رد: رواية انت لي [ رائعه فعلا ] مكتمله ,
قطعت المسافة في زمن قياسي، و حين وصلت أخيرا إلى الشقة، قرعت الباب بشكل متواصل إلى أن فتحه أخي أخيرا...
من النظرة الأولى إلى وجهه أدركت أن الموضوع أخطر مما تصورت.. كانت عيناه حمراوان و جفونه وارمة ، و وجهه شديد الكابة... و السواد أيضا...
منظره أوقع قلبي تحت قدمي في الحال...
و قبل أي كلمة أخرى هتفت مفزوعا :
" أين رغد ؟؟ "
و ركضت إلى الداخل مسرعا و أنا أنادي :
" رغد ... رغد ... "
و حين بلغت غرفتها طرقت الباب بقوة... و أنا أهتف بفزع...
" رغد... أأنت هنا ؟ "
فتح الباب و ظهرت رغد .. و ما أن وقعت أعيننا على بعضها البعض حتى كدت أخر صريعا..
" رغد ! "
" وليد ... "
" أنت بخير صغيرتي ؟؟ أنت بخير ؟؟ "
انفجرت رغد باكية بقوة ، التفت إلى الوراء فإذا بسامر يقف خلفي ، هتفت :
" ماذا حصل ؟ "
رغد ازداد بكاؤها ..
قلت منفعلا :
" أخبراني ماذا حدث ؟؟ "
و نظرت إلى سامر في انتظار ما سيقول ...
سامر حرك شفتاه و قال أخيرا :
" أصيب والدانا في الغارة على الحدود"
صعقت ، شهقت :
" ماذا ؟؟ "
طأطأ سامر رأسه للأسفل ، فقلت بسرعة :
" سامر ؟؟ "
لم يرفع عينيه في البداية، إلا أنه حين رفعهما كانتا غارقتين في الدموع، و قال أخيرا :
" قتلوهما.."
شهر كامل قد مضى، و أنا مقيم مع أخي و رغد في هذه الشقة... نسبح في بحر الدموع و الألم...
لا يقوى أحدنا حتى على النهوض من المقعد الذي يجلس عليه... أسوأ اللحظات.. كانت تلك اللحظات التي رأيت فيه رغد تلطم وجهها و تصرخ و تنوح و تصيح...
" لماذا كتب علي أن أيتم مرتين؟؟ من بقي لي بعدهما؟؟ أريد أن ألحق بهما.. أمي .. أبي .. أنا مدللتكما العزيزة.. كيف تفعلان هذا بي ؟؟ كيف تتركاني يتيمة من جديد؟ و أنا في أمس الحاجة إليكما.. ليتني مت منذ صغري..ليتني احترقت مع المنزل و لم أعش هذا اليوم... وا حسرتاه"
كانت تجول في الشقة و تصرخ و تنادي كالمجنونة.. و تصفع رأسها بأي شيء تصادفه في طريقها..
و كنت أمشي خلفها، محاولا تهدئتها و مواساتها ، بينما أنا الأكثر حاجة للمواساة..
أبعد حرماني منهما لثمان سنين.. ثمان سنين كان من الممكن أن أقضيها تحت رعايتهما و حبهما.. اللذين مهما كبرت سأبقى بحاجة إليهما، أفقدهما بهذا الشكل؟؟
حينما أتذكر يوم وداعهما...
اه يا أمي.. و يا أبي..
لو كنت أعرف أنه اللقاء الأخير.. ما كنت تركتكما تخرجان...
أتذكر وصايا أمي... (اعتني بشقيقتيك جيدا لحين عودتنا).. أماه.. هاأنا قد اعتنيت بهما و إن قصرت.. فأين عودتك ؟؟
لو كنت أعلم أنه اخر العهد لي بكما... ما فارقتكما لحظة واحدة حتى أموت دونكما أو معكما..
لكنه قضاء الله.. و مشيئة الله..
يا رب.. فكما جاءاك ملبيين طائفين حول بيتك المشرف، يا رب فأكرمهما بنعيم الجنة التي وعدت بها عبادك المؤمنين...
و لا حول و لا قوة إلا بالله...
شهر كامل قد انقضى و لم تتحسن أحوالنا النفسية شيئا يذكر..
و هل يمكن أن يندمل جرح كهذا؟؟
لقد كانا في حافلة مع مجموعة من الحجيج عائدين إلى البلد، بعدما نفذ صبر الجميع و دفعهم الحنين لأهلهم للإقدام على السفر برا...و كانت مجازفة أودت بحياتهم جميعا ...
نحن.. و يا من كنا غارقين في بحر الحزن و الماسي.. و يا من تشردنا..و تشتتنا..و تفرقنا و انتكست أحوالنا و تنافرت قلوبنا..و كنا ننتظر عودة والدينا لعل الله يصلح الحال.. يأتينا نبأ مصرعهما المفاجئ المفجع.. و ينسف ما بقي لنا من قوة أيما نسف...
السلطات اتصلت بأخي سامر و أبلغته الخبر المفجع، ليذهب لاستلام الجثتين من إحدى المستشفيات، التي نقل إليها جميع راكبي الحافلة، و الذين قتلوا جميعا دون استثناء..
كنت أريد الذهب..فقط لألقي نظرة..فقط لأقبل أي شيء منهما.. رأسيهما.. جبنيهما.. أيديهما..إقدامهما..أو حتى ملابسهما..أي شيء منهما و لهما.. لكني بقيت رغما عني ملازما رغد في المستشفى.. متوقعا أن أفقدها هي الأخرى.. بين لحظة و أخرى..
كانت أفظع أيام حياتي..
كانت نائمة معظم الوقت، و كلنا أفاقت سألتني :
" أين أبي؟؟ أين أمي ؟؟ ألا أزال حية ؟؟ متى سأموت؟؟"
و لا أجد شيئا أواسيها به غير اهات تنطلق من صدري ، و شلالات تتدفق من عيني.. ونيران تحرق جسدي و ترديني فتاتا.. رمادا..غبارا..
عندما عاد أخي.. كنت أنظر إلى عينيه بتمعن..أحدق بهما بجنون..عل صورة والدي قد انطبعت عليهما.. علني أرى طيف ما رأتاه..
أخذت أضمه، و أشمه و أقبله.. فقد كان معهما.. و ربما علق به شيء منهما..أي شيء... أي شيء...
و حين سألني عن رغد.. قلت باكيا :
" ستموت! إنني أراها تموت بين يدي.. ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليتني مت قبل هذا "
و حين تحدث معها ، سألته بلهفة :
" أين هما؟؟ هل عادا معك؟؟ هل عادا للمنزل؟ أعدني إليهما..فأنا أريد أن يشهدا عرسي..ليس مثل دانة !"
أي عرس يا رغد..أي فرح..أي لقاء تتحدثين عنه ؟؟
لقد انتهى كل شيء.. و الحبيبان اللذان كانا يدللانك و يحيطاننا جميعا بالحب و الرعاية.. ذهبا في رعاية من لا يحمد على مكروه قضى به سواه...
اللهم لا اعتراض على قضائك...
و إنا لله .. و إنا إليه راجعون....
اليوم، و كما قررت أخيرا، سأذهب إلى المزرعة.. فلا بد لي من مواصلة العمل، و الدراسة في ذلك المعهد.. و العودة إلى أهلي بعدما حصل.. أصبحت ضربا من المحال..
فمن يريد العودة إلى جحيم الذكريات... ؟؟
سامر..كان قد أهداني سيارة قبل أيام، جاءت منقذة لي في وقت الحاجة الحقيقية.. شكرته كثيرا.. و أذكر أنه يومها ابتسم ابتسامة واهية و قال :
" و لم كل هذا الشكر ! إنها مجرد سيارة.. بلا روح و لا مشاعر !"
استغربت من رده، إلا أنه غير الحديث مباشرة...
زرت المزرعة مرتين اثنتين فقط مذ قدمت إلى هنا.. فقد كان بقائي قرب رغد هو مركز اهتمامي و بؤرته... أما أحوال العائلة هناك كانت مستقرة..
أجمع أشيائي في حقيبة أضعها على السرير، باب الغرفة مفتوح، يطل منه أخي سامر... و يتحدث ...
" أحقا سترحل وليد؟؟ "
استدير إليه و أقول :
" كما ترى "
مشيرا إلى الحقيبة.. و أضيف :
" سأعود إلى عملي، و دراستي"
يظل واقفا عند الباب ، ثم يخطو خطوتين إلى الداخل و يقول بصوت خافت :
" أنا أيضا سأعود إلى عملي... انتهت إجازاتي الممددة "
التفت إليه و أنا أدرك ما يعني، بل هو أكثر ما يشغل تفكيري على الإطلاق، لكنني أقول :
" و إذا ؟؟ "
يقول :
" رغد... "
نعم ، لا زلنا و منذ زمن..نقف عند هذه النقطة.. رغد...
قال :
" لا يمكن تركها وحيدة..، خذها معك "
و فاجأني هذا الطلب، فهو اخر ما كنت أتوقع أن يطلبه أخي مني...
لقد كنت أنا من سيطرح الفكرة، و خشيت أن أعقد الأمور أكثر في وقت نحن فيه في غنى تام عن أي تشويش يزيدنا ألما فوق ألم...
قلت :
" معي أنا ؟؟ "
" نعم يا وليد.. فهناك حيث تقيم، لديك عائلة يمكن لرغد أن تظل تحت رعايتهم أثناء غيابك.. لكن هنا في هذه الشقة..."
لم يتم كلامه..
لقد كان هذا الموضوع هو شغلي الشاغل منذ قررت العودة للمزرعة، ألا أنني لم أكن أعرف الطريق لفتحه أمام سامر، خطيب رغد...
قلت :
" ما كنت فاعلا لو أنكما تزوجتما إذن؟ "
قال :
" ربما ..أتركها في بيتنا مع والدي "
و الكلمة قرصت قلبينا... و عصرت شعورنا...
تابع :
" ألا أنه .. لا والدين لنا الان .. و لا بيت.."
" يكفي أرجوك.."
قلت ذلك محاولا إبعاد غيمة الهم عني، فقد اكتفيت من كل ذلك.. اكتفيت من الهموم التي حملتها على صدري مذ ارتكبت جريمتي و حتى هذا اليوم...
بددت أشباح الذكرى المؤلمة بعيدا عن رأسي.. و قلت :
" أتظنها ترحب بذلك ؟؟ "
ابتسم ابتسامة مائلة للسخرية و قال :
" جرب سؤالها بنفسك..."
و رمقني بنظرة حادة، ثم غادر الغرفة...
بعدما انتهيت من جمع أشيائي، ذهبت إلى غرفة رغد...
طوال الأيام الماضية لم تكن تغادرها .. حتى القليل من الطعام الذي كانت تعيش عليه، تتناوله على سريرها.. حالتها كانت سيئة جدا ولازمت المستشفى وقتا طويلا، و كنا نتناوب أنا و سامر على رعايتها...إلا أنها تحسنت في الاونة الأخيرة.. و أحضرناها إلى هنا.. و الحمد لله
فلو أصابها شيء..هي الأخرى، فسوف أموت فورا لا محالة...لن يقوى قلبي على تحمل صدمة أخرى.. و خصوصا للحبيبة رغد..لا قدر الله ..
طرقت الباب و ذكرت اسمي، ثوان، ثم أذنت لي بالدخول...
دخلت، فرأيتها جالسة على السرير، كالعادة، إلا أنها ترسم شيئا ما في كراستها...
اقتربت لألقي نظرة على ما ترسم، كانت صورتين وهميتين لوالدي رحمهما الله.. مرسومتين بالقلم الرصاصي، و بمعالم غامضة مبهمة...
" كيف أنت صغيرتي؟ "
لم ترفع عينيها عن الرسمة، قالت :
" كما أنا "
و هو جواب يقتلني...إن كنتم لا تعلمون...
قلت :
" أنت بخير، الحمد لله .."
قالت :
" نعم ، بخير.. يتيمة مرتين، وحيدة و بلا أهل.. و لا من يتولى رعايتي .. عالة على ابن عمي ... "
مزقتني كلماتها هذه، قلت :
" عالة على خطيبك !؟ "
قالت مصححة :
" ابن عمي.. فأنا لن أتزوجه.. ما لم يحضر والداي و يباركا زواجنا.."
كادت الدمعة تقفز من عيني... اقتربت منها أكثر.. و قلت محاولا المواساة :
" حتى لو لم تتزوجيه، يبقى ابن عمك و مسؤولا عنك.. فلا تأتي بذكر كلمة عالة هذه مرة أخرى "
الان، قامت بالخربشة على الصورتين بخطوط عشوائية حادة، ثم .. نزعت الورقة من الكراسة، ثم مزقتها..
أخيرا نظرت إلي :
" لم لا ترسلاني إلى دار لرعاية الأيتام ؟ "
" رغد بالله عليك.. لم تقولين ذلك ؟؟ "
" نعم فهو المكان الأنسب لي، سامر يريد العودة للعمل و أنا أعيقه "
قلت بألم :
" و أنا ؟ "
رمقتني بنظرة مبهمة ، ثم قالت :
" و أنت ستعود إلى عملك، و فتاتك..، و دانة تزوجت و استقرت مع زوجها في الخارج..، بلا بيت و لا والدين .. و لا أهل.. إما أن ترسلاني لبيت خالتي، أو لدار الأيتام "
اغتظت، و قلت بعصبية :
" كفي عن ذلك يا رغد، بالله عليك... أتظنين أنني سأتخلى عنك بهذه السهولة ! "
رغد حدقت بي، متشككة مرتابة...
قلت :
" أبدا يا رغد ! لا تظني .. أنه بوفاة والدي رحمه الله.. لم يعد لك ولي مسؤول.. إنك من الان فصاعدا، لا .. بل من يوم وفاته فصاعدا... بل و من يوم وفاة والديك الحقيقيين فصاعدا.. تحت مسؤوليتي أنا.."
لا تزال تحملق بي بريبة..
قلت :
" و من هذه اللحظة، اعتبريني أمك و أباك و أخاك و كل شيء.. "
شيء من التصديق ظهر على وجهها.. أرادت التحدث إلا أنها منعت نفسها .. قلت مؤكدا :
" نعم صغيرتي، و لتكوني واثقة مائة بالمائة.. من أنك ستبقين ملازمة لي كعيني هاتين.. و لسوف أفقأهما قبل أن أبعدك عني مترا واحدا ! "
الان رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر.. ثم تنظر إلي...
نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت :
" متر ! أليس كذلك ؟؟ "
هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد.. ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها.. و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد !
لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟
لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و الماسي...
قلت :
" بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة، و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا ساخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ "
قالت :
" و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ "
قطعت المسافة في زمن قياسي، و حين وصلت أخيرا إلى الشقة، قرعت الباب بشكل متواصل إلى أن فتحه أخي أخيرا...
من النظرة الأولى إلى وجهه أدركت أن الموضوع أخطر مما تصورت.. كانت عيناه حمراوان و جفونه وارمة ، و وجهه شديد الكابة... و السواد أيضا...
منظره أوقع قلبي تحت قدمي في الحال...
و قبل أي كلمة أخرى هتفت مفزوعا :
" أين رغد ؟؟ "
و ركضت إلى الداخل مسرعا و أنا أنادي :
" رغد ... رغد ... "
و حين بلغت غرفتها طرقت الباب بقوة... و أنا أهتف بفزع...
" رغد... أأنت هنا ؟ "
فتح الباب و ظهرت رغد .. و ما أن وقعت أعيننا على بعضها البعض حتى كدت أخر صريعا..
" رغد ! "
" وليد ... "
" أنت بخير صغيرتي ؟؟ أنت بخير ؟؟ "
انفجرت رغد باكية بقوة ، التفت إلى الوراء فإذا بسامر يقف خلفي ، هتفت :
" ماذا حصل ؟ "
رغد ازداد بكاؤها ..
قلت منفعلا :
" أخبراني ماذا حدث ؟؟ "
و نظرت إلى سامر في انتظار ما سيقول ...
سامر حرك شفتاه و قال أخيرا :
" أصيب والدانا في الغارة على الحدود"
صعقت ، شهقت :
" ماذا ؟؟ "
طأطأ سامر رأسه للأسفل ، فقلت بسرعة :
" سامر ؟؟ "
لم يرفع عينيه في البداية، إلا أنه حين رفعهما كانتا غارقتين في الدموع، و قال أخيرا :
" قتلوهما.."
شهر كامل قد مضى، و أنا مقيم مع أخي و رغد في هذه الشقة... نسبح في بحر الدموع و الألم...
لا يقوى أحدنا حتى على النهوض من المقعد الذي يجلس عليه... أسوأ اللحظات.. كانت تلك اللحظات التي رأيت فيه رغد تلطم وجهها و تصرخ و تنوح و تصيح...
" لماذا كتب علي أن أيتم مرتين؟؟ من بقي لي بعدهما؟؟ أريد أن ألحق بهما.. أمي .. أبي .. أنا مدللتكما العزيزة.. كيف تفعلان هذا بي ؟؟ كيف تتركاني يتيمة من جديد؟ و أنا في أمس الحاجة إليكما.. ليتني مت منذ صغري..ليتني احترقت مع المنزل و لم أعش هذا اليوم... وا حسرتاه"
كانت تجول في الشقة و تصرخ و تنادي كالمجنونة.. و تصفع رأسها بأي شيء تصادفه في طريقها..
و كنت أمشي خلفها، محاولا تهدئتها و مواساتها ، بينما أنا الأكثر حاجة للمواساة..
أبعد حرماني منهما لثمان سنين.. ثمان سنين كان من الممكن أن أقضيها تحت رعايتهما و حبهما.. اللذين مهما كبرت سأبقى بحاجة إليهما، أفقدهما بهذا الشكل؟؟
حينما أتذكر يوم وداعهما...
اه يا أمي.. و يا أبي..
لو كنت أعرف أنه اللقاء الأخير.. ما كنت تركتكما تخرجان...
أتذكر وصايا أمي... (اعتني بشقيقتيك جيدا لحين عودتنا).. أماه.. هاأنا قد اعتنيت بهما و إن قصرت.. فأين عودتك ؟؟
لو كنت أعلم أنه اخر العهد لي بكما... ما فارقتكما لحظة واحدة حتى أموت دونكما أو معكما..
لكنه قضاء الله.. و مشيئة الله..
يا رب.. فكما جاءاك ملبيين طائفين حول بيتك المشرف، يا رب فأكرمهما بنعيم الجنة التي وعدت بها عبادك المؤمنين...
و لا حول و لا قوة إلا بالله...
شهر كامل قد انقضى و لم تتحسن أحوالنا النفسية شيئا يذكر..
و هل يمكن أن يندمل جرح كهذا؟؟
لقد كانا في حافلة مع مجموعة من الحجيج عائدين إلى البلد، بعدما نفذ صبر الجميع و دفعهم الحنين لأهلهم للإقدام على السفر برا...و كانت مجازفة أودت بحياتهم جميعا ...
نحن.. و يا من كنا غارقين في بحر الحزن و الماسي.. و يا من تشردنا..و تشتتنا..و تفرقنا و انتكست أحوالنا و تنافرت قلوبنا..و كنا ننتظر عودة والدينا لعل الله يصلح الحال.. يأتينا نبأ مصرعهما المفاجئ المفجع.. و ينسف ما بقي لنا من قوة أيما نسف...
السلطات اتصلت بأخي سامر و أبلغته الخبر المفجع، ليذهب لاستلام الجثتين من إحدى المستشفيات، التي نقل إليها جميع راكبي الحافلة، و الذين قتلوا جميعا دون استثناء..
كنت أريد الذهب..فقط لألقي نظرة..فقط لأقبل أي شيء منهما.. رأسيهما.. جبنيهما.. أيديهما..إقدامهما..أو حتى ملابسهما..أي شيء منهما و لهما.. لكني بقيت رغما عني ملازما رغد في المستشفى.. متوقعا أن أفقدها هي الأخرى.. بين لحظة و أخرى..
كانت أفظع أيام حياتي..
كانت نائمة معظم الوقت، و كلنا أفاقت سألتني :
" أين أبي؟؟ أين أمي ؟؟ ألا أزال حية ؟؟ متى سأموت؟؟"
و لا أجد شيئا أواسيها به غير اهات تنطلق من صدري ، و شلالات تتدفق من عيني.. ونيران تحرق جسدي و ترديني فتاتا.. رمادا..غبارا..
عندما عاد أخي.. كنت أنظر إلى عينيه بتمعن..أحدق بهما بجنون..عل صورة والدي قد انطبعت عليهما.. علني أرى طيف ما رأتاه..
أخذت أضمه، و أشمه و أقبله.. فقد كان معهما.. و ربما علق به شيء منهما..أي شيء... أي شيء...
و حين سألني عن رغد.. قلت باكيا :
" ستموت! إنني أراها تموت بين يدي.. ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليتني مت قبل هذا "
و حين تحدث معها ، سألته بلهفة :
" أين هما؟؟ هل عادا معك؟؟ هل عادا للمنزل؟ أعدني إليهما..فأنا أريد أن يشهدا عرسي..ليس مثل دانة !"
أي عرس يا رغد..أي فرح..أي لقاء تتحدثين عنه ؟؟
لقد انتهى كل شيء.. و الحبيبان اللذان كانا يدللانك و يحيطاننا جميعا بالحب و الرعاية.. ذهبا في رعاية من لا يحمد على مكروه قضى به سواه...
اللهم لا اعتراض على قضائك...
و إنا لله .. و إنا إليه راجعون....
اليوم، و كما قررت أخيرا، سأذهب إلى المزرعة.. فلا بد لي من مواصلة العمل، و الدراسة في ذلك المعهد.. و العودة إلى أهلي بعدما حصل.. أصبحت ضربا من المحال..
فمن يريد العودة إلى جحيم الذكريات... ؟؟
سامر..كان قد أهداني سيارة قبل أيام، جاءت منقذة لي في وقت الحاجة الحقيقية.. شكرته كثيرا.. و أذكر أنه يومها ابتسم ابتسامة واهية و قال :
" و لم كل هذا الشكر ! إنها مجرد سيارة.. بلا روح و لا مشاعر !"
استغربت من رده، إلا أنه غير الحديث مباشرة...
زرت المزرعة مرتين اثنتين فقط مذ قدمت إلى هنا.. فقد كان بقائي قرب رغد هو مركز اهتمامي و بؤرته... أما أحوال العائلة هناك كانت مستقرة..
أجمع أشيائي في حقيبة أضعها على السرير، باب الغرفة مفتوح، يطل منه أخي سامر... و يتحدث ...
" أحقا سترحل وليد؟؟ "
استدير إليه و أقول :
" كما ترى "
مشيرا إلى الحقيبة.. و أضيف :
" سأعود إلى عملي، و دراستي"
يظل واقفا عند الباب ، ثم يخطو خطوتين إلى الداخل و يقول بصوت خافت :
" أنا أيضا سأعود إلى عملي... انتهت إجازاتي الممددة "
التفت إليه و أنا أدرك ما يعني، بل هو أكثر ما يشغل تفكيري على الإطلاق، لكنني أقول :
" و إذا ؟؟ "
يقول :
" رغد... "
نعم ، لا زلنا و منذ زمن..نقف عند هذه النقطة.. رغد...
قال :
" لا يمكن تركها وحيدة..، خذها معك "
و فاجأني هذا الطلب، فهو اخر ما كنت أتوقع أن يطلبه أخي مني...
لقد كنت أنا من سيطرح الفكرة، و خشيت أن أعقد الأمور أكثر في وقت نحن فيه في غنى تام عن أي تشويش يزيدنا ألما فوق ألم...
قلت :
" معي أنا ؟؟ "
" نعم يا وليد.. فهناك حيث تقيم، لديك عائلة يمكن لرغد أن تظل تحت رعايتهم أثناء غيابك.. لكن هنا في هذه الشقة..."
لم يتم كلامه..
لقد كان هذا الموضوع هو شغلي الشاغل منذ قررت العودة للمزرعة، ألا أنني لم أكن أعرف الطريق لفتحه أمام سامر، خطيب رغد...
قلت :
" ما كنت فاعلا لو أنكما تزوجتما إذن؟ "
قال :
" ربما ..أتركها في بيتنا مع والدي "
و الكلمة قرصت قلبينا... و عصرت شعورنا...
تابع :
" ألا أنه .. لا والدين لنا الان .. و لا بيت.."
" يكفي أرجوك.."
قلت ذلك محاولا إبعاد غيمة الهم عني، فقد اكتفيت من كل ذلك.. اكتفيت من الهموم التي حملتها على صدري مذ ارتكبت جريمتي و حتى هذا اليوم...
بددت أشباح الذكرى المؤلمة بعيدا عن رأسي.. و قلت :
" أتظنها ترحب بذلك ؟؟ "
ابتسم ابتسامة مائلة للسخرية و قال :
" جرب سؤالها بنفسك..."
و رمقني بنظرة حادة، ثم غادر الغرفة...
بعدما انتهيت من جمع أشيائي، ذهبت إلى غرفة رغد...
طوال الأيام الماضية لم تكن تغادرها .. حتى القليل من الطعام الذي كانت تعيش عليه، تتناوله على سريرها.. حالتها كانت سيئة جدا ولازمت المستشفى وقتا طويلا، و كنا نتناوب أنا و سامر على رعايتها...إلا أنها تحسنت في الاونة الأخيرة.. و أحضرناها إلى هنا.. و الحمد لله
فلو أصابها شيء..هي الأخرى، فسوف أموت فورا لا محالة...لن يقوى قلبي على تحمل صدمة أخرى.. و خصوصا للحبيبة رغد..لا قدر الله ..
طرقت الباب و ذكرت اسمي، ثوان، ثم أذنت لي بالدخول...
دخلت، فرأيتها جالسة على السرير، كالعادة، إلا أنها ترسم شيئا ما في كراستها...
اقتربت لألقي نظرة على ما ترسم، كانت صورتين وهميتين لوالدي رحمهما الله.. مرسومتين بالقلم الرصاصي، و بمعالم غامضة مبهمة...
" كيف أنت صغيرتي؟ "
لم ترفع عينيها عن الرسمة، قالت :
" كما أنا "
و هو جواب يقتلني...إن كنتم لا تعلمون...
قلت :
" أنت بخير، الحمد لله .."
قالت :
" نعم ، بخير.. يتيمة مرتين، وحيدة و بلا أهل.. و لا من يتولى رعايتي .. عالة على ابن عمي ... "
مزقتني كلماتها هذه، قلت :
" عالة على خطيبك !؟ "
قالت مصححة :
" ابن عمي.. فأنا لن أتزوجه.. ما لم يحضر والداي و يباركا زواجنا.."
كادت الدمعة تقفز من عيني... اقتربت منها أكثر.. و قلت محاولا المواساة :
" حتى لو لم تتزوجيه، يبقى ابن عمك و مسؤولا عنك.. فلا تأتي بذكر كلمة عالة هذه مرة أخرى "
الان، قامت بالخربشة على الصورتين بخطوط عشوائية حادة، ثم .. نزعت الورقة من الكراسة، ثم مزقتها..
أخيرا نظرت إلي :
" لم لا ترسلاني إلى دار لرعاية الأيتام ؟ "
" رغد بالله عليك.. لم تقولين ذلك ؟؟ "
" نعم فهو المكان الأنسب لي، سامر يريد العودة للعمل و أنا أعيقه "
قلت بألم :
" و أنا ؟ "
رمقتني بنظرة مبهمة ، ثم قالت :
" و أنت ستعود إلى عملك، و فتاتك..، و دانة تزوجت و استقرت مع زوجها في الخارج..، بلا بيت و لا والدين .. و لا أهل.. إما أن ترسلاني لبيت خالتي، أو لدار الأيتام "
اغتظت، و قلت بعصبية :
" كفي عن ذلك يا رغد، بالله عليك... أتظنين أنني سأتخلى عنك بهذه السهولة ! "
رغد حدقت بي، متشككة مرتابة...
قلت :
" أبدا يا رغد ! لا تظني .. أنه بوفاة والدي رحمه الله.. لم يعد لك ولي مسؤول.. إنك من الان فصاعدا، لا .. بل من يوم وفاته فصاعدا... بل و من يوم وفاة والديك الحقيقيين فصاعدا.. تحت مسؤوليتي أنا.."
لا تزال تحملق بي بريبة..
قلت :
" و من هذه اللحظة، اعتبريني أمك و أباك و أخاك و كل شيء.. "
شيء من التصديق ظهر على وجهها.. أرادت التحدث إلا أنها منعت نفسها .. قلت مؤكدا :
" نعم صغيرتي، و لتكوني واثقة مائة بالمائة.. من أنك ستبقين ملازمة لي كعيني هاتين.. و لسوف أفقأهما قبل أن أبعدك عني مترا واحدا ! "
الان رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر.. ثم تنظر إلي...
نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت :
" متر ! أليس كذلك ؟؟ "
هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد.. ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها.. و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد !
لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟
لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و الماسي...
قلت :
" بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة، و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا ساخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ "
قالت :
" و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ "
تعليق