وذلك أن الإنسان مكرم على باقي الكائنات والأشياء، فكان ضرورة أن يملكها ولا تملكه، وتكون خادمة له لا خادما لها والصوم عند التحقيق تحطيم لأغلال الشهوات ودوافع الأكل والشراب فهو قطع لأسباب الاسترقاق والتعبد لغير الله تعالى، وانعتاق من أسر الأشياء التي تملك أرباب الحظوظ والشهوات وفي هذا عبرة لمن سار جاهدا في تحصيل حظوظه ومصالحه العاجلة، وهو لا يدري أنه قن لها، تملكه وتستعبده، بل إنه مزايل لحقيقة الخلافة في الأرض، إذ الخليفة لله عز وجل لا تملكه الأشياء لكن إذا استغرق في حظوظه فقد أقلب الحكمة، وصير الفاعل مفعولا، قال تعالى:﴿ أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين﴾، فإما عبادة للإله سبحانه، وإما دينونة للهوى: ﴿ أفمن اتخذ إلهه هواه﴾ .
والمقصود : أن مدرسة الصوم تورث الحرية من الرق للهوى، ليكون الإنسان عبدا لواحد أحد، لا عبدا للشركاء والالهة المتعددة التي هي قاصمة لقلبه، ساعية لتمزيقه إذا هام بها حبا
فإن زاد في الصوم زادت حريته، ما لم يخرج إلى ضرر بالنفس والعقل، بل الكمال المحض في حق الإنسان أن يملك الأشياء ولا تملكه، ويسترقها بالخلافة ولا تسترقه، إنه إعلان لحرية الإنسان في هذا الشهر المبارك، فلله الشكر على بركة الصوم وفضائله.
وذلك أنه إذا صام الإنسان، صفت روحه، ورق قلبه، وقوي فهمه، وانكسرت نفسه، وضعف سلطان الغضب والهوى، فأصبحت الروح راجحة عن نوازع الجسد
هذه الروح عند التأمل هي سبب تكريم الإنسان لا محالة، قال سبحانه: ﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ ،
في هذا الشهر المبارك
تجد الروح جاذبة الإنسان إلى أصلها ومنبعها، مذكرة إياه بمنصبه ومركزه وغايته ومهمته، والعالم الذي انتقل منه بسبب الأكل -أكل تفاحة-! فترى اللبيب غير راض عن ثقل المادة، ميالا إلى صفاء روحه وخفة معدته، مدركا أنه ما ملأ ابن ادم وعاء شرا من بطن ، و أن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء
مقتفيا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ما شبع من طعام ثلاثة أيام حتى قبض ، ونهج صحابته الكرام الذين جاعوا كثيرا وتقللوا من اللذات، لأن الله لا يختار لنبيه ولا لصحابته إلا أكمل الأحوال وأفضلها، بخلاف من ضعف سلطان روحه، واسترسل في اقتناص شهواته، ورتع فيها رتع البهائم السائمة، فجن بها جنونا عظيما وانصرفت همته وذكاؤه إلى التفنن في ألوان الأطعمة والإكثار منها والتهامها وانهضامها، ثم التهيئ لوجبة أخرى قادمة حتى أصبح الإنسان الغربي خصوصا وهو في أوج مدنيته وارتقائه الحضاري، كحمار طاحون لا يدور إلا بين المطبخ والمرحاض! قال سبحانه: ﴿ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم﴾ .
وما أجمل الإعلان الماركسي
لحقوق الإنسان الذي زعم بأن مطالب الإنسان الأساسية هي الطعام والشراب والمسكن والجنس! وهي مطالب للجسد لا غير، فإذا انحصرت هذه الرؤية الشوهاء للإنسان في مجتمع ما، صار مجتمع البهائم فقط أو مجتمع الأشياء، وحقا إن الإنسان الذي أسجد الله له ملائكته، وكرمه على باقي الكائنات عاش تشييئا فضيعا في هذه المجتمعات، وظلما ساحقا لإنسانيته بإهدار جانب الروح فيه، فترى المسكين مسوقا إلى طاحونة الإنتاج قصرا لتوفير المطالب البهيمية! ليقضي حياته في شقاء دائم، وأرق مستديم، وقلق عميم، وعقد نفسية، لأن المذاهب المادية الأرضية أزالت أنفس ما في الإنسان، والجوهر الذي به تميز عن باقي الكائنات، وهو جانب الروح الطليقة التي تخف بالصوم في هذا الشهر المبارك.
وذلك أن الصوم من أوصاف الربوبية، لا يتصف به على الكمال غيره سبحانه كما قال عز وجل:﴿ وهو يطعم ولا يطعم﴾ ، وكما ورد في الحديث الصحيح: (الصوم لي وأنا أجزي به) ،
أي لا متصف به إلا الله، لأنه الغني عن الكل أبد الابدين، ودهر الداهرين، والمنزه عن جميع الأعراض والشهوات أزلا وأبدا، ولا يتصف بهذا إلا الله، ومن سواه لابد له من أكل أو عرض، ملكا كان أو غيره، لأن الملائكة طعامهم التسبيح وشرابهم المحبة الخالصة والمعارف الصافية
ولما كان الصوم وصفا إلهيا فهو من أصعب الأشياء على النفوس، لأنه على خلاف ما جبل عليه الناس من مادة تستلزم الإطعام،
ومن تم فمن صام فقد اتصف بتلك الصفة على قدر طاقة الإنسان، ووقف عن تحصيل حظوظ النفس بل استغنى بالصوم عنها كما قال صلى اللهعليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس. )
قلنا بأن الإنسان جسد وروح، وإذا تغلبت الطبيعة الجسدية على طبيعة الروح، وملكت زمامه وتحكمت فيه، أنشأت أسدا هصورا، وضرغاما مروعا، لا هم له سوى مصالحه المادية وإرضاء شهواته البدنية، لا يعرف لذلك حدا ولا نصابا، فلا يكفيه ما عنده من خيرات بل هو متوجس خائف حتى يؤمن احتياطاته خوفا من نفاذ الزاد& فإذا هدد في مصالحه، أو وجد عقبة تحول بينه وبين ضالته المنشودة، أقام حروبا مروعة، واقترف جرائم بشعة، ومظالم مخزية في حق إخوانه وبني جنسه، وما تاريخ الحروب الإنساني إلا قصة الجشع الفردي، والاستكبار في الأرض، لكن مدرسة الصوم تغيث الإنسانية الحائرة المهددة بالمادية الطاغية، وتفتح مغاليق القلوب الغافلة المجهدة لتنفي عنها طغيان الشهوات وقسوة المعدات،
بل إن دور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورثتهم الكمل:
إنما هو تهيئ الإنسان إلى الكمال المطلوب الذي هيئ له وهو الولاية، وإكمال المهمة التي أهبط لها في الأرض وهي الخلافة، وتربيته على نشر الرحمة، والسلام الحقيقي، والتالف بين البشر بكبح جماح الشهوات المادية، ليكون الناس كلهم عبيدا لله اختيارا كما أنهم عبيد لله اضطرارا.
تعليق