مضت شهور سعدت فيها للغاية بعلاقتي بحليمة . واعتقدت فيها أني توصلت إلى حلول لبعض المعادلات الصعبة التي طالما أرقتني , ونعمت فيها براحة نفسية مديدة, وأكثر ما كان يعجبني في حليمة ثقافتها البسيطة وقلة اهتمامها بما يجري خارجا وكانت دوما تردد:
-لن يصيبنا إلا المكتوب لنا
ولتعلقي الشديد بها فقد حرصت على تلبية بعض احتياجاتها , ومساعدتها في مصاريف كراء الغرفة والتي أصبحت أستغلها معها .
أما فارق السن بيننا فلم يشكل أي فرق بالنسبة لي, بل على العكس ,آثر في ذلك رغبة زائدة في جسدها الناضج وجعلني أنعم بتجاوب كبير منها بل قلت مع نفسي مرارا وأنا أستعيد بعض لحظاتي معها:
-ما أقسى ما عانيته قبلها وما أشد سعادتي بأيامي في حضنها
ومع بداية الأسبوع الأول من شهر يونيو, ومع اشتداد الحرارة فكرت في تجهيز الغرفة بمكيف ,وقلت ساخرا ما أسعدني بهما معا , حليمة والمكيف.
ثم كان أن تلقيت استدعاءا من مديرة الفرع ,وخلته في البداية اجتماعا دوريا من الاجتماعات التي تعقد بصفة دورية على مستوى الشركة , لكن بوصولي أدركت أن الأمر مختلف ولم يكن أحد غيري بالمكتب , ونظرت إلي نظرات باسمة من خلف نظاراتها الخفيفة فذكرتني بعائشة خصوصا بشعرها الكستنائي الجميل والخفيف وقالت:
-كيف حالك سيد حسن.. وما أخبراك فوق ألا نسمع صوتك حتى نستدعيك
وركبني خوفي و وجلي الشديد, وهو شعور ينتابني أمام كل إمرة جميلة مثقفة ,ثم صعد إلى شعور بالمرارة والخزي وأنا أتأمل اضطرابي أمامها , و أقارنه بشدتي وثقتي الزائدة مع حليمة وقلت في قرارتي:
-لست إلا ذئبا متضورا يقتات على لحم تلك المسكينة .
-هل أنت معي
لم أنجح أبدا في إخفاء ارتباكي أمامها وقلت:
-نعم سيدتي أنا رهن إشارتك
ثم عدت للغوص في بحر حيرتي
- يبدو أنك لم تتغير أبدا عن أول يوم حضرت فيه للاشتغال معنا, وها أنت تشغل منصب رئيس قسم ومع ذلك تخرج الكلام بالملمتر.
تململت في مكاني وقلت :
-أسف سيدتي ليس إلا ..
وكنت على وشك أن أقول خوفا من المجهول لكني سحبت لساني ... ما من مجهول أبدا هنا وهذه ليست إلا المديرة, وما بال أطرافي ترتعش كأنها ستزج بي في السجن , ثم حضرتني كلمات الأغنية القديمة وصورة ابنة الجيران الشعتاء.
-لا عليك, مع صمتك واعتكافك بقسم الأرشيف أعلاه, لابد لي من الاعتراف بكفاءتك وإخلاصك وانتظام القسم الذي تشرف عليه.
-هذه شهادة أعتز بها سيدتي.
-هل تأخذ معي كأس قهوة دافئة.
-على الرحب والسعة
وشربت القهوة , وأنصتت لما قالته المديرة , وخرجت من مكتبها مصدوما , تنتابني أوجاعي , وقلت ساخرا :ها قد عاد القدر لمشاكستي من جديد ,ولن أنعم بعلاقتي بحليمة كما أعتدت بعد أن أشعرتني المديرة بتعييني في مهمة بمدينة طنجة لمدة ثلاثة أشهر من فصل الصيف .
موسى فرح للأمر و هلل له وقال:
- هذه فرصة لتقلع عن إدمان يركبك
ومحفوظ سخر مني وقال :
ما عليك إلا أن تطوف الشوارع وتبحث عن مسنة أخرى تناسبك
ونفسي حدثتني من جديد بحيرة قادمة , وأيام غريبة قد أعود فيها إلا حزني القديم ويأسي المتهالك, وذرعت غرفتي ذهابا وإيابا من شدة غيضي, وانتابتني رغبتي الجامحة في فتح النافذة وإطلاق حنجرتي للعواء ثم قلت:
- لا طاقة لي في قضاء أسبوع على الأقل بدونها فكيف السبيل إلى ثلاثة أشهر وهل سأقضي المدة في ذهاب وإياب بين مدينة أسفي ومدينة طنجة ....لعلها رحلة مضنية وما من حل إلا مرافقتها لي ,وأكدت العزم وعقدت الأمر...وأقفلت النافدة دون صراخ وقلت:
- إما أن ترافقني أو أعتذر عن المهمة وهذا ما قضت به الأقدار
ومساءا حين جمعتني الجلسة بحليمة استغليت فرصة طربها ودندنتها على إيقاع جهاز الموسيقى فيما كانت تعد لنا وجبة عشاء خفيفة وقلت:
-سأسافر للعمل بمدينة طنجة وقد قررت أن ترافقيني ...وليس الأمر إلا قدرا محتوما
والتفتت جهتي فواجهني محياها وبدا منها بعض الانزعاج, ووضعت جانبا ما كانت تعده وقالت:
-إما أنك مجنون أو أنك تريد أن تجنني
-ليس إلا قدرا محتوما
-لن أغادر غرفتي أبدا
-ستكون فرصة لتزوري مدينة طنجة
-الأمر يتعلق بعملك وعليك أن تكون أكثر حزما,
-بعيدا عنك ستنهار أعصابي
- مهما كان لن أغادر ولن أتخلى عن عملي وناسي .
-سأعوضك عن ما لحق بك من خسارة في عملك
-سأخسر أشياء لا تقبل التعويض إذا رافقتك
-هل لي بمعرفتها
-يكفيك ما عرفته عني
-هل أطالب بأشياء ليست من حقي
-لا أحد يعرف حقه اليوم
-إذن هل نغادر معا
-أبدا
وفي اليوم المولي كان علي أن أشحذ كل قوتي , وطلبت مقابلة المديرة , ,اختصرت الكلام دون أي مقدمات وقلت واقفا:
-سيدتي أرجو أن تعذريني ..لن أستطيع الانتقال لمدينة طنجة من أجل المهمة المذكورة
-وبدا عليها الانزعاج وأخفت غضبا بدأت معالمه تطفو على وجهها وقالت:
-سيد حسن هل من عذر منطقي نقدمه للمركز , فأوراق تكليفك تم إنجازها , وقرار مثل هذا لا يخدم مسيرتك المهنية .....هل تعي هذا ثم إن الأمر ليس إنتقالا , ما هي إلا مهمة لأشهر الصيف..
وغادرت مكتبها واقفة وقالت وهي تلوح بيديها معا :
-هذه ثقة نضعها فيك ...المفروض أن تكون في مستوى الثقة
-ليس إلا قدرا محتوما سيدتي وأرجو أن تعذريني
وعم صمت أعرف مذاقه جيدا , ونظرت جهتي لفترة طويلة وقالت:
-لابد أنك شخص غريب
ثم غادرت المكتب لا ألوي على شيء يتقاسمني شعور بفرحة أبدية , وشعور بخزي ملعون ,وحملت هاتفي وأخبرت موسى بما أقدمت عليه فلم يزد رده عن كلمة واحدة
-مجنون
وقلت لنفسي مطروبا في قسمي بالأعلى:
-ما أشد ما تعج به النفس البشرية من خلجات ,وإنه لغريب أن تطفو إلى الأعلى قرارات ملعونة في أوقات غير مناسبة, وتختفي تلك القرارات في الأوقات المناسبة
الفصل السادس عشر
مضت أيامي مسرعة وتشابهت , وأصبحت أقضي غالبية مساءاتي في غرفة حليمة ,ومنا إلى مقهى النجمة العتيدة , موسى توقف عن نصحي ومجادلتي وزاد من حالته أنه أكتشف إصابته بارتفاع في مستوى السكر والضغط , وأثر ذلك على نفسيته خصوصا أن طليقته منعته من زيارة ابنته, ومع السكر والضغط أصبحت أنا ومحفوظ لا نرد عليه إلا بالإيجاب, ويوما ساءت حالته للغاية ,وتبعته للمستشفى بعد أن أخبرني محفوظ بالأمر , وأخبرنا الطبيب أنه أصبح بحاجة إلى حقن الأنسولين وعليه الانتظام في أخدها ,وثم الاحتفاظ به في المستشفى لمدة يومين ,وسألته وشعور كبير بالعطف ينتابني اتجاهه:
-هل أخبر عزيزة بالأمر ربما عليها أن تحضر لزيارتك رفقة ابنتكما ؟
ونظر إلي نظراته الغريبة اتجاه الأفق المفقود وقال:
-ما كنت لأرغب في رؤيتها وأنا في كامل قواي فكيف الآن وأنا طريح الفراش.
-الأمر يختلف والصحة والمرض من أمور الله
-كل شيء لله
-إذن هل أخبرها؟
-أبدا
-أتراه أمرا معقولا ؟
-نعم العقل ما أقوله
-الأعمار بيد الله
-أفضل الموت على رؤيتها لي هكذا ولا حاجة لي بشفقتها .
-ألا ترغب في رؤية ابنتك؟
وسالت دمعة من عينه ,وشقت طريقها على جانب خده فأشفقت عليه ولعنت في نفسي كل نساء العالم وقلت:
-هل أخبرها وندع الأقدار تفعل ما تشاء؟
-أبدا أبدا لن أسمح لها برؤيتي وأنا في حالتي
-أعطني فقط رقم الهاتف ولا عليك وثق أني سأحضر ابنتك لرؤيتك
وبابتسامة ساخرة فتح هاتفه وأعطاني الرقم ,ثم خرجت إلى البهو وركبت الرقم ناويا أن أستعطف عزيزة لتسمح بالبنت برؤية أبيها , لكن الهاتف كان مقفلا وغير مشغل , ورغم محاولاتي العديدة لم أفلح في ربط الاتصال , فعدت إليه ووجدته مبتسما ودمعته تتلألأ على خده وبادرني قائلا وملامح يأس قاتل تغطي صفحة وجهه :
-هل عرفت إذن ... حتى الهاتف قطعته وحرمتني من كل اتصال بابنتي لا سامحها الله .
-يا لها من أقدار غريبة للغاية
وقضيت معه طيلة يوم السبت , إلى غاية أن سمح الطبيب بمغادرته مساءا فحملته وأخذنا سيارة أجرة وحملته إلى منزله ,وقد بدا في حالة أحسن من الأمس , تم ودعته ولا وجهة لي بعده غير حليمة .
في طريق صعودي أدراجها التقيت محفوظ نازلا , وأحاط بي ا لعجب وتساءلت عن سب وجوده هنا , وأكملت صعودي وأنا في غاية العجب دون أن أسائل نفسي أكثر مما يلزم, لكن بدخولي الغرفة شممت رائحة السجائر ,وحليمة لم يبد عليها أي انفعال حين سألتها:
-أكان معك شخص أخر هنا؟
انفجرت ضاحكة ضحكتها الفاجرة المثيرة وقالت:
-شخص مثل من ومن سيكون؟
-محفوظ مثلا
-لا أعرف شخصا بهذا الاسم
-لكني صادفته في درج العمارة نازلا
-إنها أدراج عمارة ولا أحد يعرف الصاعد فيها أو النازل
ثم وأنا أشير إلى مطفأة السجائر بيدي :
-أليست هذه أعقاب سجائره هنا, أم تراك تعلمت التدخين اليوم
-وبدا عليها قليل من الارتباك وقالت وهي تلفني بذراعيها :
- لما ذا تشغل بالك بأمور بعيدة عنك؟
-هل تعتبرين الأمر بعيدا عني ؟
- إن كنت تريدني فأنا معك الآن وحدك.
-وصعدت إلى وجهي سخونة قاتلة ودفعت ذراعيها وقلت
-نعم لكن ليس بهذا الشكل أنت لي وحدي
وانفجرت من جديد ضاحكة و تراجعت للخلف والتزمت أقصى الغرفة وقالت :
- لماذا لا تلعن الشيطان في هذه الليلة ؟
-لا شيطان غير الإنسان
- أنت تبحث في أشياء لا تهمك
ثم وهي تجلس على طرف السرير
هل سألتك يوما مع من كنت أو من تحادث
-إذن هذا اعتراف منك
-لا سلطان لك علي لأعترف أو لا أعترف
-هل هذا معقول
-بل هو نعم المعقول
-بل هو سلطان الحب
-ليست إلا رغبة زائفة وستنقضي حين يبلى جسدي
-بل هي رغبة حقيقية
-أنت لم تجرب الزيف لتعرف الحقيقة
-يكفيني ما عرفت معك
-وها هي معرفتك تتدخل في شئوني
-أليس لنا شأن واحد
-لكل شأن يخصه
- وهل لمحفوظ أيضا نفس الرغبة الزائفة
-ذلك أمر يخصه
-لكني أحبك
من جديد تنفجر ضاحكة وتقول وهي تتمدد على السرير
-لماذا لا ترحم نفسك وتأتي هنا .
-جواب منك يرحمني
-لا جواب عندي لمن لا سلطان له علي
-إذن نتزوج
-ونظرت إلي وقد صعقها ردي وقالت :
-لابد أنك مجنون
-جننت يوم عرفتك
-ربما علينا أن نوقف كل شيء قبل أن تسوء الأمور
-ستكون نهايتي
- أنت شخص غريب وأحيانا تخيفني
-لن أتخلى عنك مهما كان
-لا شيء بيننا يدعوك لكل هذا التعلق
-بل أنت كل حياتي
-لابد أنك تمزح
وأخذت يديها بين شفتي وقبلتهما وقلت وأنا أمسح بهما وجهي:
-أرجوك لا تتخلي عني
-ومحفوظ
في حسرة لاهبة قلت
-لا شأن لي به
ونظرت إلي نظرات جامدة دون أن تحرك وجهها فقلت:
-ولا بغيره أبدا
لا أعرف إن كان إحساسا صادقا, أم أن الأمر مجرد خيالات وتهيؤات , وقلت لنفسي أني إذا وصلت لمرحلة التهيؤات بهذا الشكل فقد لامست طريق الجنون بحق.
الهمسات كثرت حولي في مقر عملي , وأصبحت أسمع جملا وتعليقات لا عهد لي بها ,وتكررت الجمل غير المرة مرات من قبيل : ويلك من المشتاق إذا ذاق , وامسحيني يا منشفة .
وكلمات مثل هذه كانت تثير غضبي للغاية , ومع هدوئي المنسوب وعدم مبالاتي بما يدور حولي فقد فقدت زمام أمري , ولم أعد أستطيع التحمل أكثر .
ويوما وبمجرد تجاوزي بهو الاستقبال حيت كان بعض المستخدمين مصطفين أمام آلة التنقيط اليومي , تجاوزت الجميع بحكم أني رئيس قسم وقلت موجها خطابي لمن سمع منهم أو لم يسمع :
-صباح الخير يا كرام
وسحبت ورقة التنقيط اليومي ويممت إلى المصعد, غير أني أذناي التقطت صوتا هامسا قائلا:
-صباح المنشفة والسطل
واستدرت وموجة من جنون الغضب تركبني , ودون إدراك مني تعريت من هدوئي المعهود , وبدأت في كيل الشتائم والسب للجميع دون تمييز , ودفعت أقرب مستخدم بيدي على صدره وكان عبد الستار أبو لوزة حتى تهاوى و تراجع , وسقط بين يدي نجاة شركر الواقفة خلفه,
وقلت :
-لا شأن لكم بي , وليهتم كل شخص بشئونه
وأضفت وأنا أمسح المكان بناظري يمينا وشمالا
-أنتم جماعة من الحمقى والمنبوذين
وراقبت عبارات الدهشة على محياهم جميعا , وبدوا كما لو أن صاعقة ضربتهم وشتتتهم, ثم وليتهم ظهري وانصرفت.
ولم يمضي على الموضوع أكثر من دقائق حتى وجدت نفسي أمام المديرة من جديد , واختفت هذه المرة عبارات الترحيب التي استقبلتني بها , وبدت أكثر حزما وأشد غضبا, ولم تدعني حتى للجلوس , فنظرت إليها نظرات فائرة وسحبت الكرسي وجلست أمام نظراتها المستغربة , وبدا أنها احتارت في أي شيء تفعله بموقف مماثل , فضغطت الزر يمينها وطلبت حضور عبد الستار أبو لوزة رئيس قسم المستخدمين والعاملين , و في ظل صمتها المحير لدقائق , وضعت رجلي فوق الأخرى في غير مبالاة وقلت:
-إذا سيدتي هل طلبت رؤيتي
وبدا عليها بعض التشتت وقالت من خلف نظاراتها :
-دقيقة من فضلك لعل السيد عبد الستار يشاركنا الكلام بحكم وظيفته
وقلت وأنا أتنفس بعمق
-فليكن.. وها أنا بالانتظار و ليجازي الله عبد الستار وغير عبد الستار
-أقلت شيئا
فأجبت وأنا ألعب بمفاتيحي وأضرب بها على كعب حذائي
-تختلف الأقوال والحقيقة واحدة
-هل أنت على ما يرام
-لا أحد يبلغ المرام ومن بلغه فهو من الصفوة
وبنفس دهشتها وحيرتها قالت
-هل وقع شيء لا علم لي به
فأجبتها مع ضربات متتالية بمفاتيحي على كعب حذائي :
-المنشفة و السطل
وفغرت فمها في دهشة بالغة, واتسعت عيناها ,وأعادت الضغط على الزر بارتباك مفضوح مستعجلة حضور السيد عبد الستار , وكان أن دخل يعرج ويجر قدمه اليسرى وقد نزع بذلته الفوقية , فطلبت منه المديرة الجلوس وقالت موجهة خطابها لي :
-هل أعرف بالضبط ما حدت سيد حسن
-أرجو أن تسألي السيد عبد الستار
-أنا أسألك أنت
-إذا لا علم لي بما حدث
-ألم تدفعه حتى سقط على ظهره
-بل سقط بين يدي نجاة شركر, ولم يلامس ظهره الأرض, ولا حاجة لأن يعرج كأن قطارا صدمه
- إذن أنت تعترف و نجاة شاهدة معه .
-فلتشهد بما رأت وسمعت , كلنا سنشهد أمام الله وما هي إلا أقدار محتومة.
وضلت نظرات السيد عبد الستار مركزة على قدمي التي رفعتها فوق الأخرى فأضفت:
-البادئ أظلم
-هذه إدارة سيد حسن و ليست غابة
-وليست أيضا مكان للسخرية من العاملين
-إذن هل سخر منك أحذ العاملين
-مرارا حتى فاض بي الأمر, وأخرها المنشفة و السطل
ولم يبد على عبد الستار أي رد فعل على كلامي فيما قالت المديرة :
-لم أفهم ماذا تقصد بالمنشفة و السطل
وأشرت إلى عبد الستار بيدي وقلت :
-هو يعرف ............ وفي النهاية الأمر كله قدر مكتوب
وبدا عليها الامتعاض وتوجهت إلى عبد الستار وسألته:
-سيد عبد الستار ما قصة المنشفة و السطل؟
-وأجاب والدهشة تغلف وجهه
-والله سيدتي لا علم لي هذه أول مرة أسمع فيها هذه القصة
فقاطعته قائلا:
-لا تكن كاذبا وأنت رجل أشيب , لقد كنت حاضرا
وزادت دهشته أكثر وقال:
-كان الله في عونك يا ولدي
- وأجبته في حنق
-طريق الله مفتوح لعباده جميعا , ولا حاجة لي لدعائك
و قالت المديرة كمن وصلت لطريق مسدود مخاطبة عبد الستار:
-لننهي الحديث هنا تجنبا لأي خلافات
وأضافت :
-أعتقد أن علينا أن نعطي للأمور طابعها الرسمي , والسيد حسن مدعو لقسم الموظفين للإفادة بما وقع بطريقة رسمية لأن أمورا مثل هذه لا مجال لكتمانها عن الإدارة .
ونطق السيد عبد الستار قائلا:
-سيدتي أنا سامحته ولا أريد منه شيئا , وعفا الله عما فات
وردت عليه قائلة :
-ليس الأمر بيدك ولا بيدي أنا , وسأكلف نائبك عبد الحميد سمارة ليقوم بالأمر عوضا عنك ما دمت طرفا في الموضوع .
-فلتكن مشيئتك سيدتي
وخاطبتي قائلة:
-هل سمعتني جيدا سيد حسن
وأجبتها حانقا :
-لا مشيئة إلا مشيئة الرحمن .
و ثارت ثائرة نفسي وقد أدركت أن الأمر بهذا الشكل إدانة لي وقد يسئ إلى مركزي وعملي أو يتم تنقيلي فقلت :
-الأصل أن تبحثي عن العدل والإنصاف سيدتي
وقال عبد الستار موجها كلامه لي :
-عني أنا سامحتك ولا أريد أن أتسبب لك في أي مشكل بعملك وقوت يومك.
-لا حاجة لي بمسامحتك ولا بدعائك أبدا
-فلتكن مشيئتك يا رب
وغادرت عملي بعد نهاية دوامي ولا سبيل لي أبدا غير غرفة حليمة ,وحملت في طريقي ما وجدت من فاكهة ومشروب وقطع كفتة ساخنة على الفحم ,وعند وصولي رميت لها بما حملت ,وضممتها إلي قائلا:
-أنت عزائي الوحيد في دنياي, وها هي الأقدار تعاندني من جديد, ودونك لن أكون إلا ضالا شريدا
الفصل الثامن عشر
في ساعة متأخرة للغاية غادرت غرفة حليمة وموجة حيرة تنتابني, ليست أول مرة أعاني فيها من حيرتي , ولن تكون الأخيرة ,وطوال مشوار حياتي الممتد بعمر 3 عقود ما عانيت أكثر من شيء بقدر ما عانيت من الحيرة , الحيرة الدائمة, والخوف من المجهول الأبدي , وجهان ليد واحدة تصفعني المرة تلو المرة,
قطعت شارع المقاومة حيت أسكن دون وعي مني , وأطلقت رجلي للطريق , ومع جو الصيف الخفيف وبدلتي الخفيفة ركبتني نشوة عابرة للمشي , فاستجبت لها وقطعت ما شاءت لي الأقدار من مسافة حتى كلت قدماي , وخفت على نفسي من لصوص الليل , فأشرت لأول سيارة أجرة وعدت أدراجي إلى منزلي ,و انتابتني من جديد رغبة قاتلة في الصراخ من أعلى نافدتي , وتشتت أفكاري كصفحة طمس مدادها بالماء وقلت عن يقين مقطوع:
لا محالة أني دخلت دوامة التيه الأبدي , وإن لم أجد حلا سأضيع كل شئ لأبد الأبدين ...........,الحيرة لا تكاد تنفك عني , ومع تعقد الأمور في عملي بدأت نفسيتي تتعب , وحقائقي تذوب , ويوما ما سأجد نفسي بدون عمل ولن تنفعني أفكاري السوداء ,
وكنت أدرك أن لا مفر لي من الإقلاع عن غرفة حليمة وطرق باب الزواج وهو ما قاله موسى مرارا وأخر مرة قال:
-إن لم تسرع بالزواج وقطع علاقتك بحليمة ستهد في لحظة ما بنيته في سنين
وكنت أعرف أن كلامه منطقي , وأن الطريق الذي أسير فيه لابد سيوصلني إلى نفق مسدود موحل, وكم من مرة قررت التوقف عن زيارة غرفة حليمة وقطع علاقتي بها, لكن الصراحة المرة هي أني عجزت ولم أستطع مقاومة أغرائها أبدا , وبالرغم من تصميمي المبيت , فإني كنت أجد نفسي منقادا مغمض العينين إلى غرفتها بعد نهاية عملي .
***************************
عبد الستار ابو لوزة رئيس قسم الموظفين بالشركة , كهل قارب سن التقاعد,و لم تجمعني به يوما غير تحية المساء والصباح وطلبات الإجازة أو بعض الرخص أو اجتماعات نهاية الشهر , وغير هذا فربما طوال مدة خدمتي فإني لم أكلمه وجها لوجه غير ست أو سبع مرات , وصباح اليوم الموالي لا أعرف كيف وجدته أمامي بالطابق العلوي وبادرني قائلا :
- صباح الخير سيد حسن كيف الحال
وأجبت باقتضاب ومضض:
-بخير كم ا أبدو ..........سيد عبد الستار
- الحمد لله ....هذا عز المراد
ودفع الكرسي وجلس قبالتي وأضاف:
-ألا زلت غاضبا مني
وأجبت وأنا أمرر يدي على صفحة وجهي :
-لست غاضبا لكنك لم تشهد بالحق, وأنت سمعتهم سخروا مني
-والله يا ولدي ما سمعت شيئا , ولا نجاة سمعت ولا غيرها سمع.
إذن يبدو أني جننت
-حاشا لله ما هذا القصد
-ما من تفسير غير هذا
-لا حاجة لك لترهق نفسك بكثرة التفكير في الأمر
-لا أقبل السخرية أبدا
-الأمر مر ومضى وأنت شخص موهوب في عملك والكل يحترمك ويقدرك
-لا تجاملني سيد عبد الستار, أعرف ما يجول في خاطر المستخدمين
- كل شخص حر في تفكيره سيد حسن والأمر بسيط للغاية ,عليك أن تبحت عن فتاة صالحة وتتزوج وتنسى كل شيء .
-إذن أنت سمعت وتنكر, وإلا ما حاجتك في نصحي بالزواج
-الزواج حصن كل إنسان.
-لابد أنك تعرف ما أقصد وتمازحني
-يا ولدي إ أنت في سن مناسبة ولابد أن تجرب الزواج وستجد فيه حلا لمشاكلك
وتفحصت عينيه الباسمتين ووجهه المضيء وقلت :
-أشكر نصيحتك سيد عبد الستار
وأضفت في همس :
- أفكر في الأمر باستمرار لكني ......
ثم شل لساني
وقال :
-لديك مركز عمل مناسب وأجرة مناسبة إذا ما حجتك
للحظة بدا لي صادق النية , طيب العزم والتصميم , ولا أعرف لماذا تذكرت كؤوس البلار الثلاثة التي ورثتها عن والدتي , وبدأت أعد من الواحد إلى الثلاثة على أطراف أصابعي كأسا كأسا و قلت:
-لا شيء ....لا شيء أبدا غير الخوف, نعم إنه خوف يركبني من المجهول , ومن كل ريح قادمة, وإذا قدر لي أن أركب البحر ككل الناس فإن أول شيء سأفعله وأنا أصادف الريح أن أنزل شراع زورقي ......دون أي مقاومة ولا تجديف
وأضفت في حسرة ظاهرة وعيون السيد مركزة على شفتي :
ولو صحوت يوما ووجدت زوجتي إلى جانبي لهان الأمر وقضي, لكن أن أبدا المشوار من أوله أو أطرق باب إنسانة للزواج , هذا ما يخيفني ويرعبني
ورن هاتف عبد الستار وألقى نظرة على شاشته وقال:
-مرة أخرى أنا أعتذر لما وقع هذه يدي ممدودة لك
وصافحت الرجل وغادر وقد زادني كلامه تصميما على البحث عن زوجة والخروج عن طريق قد ركبني وركبته .
الفصل التاسع عشر
مقهى النجمة العتيدة أحب مكان إلى قلبي , وغاية مناي حين تشتد حيرتي وهناك يجمعني المجلس بموسى أو محفوظ الخائن الذي لا ينفك عن مؤانستنا رغم سوابقه
موسى قرر أن يزوجني وقال :
إن كنت صديقك فستقبل نصحي وإرشادي والزوجة جاهزة
-ما من إنسانة تقبل بي موسى
-لكل حبة مشتري ورزقك سيأتيك كيفما كنت
أنت لا تعرف عني أشياء كثيرة
-ربما لكل مشكل حل
- ............أنا أصحو في الليل وأصرخ وأعوي كالذئب, وأحيانا تنتابني موجات قهر تعمى معها بصيرتي, وأفكر في أشياء غربية
وضحك محفوظ حتى أستلقى على ظهر الكرسي وأخد رشفة من كأس قهوته وقال:
-هذا ما ينقصك ...العواء
فقلت موجها خطابي لموسى ومتجاهلا محفوظ :
-هذه أيضا مشكلة أخرى فأنا محط سخرية أينما رحلت
وربت على يدي وقال:
-لا أحد سيسخر منك إن قطعت علاقتك بحليمة , وكان يوما أسود يوم رافقتها إلى مقر عملك
-لتكن مشيئة القدر
-جميل جدا ماذا تقول إذا أخبرتك أن زوجتك جاهزة ولن تكلفك مليما واحدا
وراقبته بدهشة فأضاف :
-اسمع وأعطني أذنك, إنها ابنة أخي الأكبر من والدي الذي توفي قبل زواجي , عمرها 31 سنة تعيش في البادية , وتزورنا من الحين للأخر وتملك رفقة أختها ووالدتهما على قيد الحياة أراضي وعقارات منها المنزل الذي أسكن فيه والذي ورثثه عنه معهن .
ونظرت إليه نظرات جامدة فأضاف:
-عن الجمال أو الأخلاق لا تسأل أبدا وأترك الأمر علي
-ليس هذا القصد
-ستتوكل على الله
-أنا من أشد المتوكلين
-إذن متى تزورني في المنزل لتراها ولا شيء يجبرك لاتخاذ أي قرار, بل خد الوقت الكافي للتفكير
وهتف محفوظ قائلا:
-إن لم يرغب بالزواج بها أنا أتزوجها
فنظر إليه موسى نظرات باردة وقال:
-نحن لا نزوج بناتنا إلا للرجال
وخاطبني قائلا :
-ستكون بشارة السعد عليك وسيرزقك الله منها أطفالا
محفوظ غضب وقال أنه لا يقبل ان يمس في رجولته وموسى لم يبالي أبدا وقال لي :
لا أعرف سر تمسكه بالجلوس معنا وقد أصبحت لا أستسيغه أبدا
-أما أنا فقلت
-لا طاقة لي أبدا لطرده وقد ضبطته مع حليمة, فكيف أملك الطاقة الكافية لزواج جديد .............................رحماك يا رب ولتكن مشيئة العارفين.
******************
أمضيت أسبوعا كاملا أقلب الأمر على ضفته , وسألني موسى عن قراري ونحن جالسان في المقهى المألوف , وإلى جانبنا محفوظ ,وقد رأيت إبنة أخيه مريم بمنزله رفقة أختها ووالدتها وأعجبت بها للغاية فقلت :
-لا زالت أفكر
-ربما يطول تفكيرك أكثر من اللازم فتضيع منك
وقلت وأنا أنظر جهة محفوظ :
-إن كانت مقدرة لي فلن يأخذها غيري
- أحيانا تأتي الأفراح دفعة واحدة
-أو تأتي النوائب دفعة واحدة
-بعد زواجك لابد لك من التخلي عن تشاؤمك وفي النهاية لن تكون إلا مشيئة الله
- مفارقة تشاؤمي أمر بعيد
-إذن ما قرارك وقد رأيت الصبية
-لا زلت أفكر
-لا بد أني أرمي الدلو في بئر فارغة
-لكل دلو رزقها
وقال محفوظ
- زوجوها لي ........ يا قوم وكفاكم نقاشا
فنظرت إليه نظرات شرسة وقلت
-أنت تعبث في كل شيء ويكفي أني سامحتك وقد غدرتني مع حليمة
-كانت نزوة وأقلعت عنها أما أنت فغارق إلى أذنيك
-أنت جبان
-لكني لا أعوي كالذئب
ونهضت من مقعدي وقصدته , فحال موسى بيني وبينه وقال لي :
-أنا مشغول .... مشغول.... ولا وقت لي لخصامكما هل ستجيبني وقد رأيت الفتاة نعم أم لا
تعليق