مع بداية فصل الخريف فتحت المدرسة أبوابها وكان ذلك بعد زيارة يوسف للسفارة السعودية بأيام قلائل
في صباح يوم الاثنين قامت لمار باكرا لتستعد للمدرسة التي سجلتها فيها ميري وهي مدرسة خاصة بالأجانب تعلمهم اللغة أولا ثم بعض المواد التي تليها في الأهمية
لبست ملابسها التي أحضرتها ميري ومشطت شعرها الطويل ثم ضفرته ولبست حذاءها وأخذت حقيبة المدرسة الجديدة
لازالت تحس بالرهبة والتردد من الذهاب إلى المدرسة
ولا تعرف كيف تتعامل معهم .. خصوصا وأنهم أخلاط من جنسيات مختلفة
- لمار .. هل انتهيت ؟
- نعم
- هيا حتى لا نتأخر
- حاضر
- انتبهي يا ابنتي وكوني حذرة في المدرسة .. والزمي الهدوء .. أسلم لك من المشاكل المدرسية التي لا تنتهي
- لا تهتمي فأنا سأتصرف بالطريقة التي تعجبك .. ألا تثقين بي؟
- بلى
نزلت لمار من سيارة ميري ثم قالت وداعا فردت ميري وداعا
أكملت طريقها للمدرسة بتردد وخطوات ثقيلة .. وكانت المدرسة تتوسط ساحة واسعة خضراء وعلى جانبيها ملعب لكرة القدم واخر لكرة السلة
دخلت لمار المدرسة لا تعرف أحدا وصارت تنظر في الوجوه من حولها ... لعلها تجد من تأنس به في هذه الغربة
خرجت امرأة من مكتبها لتأمر الطلاب المتوزعين في البهو والمداخل بالذهاب إلى فصولهم
ثم سألت لمار عن فصلها فأخبرتها أنها جديدة
بعد أن سألتها عن اسمها وجهتها إلى أحد الفصول لتبحث عن اسمها ضمن القائمة الملصقة على الباب
ثم دخلت لمار إلى الفصل وهي تنظر في وجوه الطلبة
لم يكن عددهم كثيرا فقد كانوا 14 طالبا وطالبة من جنسيات مختلفة فهذا أبيض وهذا أسمر
وبما أن المعلم لم يدخل بعد فالطلبة لم يجلسوا في أماكنهم .. طالبتان تقفان بجوار الباب تثرثران وهما تنظران إليها
وثلاثة أولاد يقفون إلى الجانب الاخر من الفصل ويطلون من النافذة وهم يعلقون على أحد المعلمين في الساحة
وطالب يقف أمام السبورة ليجرب خطه
وفي الخلف طالبتان تسخران من أحد الأولاد وهو لا ينظر إليهما
وهنا مجموعة من البنات والأولاد يتحدثون عن الإجازة التي انقضت بالأمس
مشت لمار إلى أن وصلت إلى مقعد فارغ في الخلف فوقفت ثم سألت المجموعة التي بجانبها : هل يوجد أحد هنا؟
رد عليها البعض قائلا : لا والبعض الاخر قال: نعم
وقفت حائرة وهي تنظر إليهم وتحس أنهم يتلاعبون بها
ثم أعرضت عنهم ووقفت تنتظر قدوم المعلم لتسأله أين تجلس؟
قدمت إليها فتاة شقراء وشعرها قصير جدا لتقول لها: تفضلي فليس ثمة أحد هنا
جلست لمار وهي مترددة وقالت لها شكرا
سألتها الفتاة : ما اسمك؟
- لمار
- أنا اسمي ناتينا .. ومن أين أنت؟
- من السعودية
- أنا من رومانيا .. تشرفت بمعرفتك
- وأنا أيضا
لم تكمل لمار كلمتها حتى دخلت المعلمة فرجع كل إلى مكانه ... ولمار تجلس قرب الزاوية في الخلف والطلاب في الصف موزعون بحيث كل صف لا يجاور الاخر مباشرة مما يعطي ترتيبا وانضباطا أكثر
درست لمار اليوم الأول وليس هناك أخبار تذكر سوى أنها تعرفت على هذه الفتاة التي تدعى ناتينا
مر الأسبوع الأول من المدرسة وكل شيء على ما يرام .. فالمدرسة قوانينها صارمة وعدد طلابها ليس كثير والأمور تسير تحت رقابة شديدة
أما يوسف فلم يحرك ساكنا بشأن لمار فكلما أراد أن يتصل ويخبرها بأنها تستطيع العودة تذكر أمها المريضة التي تترجاه أن يرسلها مرة أخرى إليها .. ثم يؤجل الأمر إلى أن يجد حلا وسطا يسعد لمار ولا يكسر بخاطر أمها
أخبرت لمار عبر الهاتف هيلا وعبد الله (هيلين وكارلوس سابقا) عن دخولها المدرسة .. فشجعاها على ذلك وفرحا لها
ثم سألتهم متى يأتون لزيارتهم فأخبروها أنه ليس بإمكانهم قبل حلول فصل الشتاء
لذلك كانت تنتظر لمار قدوم الشتاء بفارغ الصبر .. فقد اشتاقت لهما خصوصا وأنهما أصبحا مسلمين مثلها
000000000000000000000000000000 000000000
عندما تأخر يوسف بالرد على صاحبه الذي يعمل في السفارة اتصل به على عيادته .. ليسأله متى يأتي بالفتاة ليحجز لها ويرتب سفرها إلى السعودية؟؟
رد عليه يوسف بأنه مشغول الان وسيأتي في أقرب وقت
بعد أن انتهى من دوامه اتجه إلى أمها المريضة ليستشيرها في موضوع ابنتها .. فهي أمها ولها الحق أن تبدي رأيها بشأن ابنتها
عندما استأذن عليها يوسف ليدخل كما في المرات السابقة ... سألته قبل كل شيء: هل جاءت لمار؟
ثم نظرت إلى خلفه .. ولكن لم يدخل أحد
رد عليها وهو مطأطئ الرأس: لا .. لو استطيع لجئت بها
أرخت الأم جسمها بعد أن شدته تحمسا لرؤية لمار وقالت: متى يا رب تكرمني برؤيتها؟؟
قال لها يوسف : يا أم لمار .. أريد مشورتك بشأن ابنتك؟؟
- وما هو ؟
- أوراق لمار الرسمية وجواز سفرها موجود في السفارة السعودية .. وهم يبحثون عنها منذ أن فقدت هنا .. وقد طلبوا مني أن اتي بها ليرسلوها إلى السعودية .. حيث أبوها ينتظر خبرا عنها
- يا إلهي .. معنى ذلك أن لمار تستطيع العودة إلى السعودية؟
- نعم
- (ظهر الفرح عليها) ومتى ستعود؟
- إني أستشيرك في ذلك؟
- وماذا تنتظر ؟؟
- ما رأيك؟
- وماذا تظنني سأقول لك .. بالطبع أرسلها .. ستعود لمار إلى أبيها وأقاربها بدلا من السكن والعيش عند الغرباء
- معنى ذلك انك تؤيدين سفرها عاجلا
- بالطبع
- ظننتك لا تريدين ذلك حتى يتسنى لك رؤيتها بين وقت واخر؟
- دكتور .. أنت لا تعرف قلب الأم ... أنا لم أفكر بنفسي لحظة واحدة أمام سعادة ابنتي .. أريد أن تحيى في أمان وفي كنف أبيها
وأنا لا أدري كم مرة أستطيع أن أراها .. فهذا شهر كامل مر بعدما رأيتها تلك المرة ... وهي لا تستطيع زيارتي إلا نادرا
ماذا عساني أستفيد؟؟
ثم أطرقت لتمسح دمعة حارة على خديها
وأكملت: أخاف عليها من هؤلاء الغرباء .. فهم غير عرب وغير مسلمون وحياتهم تختلف عن حياتنا .. لا أريد أن تسلك لمار حبيبتي وفلذة كبدي طريقهم وتأنس لطريقتهم في العيش
لتذهبي يا لمار إلى والدك فهو أحن عليك وأقرب وأعرف بمصالحك
ولن أطمئن لأحد مثل والدها .. فلن يخاف عليها ولن يربيها ولن يعززها مثله
سكتت ثم تنهدت وقالت: وأنا لا أدري إن كنت سأحيا أو أموت .. فهاهم الأطباء يخبرونني أني لن أعيش طويلا
ولم يبق لي أمل إلا أن ألقى أولادي في الجنة إن شاء الله إن افترقنا في الحياة رغم عنا
ثم بكت بكاءا مرا يقطع القلوب ... بكت بكاء الأم التي فقدت وليدها
أطرق يوسف ودمعة تجول في عينيه .. تريد النزول ويمنعه الخجل من أن يبكي أمامها
مرت دقائق والأم تنتحب وقد بدا عليها أنها اختارت الاختيار الأصعب على قلبها ولكنه الأسلم لابنتها
من الصعب جدا أن تسافر ابنتها وقد لا تراها مرة أخرى .. قد تكون هذه اخر مرة
ثم رفعت عينيها لتقول : دكتور يوسف لي طلب قبل أن تسافر لمار
- وما هو؟
- أريدها أن تقضي يومها الأخير في هذه البلاد .. هنا عندي .. أريد أن أودعها وأن أشفي بعضا من اشتياقي إليها
- أنت تأمرين .. فأنت والدتها ولك الحق في كل ما تطلبين
- شكرا لك يا دكتور
- من الان سأدبر سفر لمار .. وسترينها كما تحبين ... هل تأمرين بشيء اخر؟
- لا ... لقد كلفنا عليك الكثير
- لا تهتمي فأنتم بمثابة أهلي هنا... إلى اللقاء
- ليحفظك الله
000000000000000000000000000000 0000000000000
منذ أن عاد يوسف من زيارة والدة لمار وهو يتصل يوميا بالهاتف ولا مجيب .. فهو يتصل بها في النهار في غيبة ستوفي وميري ولم يعلم أن لمار أيضا تخرج إلى المدرسة
مضى أسبوعان ويوسف لا يستطيع الوصول إليها ففي أيام الأسبوع تكون لمار في المدرسة وفي إجازة اخر الأسبوع ترد ميري على الهاتف .. فيقفل الخط من دون أن يتكلم
وفي ذلك اليوم انشغلت ميري في غسل الملابس فلم تسمع الهاتف .. رفعت لمار السماعة وقالت : نعم
- أخيرا .. هذه أنت لمار؟
- دكتور يوسف؟
- نعم.. أين أنت كل هذه الفترة أتصل ولا تجيبين؟
- أصبحت أذهب للمدرسة .. لذلك لا تجدني
- المدرسة؟
- نعم
- وكيف؟
- سجلتني ميري في مدرسة تعرف مديرتها وأنا الان منتظمة فيها
- لم أعلم ذلك
- أسرع ماذا تريد؟ ... فميري ستأتي وتراني أتكلم بالهاتف
- اسمعي ستعودين قريبا جدا للسعودية .. ويجب أن أراك قريبا
- صحيح؟ (قالتها بفرحة)
- نعم صحيح يجب أن أراك.. أين؟
- لقد جاءت ميري .. سأتصل بك ونتفاهم حول الموضوع إلى اللقاء
وأقفلت الخط لتقوم من مكانها قبل أن تراها ميري بجانب الهاتف
أين سيتقابلان؟ سنعرف ذلك إن شاء الله فما زال في قصة لمار الكثير من الأسرار.
بعد ثلاثة أيام من مكالمة د يوسف طرق باب المنزل عصرا وكان ستوفي في العمل وميري بقي على مجيئها ساعة ولمار نائمة بعد أن تناولت غدائها بعد المدرسة
استيقظت لمار على صوت الجرس .. وخافت من القادم .. فالمنزل ليس فيه أحد غيرها .. ردت لمار وقالت من بالباب؟
- أنا دكتور يوسف
- أهلا دكتور
- هل أنت في المنزل لوحدك؟
- نعم ... وليس معي مفتاح ... الباب مقفل علي
- أووه ومتى يأتون؟
- هل تريد مقابلتهم؟؟ (قالتها باستغراب)
- نعم وأنا لست وحيدا معي موظف من السفارة
- (دهشت ووقفت تفكر .. هل أتوا ليأخذوها إلى المطار؟؟)
- لمار
- نعم
- هل يتأخرون؟
- ميري ستأتي بعد ساعة .. هل يمكنكم الانتظار؟
- لا .. سنعود بعد ساعة .. إلى اللقاء
- إلى اللقاء
000000000000000000000000000000 00000000000
ذهلت لمار لمجيئهم .. خاصة الموظف في السفارة السعودية .. وعلمت أنهم سيأخذونها من هنا وبصورة رسمية
إذن اقترب موعد عودتي لبلادي وأهلي ... يا سلام
وصارت تدور في المنزل .. ولا تدري بم تبدأ؟ هل تجهز حقيبتها؟
أو ترتبت غرفتها وأغراضها
هل ترقص فرحا وطربا للقاء الأحباب
وأبي كم اشتقت لضمتك يا بابا
وأنت يا ماما اشتقت إليك ولأوامرك
اشتقت لعتابك ولقولك لي: متى تكبرين يا لمار وتتركين اللعب والحركة
ها أنا قد كبرت وأصبحت امرأة وست بيت وأعرف أطبخ وأغسل وأكنس
سأعجبك بالتأكيد
دخلت غرفتها لتجهز حقيبتها وملابسها وبعض الهدايا المغلفة التي كانت تحتفظ بها والتي كان يهديها ستوفي وميري في المناسبات
وأخذت تقلب كل ما في دولابها أرضا حتى تنقي ما تريده
ثم قامت إلى مكتبها ونظرت إلى كتب المدرسة فضحكت وقالت:
لن أذهب لهذه المدرسة بعد الان
سيسألون عن ذات الضفيرة الطويلة
عن الفتاة العربية؟
وسيأتيهم خبر عودتي لبلادي
سأرتاح أخيرا من هذه المدرسة وطلابها المشاكسون
يا سلام
وبينما هي كذلك سمعت صوت ميري قادمة ... ففتحت بابها لتنظر بحذر
دخلت ميري غرفتها لتبدل ملابس العمل ثم خرجت إلى المطبخ لتعد غدائها هي وستوفي
ترددت لمار في الخروج .. خافت أن تلحظ ميري على وجهها الفرحة فتشك بها لذلك بقيت في غرفتها إلى أن...
ضرب جرس المنزل ... فتسارعت دقات قلب لمار
ذهبت ميري لتفتح ففوجئت برجلين يستأذناها بالدخول
فسألتهم من أنتم؟
رد عليها موظف السفارة بعد أن أخرج بطاقته : نحن من السفارة السعودية
وما إن أكمل جملته حتى أصيبت ميري بالتوتر وخافت أن يكون هؤلاء القادمون قد اكتشفوا أمر لمار وسيأخذونها
- تفضلوا
- شكرا
جلسوا على الكنب وميري ذهبت إلى المطبخ ولا تدري ماذا تفعل .. لقد فوجئت بالأمر .. ثم تذكرت لمار فأسرعت لتنبهها أن لا تخرج حاليا
طرقت الباب فلم ترد لمار وتظاهرت بأنها نائمة .. فقالت ميري في نفسها لا بد أنها نائمة وهذا أفضل
خرجت إلى الصالة وهي تنظر بضيق بالغ إلى هذين القادمين
- هل أخدمكم بشيء
- أين زوجك؟
- نصف ساعة وسيكون هنا
- نحن قادمون بشأن لمار (قالها يوسف)
- وماذا بها؟
- السفارة السعودية تبحث عنها منذ وقت طويل ... ويجب أن تعود إلى أهلها فهي ليست مقيمة هنا وإنما دخلت البلاد بتأشيرة سياحية
- لم نكن نعلم بذلك عندما اويناها .. فهي لم تكن تعرف لغتنا وبقيت وقت طويل ريثما بدأنا نتفاهم معها
- لقد أخطأتم في عدم إبلاغنا
- .......
- أرجوك لا داعي لهذا الكلام .. فهم اووني وأطعموني وحفظوني من الضياع .. لا تحاسبهم (قالت ذلك لمار بعد أن خرجت عليهم)
- أوه لمار؟
- نعم
- وهل تودين الإقامة هنا؟
- لا ... أريد العودة لأهلي بالطبع
في هذه الأثناء دخل ستوفي ليفاجأ بالأمر ... فلم يخطر بباله يوما أن يعود ويجد هذا المشهد أمام ناظريه
جلس الجميع ليتناقشوا بشأن لمار .. أما ستوفي وميري فلم يكن لديهما الكثير ليقولاه ويكفيهما أنهما سيسلمان من العقوبة لأن د يوسف وصاحبه لن يبلغا عليهما استجابة لطلب لمار
وأما لمار فبقيت صامتة تستمع لحديث الدكتور وصاحبه عن الإجراءات التي ستنفذ حتى تسافر لمار
قال لهم الدكتور:
ستبقى لديكم لمار عدة أيام ريثما يحين موعد طائرتها ... وإن اختفت في هذه الأثناء ستكونان مسئولين عن ذلك وستحاسبان أمام الجهات المسئولة
أرجو أن تعاملاها معاملة حسنة هذه الأيام المتبقية وأن تسمحا لها بالذهاب للسوق أو لأي مكان تريده
استأذن د يوسف بالخروج هو وصاحبه الموظف السعودي
وعندما خرجا نظر ستوفي إلى لمار التي وقفت لترجع إلى غرفتها وقال:
- هل تعرفين كيف عرفوا بمكانك؟
- لا .. ولكن حسب قولهم أن السفارة تبحث عني من وقت وربما بلغهم أحد ما بوجودي هنا
- (موجها خطابه لميري) لقد قلت لك ليس هناك ضرورة لذهابها للمدرسة .. أشك بأن أحد ما عرفها في المدرسة فبلغ عنها
- ( بدا الضيق على ميري) ربما ... لم أتوقع ذلك
- هل تريدان شيئا قبل أن أدخل غرفتي
- لا ... سنفتقدك كثيرا يا لمار ... لقد أحببناك كثيرا
- وأنا كذلك .. ولكني اشتقت لأهلي ولن تلوماني على ذلك
- لا طبعا لن نلومك ... ولكن لا تنسينا ... اتصلي بنا إن استطعت
- لن أنساكما .. وسأتصل بكم كلما استطعت .. بالإذن
000000000000000000000000000000 00000000000000
موعد سفر لمار تقرر بعد خمسة أيام من تلك الزيارة المفاجئة للدكتور يوسف وصاحبه
وخلال الخمسة أيام استعدت لمار وجهزت حقائبها ولم تذهب للمدرسة خلالها ... فقد اعتذرت عن انقطاعها ميري وبذلك طوي ملفها
اليوم الخامس انتهت لمار من كل شيء وما بقي أمامها سوى الزيارة التي سيأخذها فيها دكتور يوسف لتك المرأة المريضة في مستشفى الضاحية
استعدت صباحا للخروج فلبست ملابس جميلة فستان عشبي اللون إلى منتصف الساق وتحته حذاء عالي (بوت) وفوقه جاكيت بني من الجلد ليقيها البرد فقد دخل فصل الشتاء البارد
ووضعت على رأسها قبعة لحماية شعرها من المطر وأخذت معها مظلة إن اشتد المطر
وقفت أمام باب الفناء الخارجي للمنزل تنتظر د يوسف ليأخذها لتلك الزيارة وبيدها حقيبة جلدية صغيرة
وقفت أمامها سيارة يوسف البيضاء ثم أشار إليها فركبت وسار بها إلى المستشفى
في الطريق سألها: ألا تريدين أن تأخذي معك هدية ما .. فأنت ذاهبة لزيارة مريضة؟
- وما أشتري؟
- باقة ورد .. حلوى .. أي شيء تجود به نفسك
- حسنا سأشتري لها هدية تعجبها ولكن ليس معي مال كافي
- لا تهتمي أنا معي ما يكفيك
- لا لن اخذ منك شيئا .. فأنت منذ عرفتني وأنت تصرف علي مبالغ لست ملزما بدفعها لي
- لمار إن كان لي معروفا عندك فرديه بأن تقبلي ما أعطيك إياه
- ........
- إن رفضت سأغضب منك ولن أساعدك بشيء
لم ترد لمار .. بينما توقف د يوسف أمام أحد المحلات لبيع الهدايا وفتح لها الباب فنزلت تمشي خلفه
اختارت لمار ساعة فضية بعد أن أشار عليها يوسف وقال إنها جميلة .. ثم غلفها البائع ووضع عليها كرتا لتكتب عليه لمار بخطها عبارات الدعاء بالشفاء وكان ذلك بمشورة د يوسف
ثم سألته بماذا تذيل الكرت؟
فقال لها : اكتبي ابنتك لمار
قالت كيف وهي ليست أمي
- ليس شرطا أن تكون أمك ... هي بمقام أمك
- حسنا
ثم كتبت لها ابنتك لمار
توجها للمستشفى ولكن هل ستكتشف لمار في هذا اللقاء السر الذي أخفي عنها وهل ستعرف أمها؟
------------------------------------------------------
مازال في قصة لمار الكثير من الأسرار
في السعودية وفي المدينة المنورة تحديدا يسكن أبو أحمد الذي صدم قبل عامين ونصف بفقدان ابنيه أحمد ولمار وبحث عنهما في الداخل والخراج ورجع بعد كل ذلك بخفي حنين
كان خوفه على الفتاة الصغيرة أكبر من الفتى .. خاف أن تباع كالرقيق أو تستغل في وظيفة دنيئة أو يعتدى عليها وكلما تخيل ذلك الأمر أصابه هم عظيم يكاد لهوله يتوقف قلبه المسكين
في كل ليلة قبل أن يأوي للفراش يدعو أم عمر لتصلي معه ركعتين ويدعوان الله أن يسلم ابنيهما من كل شر وأن يعيدهما عاجلا سالمين غانمين
ورغم أن أحمد ولمار لم يكونا من أولاد أم عمر الزوجة الثانية إلا أنها كانت تحبهما وتعدهما من أبنائها لأنها تكفلت بتربيتهما بعد مرض والدتهما وسفرها
وخاصة لمار الفتاة التي ربتها منذ أن كان عمرها سنتين فقط وأحبتها حبا جما ولم تعد تفرق بينها وبين أخوتها في شيء
لذلك كانت تبحث عنهما مع أبيهما في كل مكان يذهبان إليه ، ويهزها سماع اسم أحمد أو لمار في الأماكن العامة فتلتفت في شوق ... لعل أحدهما ظهر أخيرا
وحتى جرس الهاتف كلما رن فز قلب أم عمر فترد بلهفة وهي ترجو أن تسمع خبرا عن لمار أو تسمع صوت أحمد
أما أبو أحمد فطالما تخيل أحمد يطرق باب المنزل ممسكا بيد لمار وهو يقول افتحوا لقد عدنا أخيرا ... فيقفز أبو أحمد للباب فجأة فيفتحه ...
ثم لا يجد أحدا فيفيق من خياله ويرجع وقد تجدد الحزن في قلبه
الناظر إلى وجه أبي أحمد يجد الفرق الكبير في شكله الان وقبل سنتين .. لقد كثر الشيب في لحيته وهزل جسمه وانطفأت حيويته
بعد أن خرج أبو أحمد إلى العمل بحوالي الساعتين رن جرس الهاتف فأسرعت أم عمر لترفع سماعة الهاتف قبل أن يوقظ رنينه صغارها محمد ولمى
- نعم
- هل أبو أحمد موجود؟
- لا
- متى أقدر أكلمه؟
- الساعة ثنتين بعد الظهر
- هذا كثير ... ما فيه رقم ثاني أقدر أكلمه عليه؟
- رقم العمل؟؟
- نعم
- ما أعرفه
- خلاص بنتظره إلى الظهر
نزلت لمار مع د يوسف من السيارة واتجها إلى المستشفى الذي تسكنه والدتها منذ سنوات ، في هذه الأثناء كانت لمار تجول ببصرها في منظر المستشفى الكبير والممتد على سطح أخضر وتحيط به ملاعب ومسابح للمعاقين وللمرضى الذين يعاد تأهيلهم ، فكان المستشفى أشبه بفندق ضخم أو منتجع كبير
كانت السماء غائمة والبرد شديد وذرات من المطر تتساقط وكأنه تبشر بهطول مطر غزير
أسرعا بالدخول قبل أن تبتل ملابسهم واتجها إلى غرفة 117 وهما يحثان الخطى
توقف د يوسف بجانب الكنترول لينادي الممرضة لتستأذن لهما بالدخول
خرجت الممرضة من الغرفة وهي تشير إليهما أن أدخلا
دخلت لمار أولا ثم د يوسف ليبدأ بالسلام ثم يسألها عن صحتها وحالها
فردت: الحمد لله على كل حال .. لن أقطع أملي بالله فهو الشافي وهو على كل شيء قدير
- ونعم بالله .. أستأذنكم
- (سألته لمار) متى ستعود؟
- المغرب ... هل هذا كثير؟؟
- ..........
- لا تقلقي ستجدين متعة بالحديث معها وستحكي لك بعضا مما تعرف عن هذه البلاد الجميلة (وغمز لها بعينه ليذكرها بأنها لازالت تجهل اسم هذه الدولة بالعربية وأنه لم يخبرها إلى الان .. وكأنه يريدها أن تسأل هذه المريضة العربية)
- يبدو يا دكتور أنك لا تعرف الإجابة عن سؤالي المعتاد ولذلك جئت بي إلى هنا لأسمعها من هذه المرأة المريضة
- نعم بالضبط (يضحك) فأنا ثقافتي العربية ضحلة
- هيا لا تتأخر على عيادتك
- إلى اللقاء مساء إن شاء الله
- إلى اللقاء
سألت الأم لمار : صحيح ما تعرفين اسم هذي الدولة وأنت لك سنتين ونص هنا ؟
- ما أحد علمني .. قالوا لي الاس ... وأنا ما سمعت بهالاسم في حياتي .. وما أعرف أحد عربي غير د يوسف وهو رفض يعلمني ... ما أدري ليش؟
- (ابتسمت الأم) يا بنتي وش رايك نحلها باللغز؟
- كيف؟
- أنا أقولك أشياء تدل عليها وأنت تحزرين
- حلو ... هذي الدولة أوربية صح؟؟
- صح
- مو بريطانيا ولا فرنسا
- صح
- ولا ألمانيا
- صح
- يمكن تكون إيطاليا؟؟
- فيه شيء يدل على إنها إيطاليا؟؟
- لا
- أجل ماهي إيطاليا
- المشكلة ما أعرف أسماء الدول الأوربية كلها
- حاولي يمكن تجيبينها
- وهذي الدولة مو رومانيا أكيد؟
- وليش أكيد؟
- لأن زميلتي في المدرسة غريبة على البلد وجاية من رومانيا
- صحيح مو رومانيا
- أتوقع قريبة من تركيا؟
- وليش تتوقعين إنها قريبة من تركيا؟؟
- لأن الأتراك هنا كثير
- صحيح قريبة من تركيا
- المشكلة ما أعرف أسماء الدول القريبة منها غير إيطاليا وسويسرا بس
- هذي الدولة أقرب منهم
- ولها بحر؟
- صحيح
- بأي حرف تبدأ؟
- باخر حرف هجائي
- الياء
- نعم
- اليابان
- يابنتي اليابان دولة اسيوية ... وهذي الدولة اسمها يشبه اليابان .. قربتي
- الي..
- بعدها واو
- اليو... اليونان؟
- (صفقت بحرارة لفوز ابنتها) اليونان صح عليك
- معقولة ... كل هالفترة وأنا عايشة باليونان وأنا ما أدري ... حتى ما خطر على بالي
- بالعربي نسميها اليونان وهم يسمونها هلاس أو الاس ويسمون أنفسهم الهيلينيس ويسمون دولتهم الجمهورية الهيلينية
- يعني هيلين مسمينها على اسم الجمهورية؟؟
- مين هيلين؟ (قالتها باستغراب)
- غيرت اسمها وصارت هيلة ... هذي زوجة كارلوس ولد ستوفي وميري اللي سكنت عندهم هذي الفترة وكارلوس غير اسم وصار عبد الله لأنهم أسلموا .. بس ما خبروا أهلهم للحين
- ما شاء الله أسلموا؟؟
- إيه
وأخذت لمار تحكي لأمها وهي لا تدري أنها أمها الكثير من الأحداث وتصف لها ستوفي وميري ومعاملتهم الطيبة إلا أنهم لا يريدونها أن تختلط بأحد غريب ولا أن تخرج بعيدا وكانوا يريدونها أن تتنصر ولكن أبت عليهم ذلك وتمسكت بدينها
ثم حكت لها عن هيلين التي صارت هيلة أو كما تنطق هي اسمها هيلا ... وعن طيبتها وروعة أخلاقها وكل شيء فيها جميل
استرسلت لمار في الحديث عن كل شيء بعدما أحست بالراحة لهذه المرأة راحة تامة وكأنها قريبتها فعلا
وكانت الأم تسمع بسعادة بالغة وعلى شفتاها ابتسامة وسعادة لم تحس بها من قبل وهي تنظر لجمال ابنتها التي اتكأت على الطاولة وقد خلعت الجاكيت البني فظهر جمال الفستان العشبي بأكمامه القصيرة
ورمت القبعة جانبا وتركت شعرها الطويل الكستنائي اللون ينسدل على ظهرها وخصلات متطايرة على كتفيها وصدرها ولمعة تنعكس عليه بسبب نور النهار القادم من النافذة خلفها
صوت لمار يتناغم مع صوت المطر الذي يشتد حينا ويخف حينا اخر وكأنه إيقاع حالم يدندن بأنغام السعادة .. فتأخذ الأم نفسا عميقا لتملأ صدرها برائحة الجو الذي يختلط بعطر لمار المنعش
كانت تتابع بشغف حديث لمار الذي انسها جدا .. تنظر للفم الوردي الباسم .. واليدين اللتين ترتفعان لتصف شيئا ما .. وعيناها التي تدوران في المكان وهي تتذكر الأحداث التي تحكيها
كل ذلك يحدث أمام ناظريها وكأنه أجمل فلم سينمائي تتفرج عليه في حياتها
نزلت لمار من الطاولة واتجهت إلى النافذة لتشاهد الجو الممطر خارجا ثم التفتت فجأة وتقدمت حيث أمها وسألتها:
- فيه قرابة بيننا؟
- و تحسين بهالشيء؟
- نعم .. فيه شبه كبير ... يوم شفت نفسي بالمراية على طول تذكرتك كأنك أختي الكبيرة
- يمكن (وابتسمت)
- أنت خالتي؟
- يمكن
- كيف يمكن ؟ يا خالتي .. يا لا؟؟
- إذا رجعت السعودية اسألي أبوك وأمك .. يمكن يجاوبنك
- وأنت ما تعرفين؟
- أنا مشبهة عليك وحدة بعمرك وباسمك لكن مو متأكدة إنها أنت .. خصوصا وإني ما شفتها من سنين وأكيد تغيرت
- وش تقرب لك اللي أنت مشبهتها علي؟
- خلي هذا السؤال يا بنتي بعدي ... كم يوم وأنت عند أهلك اسأليهم .. هم أعرف وراح يقولون لك ما يكذبون عليك
- طيب ليش د يوسف يجيبني عندك ... ؟ نقرب لبعض؟
- قلت لك أنت تشبهين وحدة تقرب لي وحسبتها أنت
- يعني أشبه بنتك؟
- ........ صمتت الأم ولم تعرف بم ترد على أسئلة لمار التي أثارتها شكوكها
- خالتي (نادتها لترد عليها)
- خلاص يا بنتي أنا خالتك إلين تعرفين الحقيقة من أهلك
- يعني فيه شيء ما علموني فيه أهلي؟؟
- ما أدري عنهم يا بنتي .. هم أهلك وأعرف بك وأنت أعرف بهم ... إذا رحت اسأليهم عن كل شيء غامض عليك
- أنا اسفة خالتي إذا ضايقتك بأسئلتي .. بس أنا حاسة إنك قريبتي وارتحت لك كثير ... الله يشفيك وترجعين للسعودية بأسرع وقت
- الله يجزاك خير يا بنتي .. ادعي لي كل ما تذكرتيني ... مابي غير دعواتك
- ولا يهمك يا خالة ( وقامت لتقبل جبينها)
فدمعت عينا أمها لهذه القبلة التي طالما تمنتها من فم ابنتها الغالية ثم تذكرت ابنها أحمد الذي اختفى هو الاخر ولا أحد يعرف عنه شيئا فقالت في نفسها (الله يجمعني بك يا وليدي زي ما جمعني بلمار)
تقدمت منها لمار وهي تحمل علبة صغيرة ومغلفة وقالت: نسيت يا خالتي .. هذي هدية لك وإن شاء الله تقومين بالعافية
- وليش تكلفين على نفسك .. يكفي إنك ونستيني اليوم بزيارتك
- أنت تعبانة ولحالك بالمستشفى ولازم تفرحين بشيء .. عشان كذا جبت لك هدية تفرحك
- مشكورة يا بنتي وعسى ربي يدخل على قلبك السرور زي ما دخلتيه على قلبي
- وش رايك يا خالتي نطلع نتمشى شوي في المستشفى؟
- أنا ما أقدر أمشي لازم بعربية
- نطلب لك عربية ... ونطلع نغير جو ونتفرج على المطر برا
- ولا يهمك حبيبتي
خرجت لمار لتطلب عربية فجاءت بها الممرضة فحملتها وأجلستها على العربية وغطتها بالبطانية حتى لا تتعرض للبرد إن خرجت لفناء المستشفى
أمسكت لمار العربية وخرجت بأمها تمشيان وتتفرجان وأمها تحكي لها عن بلاد اليونان وتقاليدهم والأحداث التي مرت بها في هذه البلاد
في مستشفى الجامعة كان د يوسف ينتظر الساعة الثانية ليتصل ويخبر والد لمار بأن طائرتها غدا على الرياض وعليه أن يأخذها من المطار
وما إن دقت الساعة الثانية حتى رفع السماعة ليتصل على الرقم الذي زودته به السفارة ليخبر والد لمار بأن يذهب للمطار الساعة التاسعة مساء في الوقت المتوقع وصولها إلى الرياض
لم يصدق أبو أحمد أذنيه وهو يسمع كلام د يوسف فسأله: متأكد.. أنها لمار بنتي؟؟
- مو بنتك مفقودة من سنتين ونص وبلغت السفارة السعودية في اليونان لتبحث عنها وعن ولدك أحمد لأنهم سافروا لها من الرياض؟؟
- إلا مفقودة .. وأحمد مفقود .. مافيه خبر عنه؟
- للأسف لم نحصل إلا على لمار ... المهم خبرناك إن بنتك بتكون في مطار الرياض وإن ما تسلمتها يمكن يتصرف المسئولين هناك
- لا ... أكيد بكون هناك إن شاء الله
وأغلق أبو أحمد السماعة وهو غير مصدق أذنيه وأم عمر كانت تسمع المكالمة وهي مندهشة تماما حتى أنها كانت تبعد ابنها محمد ذي الثلاث سنوات وتنهره ليسكت حتى تسمع الخبر المهم
أم عمر: معقولة .. لمار بترجع لنا؟؟
- أم عمر اسمعيني زين لازم أسافر الليلة للرياض عشان أستقبل لمار في المطار
- نبي نروح معك ... مشتاقين لها مرره
- أم عمر ... والمدرسة والأولاد ..بكرا الأربعاء وعندهم مدرسة .. خليك معهم أنا برجع مع لمار بأسرع وقت إن شاء الله
- واللي يخليك .. يوم واحد ما يضر ... ودي نستقبلها كلنا وتفرح إذا شافت أخوانها ... قل موافق
- (تنهد ولما شاف اللهفة والشوق في عينيها وافق) خلاص جهزوا حالكم نسافر الليلة ... لا يأذن المغرب إلا وكل شيء جاهز
- لا تشغل بالك ... ياللا كل غداك عشان تقوم تريح وتنام قبل ما نمسك الطريق
- وشلون بيجيني النوم وأنا أفكر في لمار .. أكيد كبرت وتغيرت
- بنشوفها بكرا إن شاء الله ... تحمد لله على سلامتها
- الحمد لله ... الله يرجع لنا أحمد بالسلامة زي لمار
- امين
في مساء ذلك اليوم عادت لمار إلى المنزل الذي ستكون هذه الليلة هي اخر ليلة فيه
تناولت العشاء الأخير مع ستوفي وميري الذين يبدو عليهما الحزن والضيق ولذلك كانا صامتين أغلب الوقت
في تلك الليلة ألقت لمار النظرة الأخيرة على حقائبها التي أعدتها وعلى غرفتها التي احتضنتها سنتين ونصفا
لا تدري لم أخذت الكتب المدرسية اليونانية .. هل تنوي تعليم أخوتها اللغة اليونانية كما تعلمتها وأتقنتها هي؟؟
لم يبق في الدولاب سوى علبة صغيرة جدا لم تأخذها لمار ... عندما فتحتها للمرة الأخيرة تذكرت شيئا أحضرته لها هيلا قبل سفرها إلى بريطانيا
فجاءت بالكيس ووضعته بجانب العلبة وأقفلت الدولاب
أيضا أخذت دفتر مذكراتها الذي كتبته بالعربية وفي بعض الصفحات باليونانية بمشاركة هيلا
أطفأت نور غرفتها لتنام وما إن أغمضت عينيها حتى بدأ شريط الذكريات بالعودة للوراء
تذكرت أول يوم قدمت فيه إلى هنا والأيام التي كانت تعاني فيها بسبب عدم فهمها لليونانية ... تذكرت لقاءها أول مرة بهيلا وعبد الله
ولقاءها بالدكتور يوسف ، ثم المرأة المريضة والتي قررت أن تناديها خالتي
وعندما استرجعت أحداث اليوم ضحكت وهي تقول اليونان ... نعم لم أعرف أني في اليونان إلا عندما تقرر سفري غدا
يا للغرابة .. ثم نامت وهي تفكر بكل ذلك وبأهلها الذين سيفرحون بعودتها سالمة
000000000000000000000000000000 00000000
طائرة لمار ستكون في الساعة السادسة مساءا وسيصحبها ستوفي وميري ود يوسف للمطار
ومنذ الصباح تناولت إفطارها ثم حمل ستوفي حقائبها في سيارة ميري التي استأذنت ذلك اليوم من العمل
وخرجت مع لمار لتشاهد معالم المدينة القديمة والأثرية في أثينا التي كانت غارقة بالثلج ورذاذ المطر والرياح الباردة
وبعد الظهر جاء ستوفي في وقت راحته إليهما ليتناولوا جميعا الغداء في المطعم القريب من معبد الأكروبوليس
تحدثوا كثيرا وعاهدتهم لمار أن تتصل بهم كلما استطاعت فهي تقدر محبتهم لها كابنتهم تماما
لم يتبق سوى ساعة على رحلة لمار ولذلك ودعهما ستوفي ليكمل عمله وأوصلت ميري لمار بسيارتها إلى المطار حيث كان ينتظرهما د يوسف في المطار
ودعت ميري لمار وبكت كثيرا وودت أن لا تخرج من المطار أبدا حتى لا تحس بأن أثينا خلت منها وبأن منزلهما الصغير لن يؤويها بعد الان وبكت معها لمار
عند موظف الجوازات وقف د يوسف ليسلم لمار جواز سفرها ويخبرها أن أباها ينتظرها في المطار في الرياض
ثم نظر إليها فإذا هي تلبس بنطالا من الجينز وعليها جاكيت أسود ثقيل ليقيها البرد وتلف رأسها بشال أسود مخطط بالأحمر والبني
وفي يديها قفازان أسودان
فقال لها: لمار كم عمرك؟
- 14 ونص يعني كم شهر وأكمل 15 عاما ... ليش تسأل؟؟
- ما أظن يا لمار فتاة بعمرك تمشي من دون عباة في السعودية
- وش أسوي؟ ما معي عباة؟؟
- إذا دخلت لصالة الانتظار .. اشتري من معرض الملابس بالطو أسود طويل .. لأنك ما راح تلقين عبايات واشتري شال صوفي أسود يشبه اللي عليك .. وبكذا ما راح يكون شكلك ملفت للنظر في مطار الرياض ... لو تذكرت هالشيء من أول كان شريت لك ... بس كنت ناسي
- خلاص بشتري .. لا تهتم
- وداعا لمار .. وأخيرا تحقق حلمك ورجعت لأهلك
- أنت صاحب المعروف .. ياليت أقدر أرد لك المعروف
- لا تتأخرين ... ادخلي بسرعة قبل ما يركب الناس الطيارة
- مع السلامة
- مع السلامة ولا تنسين تسلمين لي على الوالد
- (وهي تمشي مسرعة) ما راح أنسى ... إن شاء الله
000000000000000000000000000000 000000000000000000
نزلت لمار من الطائرة لتدخل بهو المطار السعودي الكبير وكان معظم النازلين رجال وبعضهم أجانب ... مشت ببطء وهي تتلفت حتى إذا وصلت إلى موظف الجوازات نظر في جوازها ثم نظر إليها ... ثم أعاد النظر وقال بلهجة مشكك: سعودية؟
- إيه
- تفضلي(قالها وهو يتأمل الفتاة ذات البالطو الطويل والتي تبدو غربية أكثر منها سعودية)
مشت بجانب السير الكهربائي تنتظر حقائبها ... وبدأت بمحاولة جر الحقائب الثقيلة فاقترب منها العامل: خلي مدام أنا شيل
فوقفت جانبا تشير لحقائبها التي تظهر تباعا
حملتها وسارت بينما ينظر إليها العامل منتظرا بقشيشه اقتربت للبوابة المؤدية للصالة التي ينتظر فيها الناس أقاربهم المسافرين وإذا بالعامل يسير خلفها وهو يقول : يبغى خدمة مدام
فهمت لمار أخيرا أنها نسيت البقشيش فأخرجت العملة اليونانية (اليورور) لتقدمها له فرد عليه: ما فيه ريال سؤودي؟
- اسفة ما معي غير كذا
تركته وانصرفت فهي مشغولة بالبحث عن والدها
000000000000000000000000000000 0000000000000000
أخوة لمار موزعين يبحثون عن أختهم الكبرى القادمة على طائرة أثينا ولكن...
كان يبحثون عن فتاة صغيرة وقصيرة وشعرها قريب من منتصف ظهرها ... باختصار كان يبحثون عن طفلة !!
أبوهم يقف بجانب والدتهم لا يعرف بأي شكل ستدخل لمار
تقدمت لمار من الطفل الذي عرفته ... إنه عمر فسألته وهي تمسك منكبيه بلهفة : عمر؟
- أنت مين؟
- لمار .. ما عرفتني؟
- معقولة؟ (لمياء تسأل بدهشة وهي تقترب)
- لمياء وضمتها بحرارة وشوق ثم بكت من الفرحة
أبو أحمد التفت فجأة للحدث الذي يجري أمام عينيه .. فقام مسرعا تلحقه أم عمر وأمامها بطنها الذي تحمل فيه جنينا بالشهر الثامن
سحب أبوها ذراعها لينظر ويتأكد منها .. وقفت لمار لحظة بعد أن تركت لمياء وعمر وفي هذه اللحظة كان أبوها ينظر إليها متفحصا وينظر لطولها وملامحها
عندما نظر إلى عينيها دمعت عيناه فسحبها ليضمها على صدره الذي افتقدها فترة طويلة وبكى
بكى الأب المحب .. الأب الحنون .. الأب الذي انفطر قلبه حزنا لفراقها واشتعل شعره شيبا حزنا عليها
وبكت لمار في حضن أبيها .. بكت فرحة وشوقا وحبا لهذا الأب الذي لا تتمنى أن تفارقه لحظة واحدة
كان منظرا مؤثرا حيث تجمع الناس ليتفرجوا على الشمل الذي التم أخيرا
سحبت أم عمر لمار من حضن أبيها بقوة وهي تقول : تعالي لمار حتى أنا اشتقت لك حيييل وأرادت أن تضمها فتهاوت بجسدها الثقيل على لمار ..فصرخت لمار : بابا الحق أمي داخت
في المستشفى تقف لمار بالبالطو الأسود الثقيل وبالشال الصوفي الخانق رغم أن الجو بارد في الرياض فهم في عز البرد
تقف بجانب أخوتها الذين أخذوا بالبكاء على والدتهم التي أغمي عليها بالمطار ، وهم ينتظرون أباهم ليخرج ويطمئنهم عليها
خرج الأب إلى أبنائه ليطمئنهم على أمهم التي أفاقت ولله الحمد ويستطيعون الان الدخول لرؤيتها فدخلوا سراعا
قبلت لمار رأسها وهي تقول: الحمد لله على سلامتك ياماما
- الله يسلمك يابنتي
- وش قال لك الدكتور؟
- (أجاب أبوها) شوي إرهاق (يبتسم) ما تحمل جسمها الفرحة ... ماقدر يشيلها فطاحت
- (ضحك الجميع ثم قالت لمار) أهم شيء سلامتك ياماما
- وأهم شيء إنك رجعتي لنا حبيبتي
- (قالت لمياء وهي تتأمل لمار) تغيرت كثير يا لمور .. طلتي وطال شعرك وتغيرت ... وصرتي حرمة (ثم ضحكت)
- (نظرت إليها لمار وهي تتأملها فهي الأخرى تغيرت وكبرت) وأنت بعد بتصيرين حرمة بعد شوي
أخذ الجميع بالضحك والتعليق فكلهم فاجأهم شكل لمار الفتاة بعد شكلها الطفولي وهي فوجئت بأنهم كبروا وتغيروا .. حتى أبوها تغير وكأنه كبر فجأة وشاب شعره ومع ذلك فهو مازال في عينيها أجمل رجل على وجه الأرض
في تلك الليلة أخبرهم الدكتور بأن أمهم يجب أن تبقى في المستشفى فهي مازالت في الشهر الثامن ويخاف أن تلد ولادة مبكرة والجنين لم يتم بعد
لذلك أخذهم أبوهم إلى الفندق دون أمهم وعندما دخلوا غرفتهم في الفندق أحبت لمار أن تلطف الجو فقالت: خلوني أجرب أصير أمكم الليلة ياللا بدلوا ملابسكم عشان نتعشى من العشاء اللي بيجيبه بابا
000000000000000000000000000000 000000000000000
بعد العشاء اتجه أخوتها للنوم بعد التعب والسفر أما لمار فجلست بجانب أبيها الذي استرخى على الكنب ليرتاح بعد عناء السفر والانتظار في المطار والمستشفى
مسكت يده وقبلتها فابتسم فقالت : اشتقت لك كثير يا بابا .. ثم دمعت عيناها فأخذها أبوها على صدره ومسح على شعرها وهو يقول : مو أكثر مني يا بنتي .. الله لا يفرق شملنا
بكت في صدره فقال لها أبوها ليخفف عنها : حكيني عن اليونان ... وش سويتي هناك؟ ... مشتاق أعرف كل شيء صار لك؟
رفعت رأسها وابتسمت ثم أخذت تحكي له عن كل شيء وهو يتأملها بابتسامة حانية
نظرت لساعتها فإذا هي الواحدة إلا ربع فقالت: أووووووه ميري طلبت مني إني أخبرها بوصولي ... ونسيت
- الصباح رباح يابنيتي .. بكرا خبريهم وخبري هيلا ورجلها
- تصدق يا بابا .. اشتقت لهيلا كثير .. ليتها تجينا في السعودية
- اعرضي عليها الفكرة .. يمكن تجي للعمرة وتمر علينا بالمدينة
- إيه صحيح ... بقول لها إذا كلمتها
- ياللا حبيبتي قومي نامي
- (قبلت رأسه) تصبح على خير
- تصبحين على خير
في ذلك المساء هاتفت ميري هيلا لتبث لها ضيقها وتدعوها هي وزوجها لزيارتهم فالمنزل لا يكاد يطاق بعد لمار
ها هي تجلس وحيدة بعد أن نام ستوفي والحزن على فقدان لمار يعصر قلبها ... وهي تتخيلها في كل ركن من أركان منزلها ..
تارة تتخيلها في غرفتها فتذهب لتجد الغرفة خاوية مصفرة وتارة تتخيلها في المطبخ فتسرع إليه ولا تجد أحدا
لم تجد عزاءا إلا في زوجة ابنها فطلبت منهم أن يزوروهم .. فها هو عيد الكريسماس قد اقترب ولا بد أن يشاركوهم هذه المناسبة
وعدتها هيلا خيرا وأخبرتها أنهم سيدبرون رحلة للمجيء لليونان .. ولكن لم تخبرها بإسلامهم .. فهي لا تعرف كيف تبدأ هذا الخبر الذي سيحل مثل الصاعقة عليهم
في الصباح دخلت ميري غرفة لمار لتعيد الأشياء إلى محلها وتغطي الأثاث عن الغبار
تفقدت الغرفة فوجدت في الدولاب علبة صغيرة وبجانبها كيس
إنها العلبة التي ....
نعم العلبة التي أهدتها لمار قبل عامين
وفتحتها فإذا بالصليب ذي السلسلة الذهبية يرقد فيها
فقالت في نفسها : أوه يا لمار أحببناك رغم عنادك وتمسكك بدينك وها أنتي ترفضين الصليب حتى اخر لحظة
لم تأخذيه ولم يغريك الذهب ... يا لقوتك يا صغيرتي!
أخذت الكيس لترى ما في داخله ... فوجئت بأنه يحوي كتبا عن الإسلام باللغة اليونانية
أخذت تقلبها وتقرأ عناوينها وتسأل نفسها: ما الذي أوصل هذه الكتب ليد لمار؟؟
فهي لا تكاد تعرف أحدا .. فكيف وصلتها هذه الكتب؟
أخذت الكتب ووضعتها في الصالة .. لقد شدتها وقررت أن تقرأها ولكن بعد أن تنتهي من تنظيف المنزل
بعد يومين اضطر أبو أحمد للعودة للمدينة ومعه أبناءه الأربعة لمياء وعمر ولمى ومحمد حتى لا تفوتهم المدرسة يوم السبت وترك لمار في المستشفى مع زوجته أم عمر كمرافقة حتى تخرج
بعد أسبوع سمح الدكتور لأم عمر بالخروج فقد تعدت مرحلة الخطر وبإمكانها السفر لتعود إلى المدينة
اتصلت لمار بأبيها ليأتي ويأخذهم من المستشفى ومن ثم يعود بهم إلى المدينة
كانت لمار خلال هذه الأيام تقارن بين أمها الحامل والمتعبة وبين خالتها التي زارتها في المستشفى في اليونان
أم عمر تختلف كثيرا عنها في كل شيء .. ثم تذكرت أن أخاها أحمد له أم مختلفة فهو ليس شقيق ..
ولكن ما الرابط في كل ذلك؟ لماذا سافرت مع أخيها أحمد إلى اليونان؟
لماذا أصرت تلك المرأة على رؤيتها؟ لماذا قال لها الدكتور يوسف اكتبي ابنتك على بطاقة الإهداء؟
باختصار لماذا كل هذه الأحداث الغريبة؟
أحست أن أمرا ما قد أخفي عنها
وأن هناك حلقة مفقودة؟
طيلة بقائها مع أمها وهي تتأملها وتتأمل حركاتها وتقارن بينها وبين تلك المريضة التي قررت أن تسميها (خالتي)
لماذا لم تجبها تلك المرأة عن أسئلتها وقالت لها إذا رجعت لأهلك اسأليهم عن الحقيقة؟
وعن القرابة بيننا... إذن هناك حقيقة وقرابة بينها وبين تلك المرأة لم تكتشفها بعد؟
وقررت في نفسها أمرا وذلك بعد أن تعود إلى المدينة
جهزت لمياء ذات الاثني عشر عاما المنزل استعدادا لاستقبال والديها وبصحبتهم لمار ، فاستعانت بالخادمة في ترتيب المنزل وإعداد كيكة كتب عليها سلامتك يا ماما
وأعدت العصير ... كما أنها أعدت هي وعمر غرفة لمار لتكون مفاجأة لها إذا دخلتها
بعد صلاة العشاء دخلت لمار مع والديها المنزل بعد غياب طويل .. دارت بنظرها في أرجاء منزلهم الجميل والذي لم يتغير بعدها كثيرا
انطلق الصغار لوالديهم ومن ثم إلى لمار ليضموها ويقولوا : الحمد لله على سلامتك
سحب عمر يد لمار وهو يقول : لمار تعالي شوفي غرفتك .. ولكن لمياء نهرته وقالت: ما قلنا موب الحين ... بعد العشاء .. إذا جت تنام لمار نوريها غرفتها
فرجع إلى الوراء بخجل وقال: طيب
000000000000000000000000000000 0000000
كانت لمار ولمياء تشتركان في غرفة واحدة وبعد غيبة لمار انفردت لمياء بالغرفة إلى أن جاءها خبر عودة لمار
وقفت لمياء أمام باب غرفتهما وهي تقول للمار : قفلي عيونك
- طيب
- لا تشوفين
- ما راح أشوف .. بس خليني أدخل ... اشتقت لغرفتنا كثير
قادت لمياء أختها الكبرى إلى الغرفة التي أطفئت أنوارها وأشعلت بداخلها الشموع
ولما صارت في منتصف الغرفة قالت لها لمياء: الحين فتحي
فتحت لمار عينيها فإذا بالشموع موزعة في كل مكان ... على التسريحة والمقعد والنافذة والسرير والكومدينا وعلى مكتب الدراسة
وكل شمعة مثبت تحتها ورقة
اقتربت من الورقة المثبتة تحت الشمعة التي على التسريحة فإذا مكتوب عليها بخط طفولي رديء ( لمار اشتقت لك كثير ارجعي لنا .. ارجعي ومشطي شعري .. تذكرين يوم كنت تمشطينه؟)
ثم أخذت الورقة التي على المقعد فإذا مكتوب عليها ( لمار ارجعي وخوذي الكرسي لك .. ما عاد اخذه منك .. بس ارجعي لنا)
وعلى السرير ورقة كتب عليها ( لمار سريرك يخوف وأنت منتي فيه .. كل ما أقوم وأشوفه فاضي أبكي)
وعلى النافذة ورقة كتب عليها ( لمار أحبك وأتمنى أشوفك ... وين أنت الحين؟ .. تسمعيني لمار؟؟)
في الدولاب رتبت ملابسها التي كبرت عليها بطريقة أنيقة وحقائبها المدرسية وأحذيتها
كل ما يخص لمار حافظت عليه لمياء حتى تبقى ذكرى أختها في قلبها حية على الدوام
سألت لمار أختها باستغراب : كيف سويتي كل هذا؟
- كنت أكتب في دفتري كل شيء .. كل كلام ودي أقول لك إياه ... ويوم رجعنا من الرياض بعد ما جيتي فكرت أقطع الأوراق وأوزعها في كل مكان عشان تصير حركة تعجبك
- عبقرية يا أم الأفكار أنت
استرخت لمار في سريرها الذي افتقدته واشتاقت إليه ونظرت إلى أختها التي نامت وهي تسمع حكايات لمار عن اليونان فعدلتها لمار وغطتها ثم أوت إلى فراشها
تعليق