افسد على رجل من أهل المدينة جاريته حتى هرب بها منه:
            ( الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها وأتبعه )
            فمن بالباب غيره ممن ذكرت قال همام بن غالب الفرزدق قال أليس هو القائل يفتخر بالزنا في قوله:
            ( هما دلياني من ثمانين قامة ... كما انقض باز لين الريش كاسره )
            ( فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أحي فيرجى أم قتيل نحاذره )
            ( فقلت ارفعوا الأجراس لا يفطنوا بنا ... وليت في أعقاب ليل أبادره )
            والله لا دخل علي أبدا فمن بالباب غيره ممن ذكرت قال الأخطل الثعلبي قال أليس هو القائل:
            ( ولست بصائم رمضان عمري ... ولست باكل لحم الأضاحي )
            ( ولست بزاجر عيسا بكورا ... إلى أطلال مكة بالنجاح )
            ( ولست بقائم كالعبد يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح )
            ( ولكني سأشربها شمولا ... وأسجد عند منبلج الصباح )
            أبعده الله عني فوالله لادخل علي أبدا ولا وطىء لي بساطا وهو كافر فمن بالباب غيره من الشعراء ممن ذكرت قال جرير قال أليس هو القائل:
            ( طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام )
            فإن كان ولا بد فهذا فأذن له قال عدي بن أرطأة فخرجت فقلت أدخل يا جرير فدخل وهو يقول:
            ( إن الذي بعث النبي محمدا ... جعل الخلافة في الإمام العادل )
            ( وسع الخلائق عدله وقاره ... حتى ارعوا وأقام ميل المائل )
            ( إني لأرجو منه نفعا عاجلا ... والنفس مولعة بحب العاجل )
            ( والله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل )
            فلما مثل بين يديه قال يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقا فأنشأ يقول:
            ( كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر )
            ( ممن بعدلك يكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر )
            ( أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني ما بلغت من خبري )
            ( إنا نرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجوا من المطر )
            ( إن الخلافة جاءته على قدر ... كما أتى ربه موسى على قدر )
            ( هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر )
            ( الخير ما دلت حيا لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر )
            فقال والله يا جرير لقد وافيت الأمر ولا أملك إلا ثلاثين دينارا فعشرة أخذها عبد الله ابني وعشرة أخذتها أم عبد الله ثم قال لخادمه ادفع إليه العشرة الثالثة فقال والله يا أمير المؤمنين أنها لأحب مال اكتسبته ثم خرج فقال له الشعراء ما وراءك يا جرير فقال ورائي ما يسوءكم خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإنني عنه لراض ثم أنشأ يقول:
            ( رأيت رقى الجن لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن واقيا )

            ومما جاء في كبوات الجياد وهفوات الأمجاد
            قال الأحنف الشريف من عدت سقطاته وقلت عثراته وقالوا كل صارم ينبو وكل جواد يكبو وكان الأحنف بن قيس حليما سيدا يضرب به المثل وقد عدت له سقطة وهوان عمرو بن الأهتم دس إليه رجلا يسفهه فقال يا أبا بحر ما كان ابوك في قومه قال كان أوسطهم وسيدهم ولم يتخلف عنهم فرجع إليه ثانيا ففطن أنه من قبل عمرو ابن الأهتم فقال ما كان أبوك قال كانت له فتوة ومروءة ومكارم أخلاق ولم يكن أهتم سلاجا وقال سعيد بن المسيب ما فاتني الأذان في مسجد رسول الله منذ أربعين سنة ثم قام يريد الصلاة فوجد الناس قد خرجوا من المسجد وقال قتادة ما نسيت شيئا قط ثم قال يا غلام ناولني نعلي قال النعل في رجلك وكان هشام بن عبد الملك من رجال بني أمية ودهاتهم وقد عدت له سقطات منها أن الحادي حدا به يوما فقال:
            ( إني عليك أيها النجي ... أكرم من يمشي به المطي )
            فقال هشام صدقت وذكر عنده سليمان وأخوه فقال والله لأشكونه يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك ولما ولي الخلافة قال الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام قال النابغة أي الرجال المهذب
            وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

            تعليق

            • نوران العلي
              V - I - P
              • Feb 2009
              • 3156

              المستطرف في كل فن مستظرف

              الباب العاشر في التوكل على الله تعالى والرضا بما قسم والقناعة وذم الحرص والطمع وما أشبه ذلك وفيه فصول:-

              الفصل الأول في التوكل على الله تعالى

              قال الله تعالى ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ) وقال تعالى ( وعلى ربهم يتوكلون ) وقال تعالى ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال ( يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ) رواه مسلم قيل معناه متوكلون وقيل قلوبهم رقيقة وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله قال ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتعود بطانا ) وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام يا داود من دعاني أجبته ومن استغاثني أغثته ومن استنصرني نصرته ومن توكل علي كفيته فأنا كافي المتوكلين وناصر المستنصرين وغياث المستغيثين ومجيب الداعين.

              وحكي أنه كان في زمن هارون الرشيد قد حصل للناس غلاء سعر وضيق حال حتى اشتد الكرب على الناس اشتدادا عظيما فأمر الخليفة هارون الرشيد الناس بكثرة الدعاء والبكاء وأمر بكسر الات الطرب ففي بعض الأيام رؤي عبد يصفق ويرقص ويغني فحمل إلى الخليفة هرون الرشيد فسأله عن فعله ذلك من دون الناس فقال إن سيدي عنده خزانة بر وأنا متوكل عليه أن يطعمني منها فلهذا أنا إذا لا أبالي فأنا أرقص وأفرح فعند ذلك قال الخليفة إذا كان هذا قد توكل على مخلوق مثله فالتوكل على الله أولى فسلم للناس أحوالهم وأمرهم بالتوكل على الله تعالى

              وحكي أن حاتما الأصم كان رجلا كثير العيال وكان له أولاد ذكور وإناث ولم يكن يملك حبة واحدة وكان قدمه التوكل فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم فتعرضوا لذكر الحج فداخل الشوق قلبه ثم دخل على أولاده فجلس معهم يحدثهم ثم قال لهم لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجا ويدعو لكم ماذا عليكم لو فعلتم فقالت زوجته وأولاده أنت على هذه الحالة لا تملك شيئا ونحن على ما ترى من الفاقة فكيف تريد ذلك ونحن بهذه الحالة وكان له ابنة صغيرة فقالت ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك دعوه يذهب حيث شاء فإنه مناول للرزق وليس برزاق فذكرتهم ذلك فقالوا صدقت والله هذه الصغيرة يا أبانا انطلق حيث أحببت فقام من وقته وساعته وأحرم بالحج وخرج مسافرا وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج وتأسف على فراقه أصحابه وجيرانه فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة ويقولون لو سكت ما تكلمنا فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء وقالت إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك وأنك لا تضيعهم فلا تخيبهم ولا تخجلني معهم فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدا فانقطع عن عسكره واصحابه فحصل له عطش شديد فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم فاستسقى منهم ماء وقرع الباب فقالوا من انت قال الأمير ببابكم يستسقيكم فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء وقالت إلهي وسيدي سبحانك البارحة بتنا جياعا واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا ثم أنها أخذت كوزا جديدا وملأته ماء وقالت للمتناول منها اعذرونا فأخذ الأمير الكوز وشرب منه فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال هذه الدار لأمير فقالوا لا والله بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الأصم فقال الأمير لقد سمعت به فقال الوزير يا سيدي لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج وسافر ولم يخلف لعياله شيئا وأخبرت أنهم البارحة باتوا جياعا فقال الأمير ونحن أيضا قد ثقلنا عليهم اليوم وليس من المروءة أن يثقل مثلنا على مثلهم ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار ثم قال لأصحابه من أحبني فليلق منطقته فحل جميع أصحابه مناطقهم ورموا بها إليهم ثم انصرفوا فقال الوزير السلام عليكم أهل البيت لاتينكم الساعة بثمن هذه المناطق فلما أنزل الأمير رجع إليهم الوزير ودفع إليهم ثمن المناطق مالا جزيلا واستردها منهم فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدا فقالوا لها ما هذا البكاء إنما يجب أن تفرحي فإن الله قد وسع علينا فقالت يا ام والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعا فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا بعد فقرنا فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين اللهم انظر إلى أبينا ودبره بأحسن التدبير هذا ما كان من امرهم

              وأما ما كان من امر حاتم أبيهم فإنه لما خرج محرما ولحق بالقوم توجع أمير الركب فطلبوا له طبيبا فلم يجدوا فقال هل من عبد صالح فدل على حاتم فلما دخل عليه وكلمه دعا له فعوفي الأمير من وقته فأمر له بما يركب وما يأكل وما يشرب فنام تلك الليلة مفكرا في أمر عياله فقيل له في منامه يا حاتم من أصلح معاملته معنا أصلحنا معاملتنا معه ثم أخبر بما كان من امر عياله فأكثر الثناء على الله تعالى فلما قضى حجه ورجع تلقته أولاده فعانق الصبية الصغيرة وبكى ثم قال صغار قوم كبار قوم اخرين إن الله لا ينظر إلى أكبركم ولكن ينظر إلى اعرفكم به فعليكم بمعرفته والاتكال عليه فإنه من توكل على الله فهو حسبه.

              ومن كلام الحكماء من أيقن أن الرزق الذي قسم له لا يفوته تعجل الراحة ومن أعلم أن الذي قضى عليه لم يكن ليخطئه فقد استراح من الجزع ومن علم أن مولاه خير له من العبادة فقصده كفاه همه وجمع شمله وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت عند النبي يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن تنفعك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت على أن تضرك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الصحف وجفت الأقلام.

              ورفع إلى الرشيد أن بدمشق رجلا من بني أمية عظيم المال والجاه كثير الخيل والجند يخشى على المملكة منه وكان الرشيد يومئذ بالكوفة قال منارة خادم الرشيد فاستدعاني الرشيد وقال اركب الساعة إلى دمشق وخذ معك مائة غلام وائتني بفلان الأموي وهذا كتابي إلى العامل لا توصله له إلا إذا امتنع عليك فإذا أجاب فقيده وعادله بعد أن تحصي جميع ما تراه وما يتكلم به واذكر لي حاله وماله وقد أجلتك لذهابك ستا ولمجيئك ستا ولإقامتك يوما أفهمت قلت نعم قال فسر على بركة الله فخرجت أطوي المنازل ليلا ونهارا لا أنزل إلا للصلاة أو لقضاء حاجة حتى وصلت ليلة السابع باب دمشق فلما فتح الباب دخلت قاصدا نحو دار الأموي فإذا هي دار عظيمة هائلة ونعمة طائلة وخدم وحشم وهيبة ظاهرة وحشمة وافرة ومصاطب متسعة وغلمان فيها جلوس فهجمت على الدار بغير إذن فبهتوا وسألوا عني فقيل لهم إن هذا رسول أمير المؤمنين فلما صرت في وسط الدار رأيت أقواما محتشمين فظننت أن المطلوب فيهم فسألت عنه فقيل لي هو في الحمام فأكرموني وأجلسوني وأمروا بمن معي ومن صحبني إلى مكان اخر وأنا أنتقد الدار وأتأمل الأحوال حتى أقبل الرجل من الحمام ومعه جماعة كثيرة من كهول وشبان وحفدة وغلمان فسلم علي وسألني عن أمير المؤمنين فأخبرته وأنه بعافية فحمد الله تعالى ثم أحضرت له اطباق الفاكهة فقال تقدم يا منارة كل معنا فتأملت تأملا كثيرا إذ لم يكنني فقلت ما اكل فلم يعاودني ورأيت ما لم أره إلا في دار الخلافة ثم قدم الطعام فوالله ما رأيت أحسن ترتيبا ولا أعطر رائحة ولا أكثر انية منه فقال تقدم يا منارة فكل قلت ليس لي به حاجة فلم يعاودني ونظرت إلى أصحابي فلم أجد أحدا منهم عندي فحرت لكثرة حفدته وعدم من عندي فلما غسل يديه أحضر له البخور فتبخر ثم قام فصلى الظهر فأتم الركوع والسجود وأكثر من الركوع بعدها فلما فرغ استقبلني وقال ما أقدمك يا منارة فناولته كتاب أمير المؤمنين فقبله وضعه على رأسه ثم فضه وقرأه فلما فرغ من قراءته استدعى جميع بنيه وخواص أصحابه وغلمانه وسائر عياله فضاقت الدار بهم على سعتها فطار عقلي وما شككت أنه يريد القبض علي فقال الطلاق يلزمه والحج والعتق والصدقة وسائر إيمان البيعة لا يجتمع منكم اثنان في مكان واحد حتى ينكشف أمره ثم أوصاهم على الحريم ثم استقبلني وقدم رجليه وقال هات يا منارة قيودك فدعوت الحداد فقيده وحمل حتى وضع في المحمل وركبت معه في المحمل وسرنا فلما صرنا في ظاهر دمشق ابتدأ يحدثني بانبساط ويقول هذه الضيعة لي تعمل في كل سنة بكذا وكذا وهذا البستان لي وفيه من غرائب الأشجار وطيب الثمار كذا وكذا وهذه المزارع يحصل لي منها كل سنة كذا وكذا فقلت يا هذا ألست تعلم أن أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أنفذني خلفك وهو بالكوفة ينتظرك وأنت ذاهب إليه ما تدري ما تقدم عليه وقد أخرجتك من منزلك ومن بين أهلك ونعمتك وحيدا فريدا وأنت تحدثني حديثا غير مفيد ولا نافع لك ولا سألتك عنه وكان شغلك بنفسك أولى بك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون لقد أخطأت فراستي فيك يا منارة ما ظننت أنك عند الخليفة بهذه المكانة إلا لوفور عقلك فإذا أنت جاهل عامي لا تصلح لمخاطبة الخلفاء أما خروجي على ما ذكرت فإني على ثقة من ربي الذي بيده ناصيتي وناصية أمير المؤمنين فهو لا يضر ولا ينفع إلا بمشيئة الله تعالى فإن كان قد قضى علي بأمر فلا حيلة لي بدفعه ولا قدرة لي على منعه وإن لم يكن قد قدر علي بشيء فلو اجتمع أمير المؤمنين وسائر من على وجه الأرض على أن يضروني لم يستطيعوا ذلك إلا باذن الله تعالى وما لي ذنب فأخاف وإنما هذا واش وشى عند أمير المؤمنين ببهتان وأمير المؤمنين كامل العقل فإذا اطلع على براءتي فهو لا يستحل مضرتي وعلى عهد الله لا كلمتك بعدها إلا جوابا ثم أعرض عني وأقبل على التلاوة وما زال كذلك حتى وافينا الكوفة بكرة اليوم الثالث عشر وإذا النجب قد استقبلتنا من عند أمير المؤمنين تكشف عن أخبارنا فلما دخلت على الرشيد قبلت الأرض فقال هات يا منارة أخبرني من يوم خروجك عني إلى يوم قدومك علي فابتدأت أحدثه بأموري كلها مفصلة والغضب يظهر في وجهه فلما انتهيت إلى جمعه لأولاده وغلمانه وخواصه وضيق الدار بهم وتفقدي لأصحابي فلم أجد منهم أحدا أسود وجهه فلما ذكرت يمينه عليهم تلك الإيمان المغلظة تهلل وجهه فلما قلت إنه قدم رجليه أسفر وجهه واستبشر فلما أخبرته بحديثي معه في ضياعه وبساتينه وما قلت له وما قال لي هذا رجل محسود على نعمته ومكذوب عليه وقد أزعجناه وأرعبناه وشوشنا عليه وعلى أولاده وأهله أخرج إليه وانزع قيوده وفكه وأدخله علي مكرما ففعلت فلما دخل قبل الأرض فرحب به أمير المؤمنين وأجلسه واعتذر إليه فتكلم بكلام صحيح فقال له أمير المؤمنين سل حوائجك فقال سرعة رجوعي إلى بلدي وجمع شملي بأهلي ولدي قال هذا كائن فسل غيره قال عدل أمير المؤمنين في عماله ما أحوجني إلى سؤال قال فخلع عليه أمير المؤمنين ثم قال يا منارة اركب الساعة معه حتى ترده إلى المكان الذي أخذته منه قم في حفظ الله ودائعه ورعايته ولا تقطع أخبارك عنا وحوائجك فانظر حسن توكله على خالقه فإنه من توكل عليه كفاه ومن دعاه لباه ومن سأله أعطاه ما تمناه

              وروي أن هذه الكلمات وجدها كعب الأحبار مكتوبة في التوراة فكتبها وهي يا ابن ادم لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني باقيا وسلطاني لا ينفد أبدا يا ابن ادم لا تخش من ضيق الرزق ما دامت خزائني ملانة وخزائني لا تنفد أبدا يا ابن ادم لا تأنس بغيري وأنا لك فإن طلبتني وجدتني وإن أنست بغيرك فتك وفاتك الخير كله يا ابن ادم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وقسمت رزقك فلا تتعب وفي أكثر منه فلا تطمع ومن أقل منه فلا تجزع فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محمودا وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البر ولا ينالك منها إلا ما قد قسمته لك وكنت عندي مذموما يا ابن ادم خلقت السموات السبع والأرضين السبع ولم أعي بخلقهن أيعينني رغيف أسوقه لك من غير تعب يا ابن ادم أنا لك محب فبحقي عليك كن لي محبا يا ابن ادم لا تطالبني برزق غد كما لا أطالبك بعمل غد فإني لم أنس من عصاني فكيف من أطاعني وأنا على كل شيء قدير وبكل شيء محيط
              قال الشاعر:
              ( وما ثم إلا الله في كل حالة ... فلا تتكل يوما على غير لطفه )
              ( فكم حالة تأتي ويكرهها الفتى ... وخيرته فيها على رغم أنفه )
              ولمؤلفه رحمه الله تعالى:
              ( توكل على الرحمن في الأمر كله ... فما خاب حقا من عليه توكلا )
              ( وكن واثقا بالله واصبر لحكمه ... تفز بالذي ترجوه منه تفضلا )

              تعليق

              • نوران العلي
                V - I - P
                • Feb 2009
                • 3156

                المستطرف في كل فن مستظرف

                الفصل الثاني في القناعة والرضا بما قسم الله تعالى

                جاء في تفسير قوله تعالى ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) أن المراد بها القناعة وقال
                ( القناعة مال لا ينفذ ) وقيل يا رسول الله ما القناعة قال لا بأس مما في ايدي الناس وإياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر
                وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من القناعة بالجانب الأوفر وأنه كان يشتهي الشيء فيدافعه سنة قال الكندي:
                ( العبد حر ما قنع ... والحر عبد ما طمع )
                وقال بشر بن الحرث خرج فتى في طلب الرزق فبينما هو يمشي فأعيا فاوى إلى خراب يستريح فيه فبينما هو يدير بصره إذ وقعت عيناه على أسطر مكتوبة على حائط فتأملها فإذا هي:
                ( إني رأيتك قاعدا مستقبلي ... فعلمت أنك للهموم قرين )
                ( هون عليك وكن بربك واثقا ... فأخو التوكل شأنه التهوين )
                ( طرح الاذى عن نفسه في رزقه ... لما تيقن أنه مضمون )
                قال فرجع الفتى إلى بيته ولزم التوكل وقال اللهم أدبنا أنت قال الجاحظ إنما خالف الله تعالى بين طبائع الناس ليوفق بينهم في مصالحهم ولولا ذلك لاختاروا كلهم الملك والسياسة والتجارة والفلاحة وفي ذلك بطلان المصالح وذهاب المعايش فكل صنف من الناس مزين لهم ما هم فيه فالحائك إذا رأى من صاحبه تقصيرا أو خلفا قال ويلك يا حجام والحجام إذا رأى مثل ذلك من صاحبه قال ويلك يا حائك فجعل الله تعالى الاختلاف سببا للائتلاف فسبحانه من مدبر قادر حكيم ألا ترى إلى البدوي في بيت من قطعة خيش معمد بعظام الجيف كلبه معه في بيته لباسه شملة من وبر أو شعر ودواؤه بعر الإبل وطيبه القطران وبعر الظباء وحلى زوجته الودع وثماره المقل وصيده
                اليربوع وهو في مفازة لا يسمع فيها إلا صوت بومة وعواء ذئب وهو قانع بذلك مفتخر به
                وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه في القناعة فإنها مال لا ينفذ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر وعليك باليأس فإنك لم تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه
                وأصاب داود الطائي فاقه كبيرة فجاءه حماد بن أبي حنيفة رضي الله عنه بأربعمائة درهم من تركة أبيه وقال هي من مال رجل ما أقدم عليه أحد في زهده ورعه وطيب كسبه فقال لو كنت أقبل من أحد شيئا لقبلتها تعظيما للميت وإكراما للحي ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة
                وقال عيسى عليه الصلاة والسلام اتخذوا البيوت منازل والمساجد مساكن وكلوا من بقل البرية واشربوا من الماء القراح واخرجوا من الدنيا بسلام
                وأنشد المبرد:
                ( إن ضن زيد بما في بطن راحته ... فالأرض واسعة والرزق مبسوط )
                ( إن الذي قدر الأشيا بحكمته ... لم ينسني قاعدا والرحل محطوط )
                قال عبد الواحد بن زيد ما أحسب أن شيئا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا ولا أعلم درجة أرفع من الرضا وهو رأس المحبة قيل له متى يكون العبد راضيا عن ربه قال إذا سرته المصيبة كما تسره النعمة وكان عبد الله بن مرزوق من ندماء المهدي فسكر يوما ففاتته الصلاة جاءته جارية له بجمرة فوضعتها على رجله فانتبه مذعورا فقالت له إذا لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصبر على نار الاخرة فقام فصلى الصلوات وتصدق بما يملكه وذهب يبيع البقل فدخل
                عليه فضيل وابن عيينة فإذا تحت رأسه لبنة وما تحت جنبه شيء فقالا له إنه لم يدع أحد شيئا إلا عوضه الله منه بديلا فما عوضك عما تركت له قال الرضا بما أنا فيه
                وقال الثوري ما وضع أحد يده في قصعة غيره إلا ذل له وقال الفضيل من رضي بما قسم الله له بارك الله له فيه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يقول الشمس في الشتاء جلالي ونور القمر سراجي وبقل البرية فاكهتي وشعر الغنم لباسي أبيت حيث يدركني الليل ليس لي ولد يموت ولا بيت يخرب أنا الذي كببت الدنيا على وجهها
                بيت مفرد:
                ( إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في ظلها هما يؤرقه )
                وقال عيسى عليه الصلاة والسلام أنظروا إلى الطير تغدو وتروح ليس معها شيء من أرزاقها لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها فإن زعمتم أنكم أكبر بطونا من الطير فهذه الوحوش والبقر والحمر لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها وقيل وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلته فقال له القائل:
                ( لقد علمت وما الاسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني )
                ( أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو قعدت أتاني ليس يعييني )
                وقد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق فقال يا أمير المؤمنين لقد وعظت فأبلغت وخرج فركب ناقته وكر إلى الحجاز راجعا فلما كان من الليل نام هشام على فراشه فذكر عروة فقال في نفسه رجل قريش قال حكمة وفد علي فجبهته ورددته خائبا فلما أصبح وجد إليه بألفي دينار فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة وأعطاه المال فقال أبلغ امير المؤمنين مني السلام وقل له كيف رأيت قولي سعيت فأكديت فرجعت فأتاني رزقي في منزلي ولما ولي عبد الله
                ابن عامر العراق قصده صديقان له أنصاري وثقفي فلما سارا تخلف الأنصاري وقال الذي أعطى ابن عامر العراق قادر على أن يعطيني فوفد الثقفي وقال أحوز الحظين فلما دخل على عبد الله بن عامر قال له ما فعل زميلك الأنصاري قال رجع إلى أهله فأمر للثقفي بأربعة الاف دينار فخرج الثقفي وهو يقول:
                ( فوالله ما حرص الحريص بنافع ... فيغني ولا زهد القنوع بضائر )
                ( خرجنا جميعا من مساقط روسنا ... على ثقة منا بجود ابن عامر )
                ( فلما أنخنا الناجعات ببابه ... تخلف عني اليثربي ابن جابر )
                ( وقال ستكفيني عطية قادر ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر )
                ( فإن الذي أعطى العراق ابن عامر ... لربي الذي أرجو لسد مفاقري )
                ( فقلت خلالي وجهه ولعله ... سيجعل لي حظ الفتى المتزاور )
                ( فلما راني سال عنه صبابة ... إليه كما حنت ظؤار الأباعر )
                ( فأبت وقد أيقنت أن ليس نافعا ... ولا ضائرا شيء خلاف المقادر )
                قيل أوحى الله تعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه أتدري لم رزقت الأحمق قال لا يا رب قال ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال ولبعض العرب:
                ( ولا تجزع إذا أعسرت يوما ... فقد أيسرت في الزمن الطويل )
                ( ولا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل )
                ( وإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كل قيل )
                ( فلو أن العقول تسوق رزقا ... لكان المال عند ذوي العقول )
                وأوحى الله تعالى إلى يوسف عليه الصلاة والسلام انظر إلى الأرض فنظر إليها فانفجرت فرأى دودة على صخرة ومعها الطعام فقال له أتراني لم أغفل عنها وأغفل عنك وأنت نبي وابن نبي
                ودخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد أمسك علي بغلتي فأخذ الرجل لجامها ومضى وترك البغلة فخرج علي وفي يده درهمان ليكافىء بها الرجل على إمساكه بغلته فوجد البغلة واقفة بغير لجام فركبها ومضى ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاما فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين فقال علي رضي الله عنه أن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ولا يزداد على ما قدر له
                وقيل لراهب من أين تأكل فأشار إلى فيه وقال الذي خلق هذه الرحى يأتيها بالطحين وقال سليم بن المهاجر الجيلي:
                ( كسوت جميل الصبر وجهي فصانه ... به الله عن غشيان كل بخيل )
                ( فما عشت لم ات البخيل ولم أقم ... على بابه يوما مقام ذليل )
                ( وإن قليلا يستر الوجه أن يرى ... إلى الناس مبذولا لغير قليل )
                وصلى معروف الكرخي خلف إمام فلما فرغ من صلاته قال الإمام لمعروف من أين تأكل قال أصبر حتى أعيد صلاتي التي صليتها خلفك قال ولم قال لأن من شك في رزقه شك في خالقه وقال أبو حازم ما لم يكتب لي لو ركبت الريح ما أدركته وقال عمر بن أبي عمر اليوناني:
                ( غلا السعر في بغداد من بعد رخصة ... وأني في الحالين بالله واثق )
                ( فلست أخاف الضيق والله واسع ... غناه ولا الحرمان والله رازق )
                وقال القهستاني:
                ( غني بلا دنيا عن الخلق كلهم ... وأن الغنى الأعلى عن الشيء لا به )
                وقال منصور الفقيه:
                ( الموت أسهل عندي ... بين القنا والأسنة )
                ( والخيل تجري سراعا ... مقطعات الأعنة )
                ( من ان يكون لنذل ... علي فضل ومنه )
                وأنشد أعرابي:
                ( أيا مالك لا تسأل الناس والتمس ... بكفيك فضل الله فالله أوسع )
                ( ولو تسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا )
                وقال رجل لرسول الله أوصني قال عليك باليأس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه فقر حاضر وقيل إذا وجدت الشيء في السوق فلا تطلبه من صديقك وقيل لأعرابية من أين معاشكم قالت لو لم نعش إلا من حيث نعلم لم نعش وقال أعرابي أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك ولا يحقرك معها من فوقك
                وقال المعري:
                ( إذا كنت تبغي العيش فابغ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاول )
                ( توقى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل )
                وقال اخر:
                ( اقنع بأيسر رزق أنت نائله ... واحذر ولا تتعرض للإرادات )
                ( فما صفا البحر إلا وهو منتقص ... ولا تعكر إلا في الزيادات )
                وقال أعرابي استظهر على الدهر بخفة الظهر قال هشام بن إبراهيم البصري:
                ( وكم ملك جانبته عن كراهة ... لإغلاق باب أو لتشديد حاجب )
                ( ولي في غنى نفسي مراد ومذهب ... إذا انصرفت عني وجوه المذاهب )
                وقيل ينبغي أن يكون المرء في دنياه كالمدعو إلى الوليمة أن أتته صحفة تناولها وإن لم تأته لم يرصدها ولم يطلبها وقال شقيق بن إبراهيم البلخي قال لي إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أخبرني عما أنت عليه قلت إن رزقت أكلت وإن منعت صبرت قال هكذا تعمل كلاب بلخ فقلت كيف تعمل أنت قال أن رزقت اثرت وان منعت شكرت وقال بعضهم:
                ( هي القناعة فالزمها تعش ملكا ... لو لم يكن منك إلا راحة البدن )
                ( وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن )
                وقال اخر:
                ( وإن القناعة كنز الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك )
                ( فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني له منهمك )
                ( فصرت غنيا بلا درهم ... أمر على الناس شبه الملك )
                جاء فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة فلم يجد عندهم شيئا للعشاء وجدهم بغير سراج فجلس ليلته يبكي من الفرح ويقول بأي يد كانت مني تركت مثلي على هذه الحالة

                والله تعالى أعلم

                تعليق

                • نوران العلي
                  V - I - P
                  • Feb 2009
                  • 3156

                  المستطرف في كل فن مستظرف

                  يتبع
                  الباب العاشر في التوكل على الله تعالى

                  الفصل الثالث
                  في ذم الحرص والطمع وطول الأمل

                  قال الله تعالى ( الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر )
                  وروي أن النبي قرأ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر قال يقول إبن ادم مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ولبست فأبليت وتصدقت فأمضيت
                  وروي عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال يا عائشةإن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه
                  وروي عن رسول الله أنه قال صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين وهلاك اخر هذه الأمة بالبخل والأمل وقيل الحرص ينقص من قدر الإنسان ولا يزيد في رزقه وقيل لحكيم ما بال الشيخ أحرص على الدنيا من الشاب قال لأنه ذاق من طعم الدنيا ما لم يذقه الشاب وما أحسن ما قال بعضهم:
                  ( إذا طاوعت حرصك كنت عبدا ... لكل دنيئة تدعى إليها )
                  وقال اخر وأجاد:
                  ( قد شاب رأسي ورأس الدهر لم يشب ... إن الحريص على الدنيا لفي تعب )
                  وقيل للاسكندر ما سرور الدنيا قال الرضا بما رزقت منها قيل فما غمها قال الحرص عليها
                  وقال الحسن لو رأيت الأجل ومروره لنسيت الأمل وغروره
                  وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إشتري أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله يقول ألا تعجبون من أسامة إشترى إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل
                  وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان نبي الله يخرج فيبول ثم يمسح بالتراب فأقول إن الماء منك قريب فيقول ما يدريني لعلى ما أبلغه وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه لا يزال الكبير شابا في اثنين حب المال وطول الأمل وقيل لمحمد بن واسع كيف تجدك قال قصير الأجل طويل الأمل مسيء العمل وقيل من جرى في عنان أمله كان عاثرا بأجله لو ظهرت الاجال لافتضحت الامال ولقد أحسن أبو العباس أحمد بن مروان في قوله:
                  ( وذي حرص تراه يلم وفرا ... لوارثه ويدفع عن حماه )
                  ( ككلب الصيد يمسك وهو طاو ... فريسته ليأكلها سواه )
                  ولقد أحسن من قال في الجناس الحقيقي
                  ( إذا ما نازعتك النفس حرصا ... فأمسكها عن الشهوات أمسك )
                  ( ولا تحرص ليوم أنت فيه ... وعد فرزق يومك رزق أمسك )
                  ومن كلام الحكماء إياكم وطول الأمل فإن من ألهاه أمله أخزاه عمله قال عبد الصمد بن المعدل:
                  ( ولي أمل قطعت به الليالي ... أراني قد فنيت به وداما )
                  قال الحسن إياكم وهذه الأماني فانه لم يعط أحد بالأمنية خيرا قط في الدنيا ولا في الاخرة
                  وقال قس بن ساعدة:
                  ( وما قد تولى فهو لا شك فائت ... فهل ينفعني ليتني ولعلني )
                  وقال اخر:
                  ( ولا تتعلل بالأماني فإنها ... عطايا أحاديث النفوس الكواذب )
                  وقال اخر وأجاد:
                  ( الله أصدق والامال كاذبة ... وجل هذي المنى في الصدر وسواس )
                  وقال اخر:
                  ( شط المزار بسعدي وانتهى الأمل ... فلا خيال ولا رسم ولا طلل )
                  ( إلا رجاء فما ندري أندركه ... أم يستمر فيأتي دونه الأجل )
                  وقال أبو العتاهية:
                  ( لقد لعبت وجد الموت في طلبي ... وأن في الموت لي شغلا عن اللعب )
                  ( ولو سمت فكرتي فيما خلقت له ... ما اشتد حرصي على الدنيا ولا طلبي )
                  وله أيضا:
                  ( تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال )
                  ( هب الدنيا تقاد إليك عفوا ... أليس مصير ذلك للزوال )
                  وقد ضمنت البيت الأخير فقلت:
                  ( أيا من عاش في الدنيا طويلا ... وأفنى العمر في قيل وقال )
                  ( وأتعب نفسه فيما سيفنى ... وجمع من حرام أو حلال )
                  ( هب الدنيا تقاد إليك عفوا ... أليس مصير ذلك للزوال )
                  ومما جاء في الطمع وذمه
                  قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أكثرهم مصارع العقول تحت بروق المطامع وقال رضي الله عنه ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع
                  وفي الحديث إياك والطمع فإنه الفقر الحاضر وقال فيلسوف العبيد ثلاثة عبد رق وعبد شهوة وعبد طمع وقال بعضهم من أراد أن يعيش حرا أيام حياته فلا يسكن قلبه الطمع
                  وقيل اجتمع كعب وعبد الله بن سلام فقال له كعب يا ابن سلام من أرباب العلم قال الذين يعملون به قال فما أذهب العلم عن قلوب العلماء بعد أن علموه قال الطمع وشره النفس وطلب الحوائج إلى الناس
                  واجتمع الفضل وسفيان وابن كريمة اليربوعي فتواصوا ثم افترقوا وهم مجمعون على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الطمع وقيل لما خلق الله ادم عليه السلام عجن بطينته ثلاثة أشياء الحرص والطمع والحسد فهي تجري في أولاده إلى يوم القيامة فالعاقل يخفيها والجاهل يبديها ومعناه أن الله تعالى خلق شهوتها فيه قال إسماعيل بن قطري القراطيسي:
                  ( حسبي بعلمي إن نفع ... ما الذل إلا في الطمع )
                  ( من راقب الله نزع ... عن سوء ما كان صنع )
                  ( ما طار طير وارتفع ... إلا كما طار وقع )
                  وقال سابق البربري:
                  ( يخادع ريب الدهر عن نفسه الفتى ... سفاها وريب الدهر عنها يخادعه )
                  ( ويطمع في سوف ويهلك دونها ... وكم من حريص أهلكته مطامعه )
                  وقيل لأشعب ما بلغ من طمعك قال أرى دخان جاري فأفت خبزي وقال أيضا ما رأيت رجلين يتساران في جنازة إلا قدرت أن الميت أوصى لي بشيء من ماله وما زفت عروس إلا كنست بيتي رجاء أن يغلطوا فيدخلوا بها إلي
                  قال بعضهم:
                  ( لا تغضبن على امرىء ... لك مانع ما في يديه )
                  ( واغضب على الطمع الذي ... استدعاك تطلب ما لديه )
                  والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
                  ...

                  تعليق

                  • نوران العلي
                    V - I - P
                    • Feb 2009
                    • 3156

                    المستطرف في كل فن مستظرف

                    الباب الحادي عشر في المشورة والنصحية والتجارب والنظر في العواقب:-

                    قال الله تعالى لنبيه ( وشاورهم في الأمر ) واختلف أهل التأويل في أمره بالمشاورة مع ما أمده الله تعالى من التوفيق على ثلاثة أوجه أحدها أنه أمره بها في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيعمل عليه وهذا قول الحسن ثانيها أنه امره بالمشاورة لما علم فيها من الفضل وهذا قول الضحاك ثالثها أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون وإن كان في غنية عن مشورتهم وهذا قول سفيان وقال ابن عيينة كان رسول الله إذا أراد أمرا شاور فيه الرجال وكيف يحتاج إلى مشاورة المخلوقين من الخالق مدبر أمره ولكنه تعليم منه ليشاور الرجل الناس وإن كان عالما وقال عليه الصلاة والسلام ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا افتقر من اقتصد وقال عليه الصلاة والسلام من أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل وكان يقال ما استنبط الصواب بمثل المشاورة وقال حكيم المشورة موكل بها التوفيق لصواب الرأي
                    وقال الحسن الناس ثلاثة فرجل رجل ورجل نصف رجل ورجل لا رجل فأما الرجل الرجل فذو الرأي والمشورة وأما الرجل الذي هو نصف رجل فالذي له رأي ولا يشاور وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي ليس له رأي ولا يشاور
                    وقال المنصور لولده خذ عني اثنتين لا تقل في غير تفكير ولا تعمل بغير تدبير وقال الفضل المشورة فيها بركة وإني لأستشير حتى هذه الحبشية الأعجمية وقال أعرابي لا مال أوفر من العقل ولا فقر أعظم من الجهل ولا ظهر أقوى من المشورة وقيل من بدأ بالاستخارة وثنى يالاستشارة فحقيق أن لا يخيب رأيه وقيل الرأي السديد أحمى من البطل الشديد
                    قال أبو القاسم النهروندي:
                    ( وما ألف مطر ورالسنان مسدد ... يعارض يوم الروع رأيا مسددا )
                    وقال علي رضي الله عنه خاطر من استغنى برأيه وسمع محمد ابن داود وزير المأمون قول القائل:
                    ( إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن يترددا )
                    فأضاف إليه قوله:
                    ( وإن كنت ذا عزم فانفذه عاجلا ... فإن فساد العزم أن يتقيدا )
                    ولمحمد بن إدريس الطائي:
                    ( ذهب الصواب برأيه فكأنما ... اراؤه اشتقت من التأييد )
                    ( فإذا دجا خطب تبلج رأيه ... صبحا من التوفيق والتسديد )
                    ولمحمد الوراق:
                    ( إن اللبيب إذا تفرق أمره ... فتق الأمور مناظرا ومشاورا )
                    ( وأخو الجهالة يستبد برأيه ... فتراه يعتسف الأمور مخاطرا )
                    وقال الرشيد حين بدا له تقديم الأمين على المأمون في العهد
                    ( لقد بان وجه الرأي لي غير أنني ... عدلت عن الأمر الذي كان أحزما )
                    ( فكيف يرد الدر في الضرع بعدما ... توزع حتى صار نهبا مقسما )
                    ( أخاف التواء الأمر بعد استوئه ... وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما )
                    وقال اخر:
                    ( خليلي ليس الرأي في جنب واحد ... أشيرا علي اليوم ما تريان )
                    وصف رجل عضد الدولة فقال له وجه فيه ألف عين وفم فيه ألف لسان وصدر فيه ألف قلب وقال أردشير بن بابك أربعة تحتاج إلى أربعة الحسب إلى الأدب والسرور إلى الأمن والقرابة إلى المودة والعقل إلى التجربة وقال لا تستحقر الرأي الجزيل من الرجل الحقير فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها وقال جعفر بن محمد لا تكونن أول مشير وإياك الرأي الخطير وتجنب ارتجال الكلام ولا تشيرن على مستبد برأيه ولا على متلون ولا على لحوح وقيل ينبغي أن يكون المستشار صحيح العلم مهذب الرأي فليس كل عالم يعرف الرأي الصائب وكم ناقد في شيء ضعيف في غيره
                    قال ابو الأسود الدؤلي:
                    ( وما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤت نصحه بلبيب )
                    ( ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب )
                    وكان اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على أمر يستشيرونهم فيه وإنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الاخر به لمعان شتى منها لئلا يقع بين المستشارين منافسة فتذهب إصابة الرأي لأن من طباع المشتركين في الأمر التنافس والطعن من بعضهم في بعض وربما سبق احدهم بالرأي الصواب فحسدوه وعارضوه وفي اجتماعهم أيضا للمشورة تعريض السر للإذاعة فإذا كان كذلك وأذيع السر لم يقدر الملك على مقابلة من أذاعه للابهام فإن عاقب الكل عاقبهم بذنب واحد وإن عفا عنهم ألحق الجاني بمن لا ذنب له وقيل إذا أشار عليك صاحبك برأي ولم تحمد عاقبته فلا تجعلن ذلك عليه لوما وعتابا بأن تقول أنت فعلت وأنت أمرتني ولولا أنت فهذا كله ضجر ولوم وخفة
                    وقال أفلاطون إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة لأنه بالاستشارة قد خرج عن عداوتك إلى موالاتك وقيل من بذل نصحه واجتهاده لمن لا يشكره فهو كمن بذر في السباخ
                    قال الشاعر يمدح من له رأي وبصيرة:
                    ( بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه )
                    وقال ابن المعتز المشورة راحة لك وتعب على غيرك وقال الأحنف لا تشاور الجائع حتى يشبع ولا العطشان حتى يروى ولا الأسير حتى يطلق ولا المقل حتى يجد
                    ولما أراد نوح بن مريم قاضي مروان أن يزوج ابنته استشار جارا له مجوسيا فقال سبحان الله الناس يستفتونك وأنك تستفتيني قال لا بد أن تشير علي قال إن رئيس الفرس كسرى كان يختار المال ورئيس الروم قيصر كان يختار الجمال ورئيس العرب كان يختار الحسب ورئيسكم محمد كان يختار الدين فانظر لنفسك بمن تقتدي وكان يقال من أعطى أربعا لم يمنع أربعا من أعطى الشكر لم يمنع المزيد ومن أعطى التوبة لم يمنع القبول ومن أعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب وقيل إذا استخار الرجل ربه واستشار صحبه وأجهد رأيه فقد قضى ما عليه ويقضي الله تعالى في امره ما يحب وقال بعضهم خمير الرأي خير من فطيره وتقديمه خير من تأخيره وقالت الحكماء لا تشاور معلما ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء ولا صاحب حاجة يريد قضاءها ولا خائفا ولا حاقنا وقيل سبعة لا ينبغي لصاحب أن يشاورهم جاهل وعدو وحسود ومراء وجبان وبخيل وذو هوى فان الجاهل يضل والعدو يريد الهلاك والحسود يتمنى زوال النعمة والمرائي واقف مع رضا الناس والجبان من رأيه الهرب والبخيل حريص على جمع المال فلا رأي له في غيره وذو الهوى أسير هواه فلا يقدر على مخالفته
                    وحكي أن رجلا من أهل يثرب يعرف بالأسلمي قال ركبني دين أثقل كاهلي وطالبني به مستحقوه واشتدت حاجتي إلى ما لا بد منه وضاقت علي الأرض ولم أهتد إلى ما أصنع فشاورت من أثق به من ذوي المودة والرأي فأشار علي بقصد المهلب بن أبي صفرة بالعراق فقلت له تمنعني المشقة وبعد الشقة وتيه المهلب ثم إني عدلت عن ذلك المشير إلى استشارة غيره فلا والله ما زادني على ما ذكره الصديق الأول فرأيت أن قبول المشورة خير من مخالفتها فركبت ناقتي وصحبت رفقة في الطريق وقصدت العراق فلما وصلت دخلت على المهلب فسلمت عليه وقلت له أصلح الله الأمير إني قطعت إليك الدهنا وضربت أكباد الأبل من يثرب فانه أشار علي بعض ذوي الحجى والرأي بقصدك لقضاء حاجتي فقال هل أتيتنا بوسيلة أو بقرابة وعشيرة فقلت لا ولكني رأيتك أهلا لقضاء حاجتي فان قمت بها فأهل لذلك أنت وأن يحل دونها حائل لم أذم يومك ولم أيأس من غدك فقال المهلب لحاجبه اذهب به وادفع إليه ما في خزانة ما لنا الساعة فأخذني معه فوجدت في خزانته ثمانين ألف درهم فدفعها إلي فلما رأيت ذلك لم أملك نفسي فرحا وسرورا ثم عاد الحاجب به إليه مسرعا فقال هل ما وصلك يقوم بقضاء حاجتك فقلت نعم أيها الأمير وزيادة فقال الحمد لله على نجح سعيك واجتنائك جني مشورتك وتحقق ظن من أشار عليك بقصدنا قال الأسلمي فلما سمعت كلامه وقد أحرزت صلته أنشدته وأنا واقف بين يديه:
                    ( يا من على الجود صاغ الله راحته ... فليس يحسن غير البذل والجود )
                    ( عمت عطاياك أهل الأرض قاطبة ... فأنت والجود منحوتان من عود )
                    ( من استشار فباب النجح منفتح ... لديه فيما ابتغاه غير مردود )
                    ثم عدت إلى المدينة فقضيت ديني وسعت على أهلي وجازيت المشير علي وعاهدت الله تعالى أن لا أترك الاستشارة في جميع أموري ما عشت
                    وحكي عن الخليفة المنصور أنه كان صدر من عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس أمور مؤلمة لا تحتملها حراسة الخلافة ولا تتجاوز عنها سياسة الملك فحبسه عنده ثم بلغه عن ابن عمه عيسى بن موسى ابن علي وكان واليا على الكوفة ما أفسد عقيدته فيه وأوحشه منه وصرف وجه ميله إليه عنه فتألم المنصور من ذلك وساء ظنه وتأرق جفنه وقل أمنه وتزايد خوفه وحزنه فأدته فكرته إلى أمر دبره وكتمه عن جميع حاشيته وستره واستحضر ابن عمه عيسى ابن موسى وأجراه على عادة إكرامه ثم أخرج من كان بحضرته وأقبل على عيسى وقال له يا ابن العم إني مطلعك على أمر لا أجد غيرك من أهله ولا أرى سواك مساعدا لي على حمل ثقله فهل أنت في موضع ظني بك وعامل ما فيه بقاء نعمتك التي هي منوطة ببقاء ملكي فقال له عيسى بن موسى أنا عبد أمير المؤمنين ونفسي طوع أمره ونهيه فقال إن عمي وعمك عبد الله قد فسدت بطانته واعتمد على ما بعضه يبيح دمه وفي قتله صلاح ملكنا فخذه إليك واقتله سرا ثم سلمه إليه وعزم المنصور على الحج مضمرا أن ابن عمه عيسى إذا قتل عمه عبد الله ألزمه القصاص وسلمه إلى أعمامه أخوة عبد الله ليقتلوه به قصاصا فيكون قد استراح من الاثنين عبد الله وعيسى قال عيسى فلما أخذت عمي وفكرت في قتله رأيت من الرأي أن أشاور في قضيته من له رأي عسى أن أصيب الصواب في ذلك فأحضرت يونس ابن قرة الكاتب وكان لي حسن ظن في رأيه وعقيدة صالحة في معروفته فقلت له إن أمير المؤمنين دفع إلي عمه عبد الله وأمرني بقتله وإخفاء امره فما رأيك في ذلك وما تشير به فقال لي يونس أيها الأمير احفظ نفسك يحفظ عمك وعم أمير المؤمنين فإني أرى لك أن تدخله في مكان داخل دارك وتكتم أمره عن كل أحد ممن عندك وتتولى بنفسك حمل طعامه وشرابه إليه وتجعل دونه مغالق وأبوابا وأظهر لأمير المؤمنين أنك قتلته وأنفذت أمره فيه وانتهيت إلى العمل بطاعته فكأني به إذا تحقق منك أنك فعلت ما أمرك به وقتلت عمه أمرك باحضاره على رؤوس الأشهاد فان اعترفت أنك قتلته بأمره أنكر أمره لك واخذك بقتله وقتلك قال عيسى بن موسى فقبلت مشورة يونس وعملت بها وأظهرت لأمير المؤمنين إني أنفذت أمره ثم حج المنصور فلما قدم من حجه وقد استقر في نفسه أنني قد قتلت عمه عبد الله دس إلي عمومته أخوة عبد الله وحثهم على أن يسألوه في أخيهم ويستوهبوه منه فجاؤا إليه وقد جلس والناس بين يديه على مراتبهم فسألوه في عبد الله فقال نعم إن حقوقكم تقتضي إسعافكم بحاجتكم كيف وفيها صلة رحم وإحسان إلى من هو في مقام الوالد ثم أمر باحضار عيسى بن موسى فاحضر لوقته فقال يا عيسى كنت دفعت إليك قبل خروجي إلى الحج عمي عبد الله ليكون عندك في منزلك إلى حين رجوعي فقال عيسى قد فعلت يا أمير المؤمنين فقال المنصور وقد سألني فيه عمومتك وقد رأيت الصفح عنه وقضاء حاجتهم وصلة الرحم باجابة سؤالهم فيه فائتنا به الساعة قال عيسى فقلت يا أمير المؤمنين ألم تأمرني بقتله والمبادرة إلى ذلك قال كذبت لم امرك بذلك ولو أردت قتله لأسلمته إلى من هو بصدد ذلك ثم أظهر الغيظ وقال لعمومته قد أقر بقتل أخيكم مدعيا أنني أمرته بقتله وقد كذب علي قالوا يا أمير المؤمنين فادفعه إلينا لنقتله به ونقتص منه فقال شأنكم به قال عيسى فأخذوني إلى الرحة واجتمع الناس علي فقام واحد من عمومتي إلي وسل سيفه ليضربني به فقلت له يا عم افاعل أنت قال أي والله كيف لا أقتلك وقد قتلت أخي فقال لهم لا تعجلوا وردوني إلى أمير المؤمنين فردوني إليه فقلت يا أمير المؤمنين إنما أردت قتلي بقتله والذي دبرته علي عصمني الله تعالى من فعله وهذا عمك باق حي سوي فإن أمرتني بدفعه إليهم دفعته الساعة فأطرق المنصور وعلم أن ريح فكره صادفت إعصارا وأن انفراده بتدبيره قارف خسارا ثم رفع رأسه وقال ائتنا به فمضى عيسى وأحضر عبد الله فلما راه المنصور قال لعمومته اتركوه عندي وانصرفوا حتى أرى فيه رأيا قال عيسى فتركته وانصرفت وانصرف إخوته فسلمت روحي وزالت كربتي وكان ذلك ببركة الاستشارة بيونس وقبول مشورته والعمل بها ثم إن المنصور أسكن عبد الله في بيت أساسه قد بني على الملح ثم أرسل الماء حوله ليلا فذاب الملح وسقط البيت فمات عبد الله ودفن بمقابر باب الشام وسلم عيسى من هذه المكيدة ومن سهام مراميها البعيدة

                    تعليق

                    • نوران العلي
                      V - I - P
                      • Feb 2009
                      • 3156

                      المستطرف في كل فن مستظرف

                      يتبع
                      الباب الحادي عشر في المشورة والنصحية والتجارب والنظر في العواقب:-

                      ومما جاء في النصيحة
                      اعلموا أن النصيحة للمسلمين وللخلائق أجمعين من سنن المرسلين قال الله تعالى إخبارا عن نوح عليه الصلاة والسلام ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغريكم هو ربكم وإليه ترجعون ) وقال شعيب عليه السلام ( ونصحت لكم فكيف اسى على قوم كافرين ) وقال صالح عليه السلام ( ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين )
                      وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال ( إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم

                      فالنصح لله هو وصفه بما هو أهله وتنزيهه عما ليس له بأهل والقيام بتعظيمه والخضوع له ظاهرا وباطنا والرغبة في محابه والبعد عن مساخطه وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه والجهاد في رد العصاة إلى طاعته قولا وفعلا والنصيحة لكتابه إقامته في التلاوة وتحسينه عند القراءة وتفهم ما فيه والذب عنه من تأويل المحدثين وطعن الطاعنين وتعليم ما فيه للخلائق أجمعين قال الله تعالى ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا اياته ولنتذكر أولو الألباب ) والنصيحة للرسول عليه السلام إحياء سنته بالطلب لها وإحياء طريقته في بث الدعوى وتأليف الكلمة والتخلق بالأخلاق الطاهرة والنصيحة للأئمة معاونتهم على ما كلفوا القيام به بتنبيههم عند الغفلة وإرشادهم عند الهفوة وتعليمهم ما جهلوا وتحذيرهم ممن يريد بهم السوء وإعلامهم بأخلاق عمالهم وسيرتهم في الرعية وسد خلتهم عند الحاجة ورد القلوب النافرة إليهم والنصيحة العامة للمسلمين الشفقة عليهم وتوقير كبيرهم والرحمة لصغيرهم وتفريج كربهم وتوقي ما يشغل خواطرهم ويفتح باب الوسواس عليهم
                      واعلم أن جرعة النصيحة مرة لا يقبلها إلا أولو العزم وقال ميمون بن مهران قال لي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قل لي في وجهي ما أكره فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره وفي منثور الحكم ودك من نصحك وقلاك من مشى في هواك وقال أبو الدرداء رضي الله عنه إن شئتم لأنصحن لكم إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحبون الله تعالى إلى عباده ويعملون في الأرض نصحا
                      ولورقة بن نوفل:
                      ( لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... إني النذير فلا يغرركم أحد )
                      ( لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... إلا الإله ويردى المال والولد )
                      ( لم تغن عن هرمز يوما ذخائره ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا )
                      وقال بعض الخلفاء لجرير بن يزيد إني قد أعددتك لأمر قال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد أعد لك مني قلبا معقودا بنصيحتك ويدا مبسوطة لطاعتك وسيفا مجردا على عدوك
                      وأنشد الأصمعي:
                      ( النصح أرخص ما باع الرجال فلا ... تردد على ناصح نصحا ولا تلم )
                      ( إن النصائح لا تخفى مناهلها ... على الرجال ذوي الألباب والفهم )
                      ولمعاذ بن مسلم:
                      ( نصحتك والنصحية إن تعدت ... هوى المنصوح عز لها القبول )
                      ( فخالفت الذي لك فيه حظ ... فنالك دون ما أملت غول )
                      وقيل أشار فيروز بن حصين على يزيد بن المهلب أن لا يضع يده في يد الحجاج فلم يقبل منه وسار إليه فحبسه وحبس أهله فقال فيروز:
                      ( أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما )
                      ( أمرتك بالحجاج إذ أنت قادر ... فنفسك أولى اللوم إن كنت لائما )
                      ( فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما )
                      ويقال من اصفر وجهه من النصيحة اسود لونه من الفضيحة وقال طرفة
                      ( ولا ترفدن النصح من ليس أهله ... وكن حين تستغني برأيك غانيا )
                      ( وإن امرأ يوما تولى برأيه ... فدعه يصيب الرشد أو يك غاويا )
                      وفي مثله قال بعضهم:
                      ( من الناس من أن يستشرك فتجتهد ... له الرأي يستغششك ما لم تتابعه )
                      ( فلا تمتحن الرأي من ليس أهله ... فلا أنت محمود ولا الرأي نافعه )
                      والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

                      ////

                      تعليق

                      google Ad Widget

                      تقليص
                      يعمل...