الفصل الأول
إنه لأمر غريب أن أحمل القلم وأخط عباراتي الصغيرة , فالكتابة أمر لم ألفه أو أعتده , وفي حياتي لم أكتب يوما غير ما تمليه ظروف الصدفة من سطور ضئيلة
استغربت أكتر لهذا الشعور المتضخم في داخلي والذي يدعوني لحمل القلم والكتابة ,وكأني سأكتب رواية أو قصة تصدح لها الحناجر.. وغاية ما أردت رسمه حروفا دفينة لحزني المتهالك.
الحزن من مقدسات حياتي ودوما اعتبرته نهاية كل طريق سائرة , والألم رديف الحزن يلتقيان معا ويتبادلان بسماتهما الساخرة ,حولي وحين بلغت من سني 30 قلت ساخرا الألم أيضا من مقدسات الحيات الحزينة.
بحتت عن زوجة أكمل بها نصف ديني خصوصا بعد تخرجي وتعييني وكيلا بقسم التأمينات, ولا أنسى أبدا فالزواج لم يكن يوما من مقدسات حياتي ,ولأني كنت قليل التجربة في الجنس اللطيف فقد كان علي أن أستعين بخدمات شخص أخر أكثر خبرة ,لكني كنت وحيدا ولا أملك في دنياي غير دفاتري وكؤوس البلار الثلاثة التي أحتفظ بها من ذكرى والدتي.
فكرت كثيرا ولم أجد غير الحاجة أمينة صاحبة المنزل, فهي غاية المنى و تربطني بها علاقة كبيرة نوع خاص للغاية.. كانت علاقة سخرية مريرة منها لواقع حالي ,وعلاقة تقدير مني لها لصراحتها وعبثها وقوتها بعد سن 70
وكانت أمسية لطيفة من أماسي الخريف حين فاتحتها في الأمر
ولأختزل الكلام وأرحم نفسي من عذاب المقدمات قلت في شبه مرارة وأنا أراقب سحب الخريف الواهنة عبر النافذة:
-فاض بي الأمر وأريد الزواج ولا سبيل لي إلى محادثة أنثى أبدا بسبب خجلي
قاومت ضحكة كادت تنفجر من بين شفتيها ولم يبد عليها أبدا التعجب أو الاستغراب وقالت:
-يالك من شخص عجيب وغريب وكل يوم أكتشف فيك خصلة جديدة
, وكخبيرة في جنس الملطومين بالخجل وفي فن تزويج الجنسين قالت بصوت قادم من أعماق جسدها النحيل
-طلبك عندي بني ولأنك شخص طيب فلن تكون من نصيبك إلا الطيبة بنت الطيبين
وزادني جوابها جرأة وغالبت عذابي فحولت نظري عن السحب الواهنة وأضفت مختزلا كلامي في أوصاف العروس بعبارة واحدة:
-أريدها ممتلئة ناضجة وكاملة
وقلت في قرارة نفسي لا تطيب زوجة بعد سنين الصيام إلا الزوجة الناضجة الممتلئة
ورددت في خاطري: الطيبة و الامتلاء أيضا من مقدسات حياتي والتي أسرت بها مسار معيشتي , ولزمن طويل عشقت النساء الناضجات الممتلئات ....عن بعد ,وكرهت الصغيرات النحيلات بشدة
وأضفت مخاطبا الحاجة أمينة:
-أريدها أيضا طيبة وحنونة لكن ليس بدرجة الغباء
,وكنت دائما أردد كثرة الطيبة من فنون الغباء اللعين, وطيب في طريق الدهاة كبطة في طريق الثعالب , وبالفعل فلسنوات طويلة عشت كبطة في عش الغربان, واستغربت دوما عيش وألفتي رغم اختلاف اللونين الأبيض والأسود, ثم كان الموت حائلا بيني وبين مزج اللونين , وأصبحت وحيدا في دوامة تنتهي بالسنة الأخيرة من علوم الاقتصاد , وحين تخرجت بميزة جيدجدا قلت أن طريق الغربان الملعونة قمين بإنارة طريق البطة الحائرة , وبقدر ما فرحت بالفوز بقدر ما تعلقت بأهداب الحياة وخفت من مخالب الموت وقد سحبت كل أفراد عائلتي,و جادبت نفسي لأخرج من عنق الزجاجة ولأفوز بعملي, وفي عز تجادبي نسيت نفسي ونسيت من حولي ولم ألتفت إلا لكتبي.....................
-أريدها ناضجة وطيبة
ولن يعوضني عن صبري غير زوجة ناضجة , هذا ما ظللت أردده في خاطري وأنا أراقب حواجب الحاجة المقوسة وهي تصب الشاي وللحظات خلتها سترتاب في أمري خصوصا حين وضعت إبريق الشاي جانبا ,وتوقعت الأسوأ مع نظراتها الجامدة قبل أن تطق قائلة:
-طلبك موجود وقريبا ستراها وستسعد غاية السعادة برؤيتها وفضلا عن ذلك فهي موظفة ناضجة للغاية
وقبل أن أعلق على كلامها أضافت
وأيضا ممتلئة الجسم
الفصل الثاني
الأمر أشبه بنكتة غير مضحكة أو فقاعة هلامية تتلاعب بها أنفاس الحاضرين لترمي بها في النهاية خارجا , وإذا راجعت نفسي وساءلتها عما يعجبها أو ما أعجبها يوما ربما كنت أول المتهكمين منها وأول الساخرين, وغاية ما أدركت منها دوما........التناقض والغرابة.......
كانت أمسية خريفية هادئة من يوم الجمعة حين ألتقيتها في ناصية الشارع كما حددت لي الحاجة أمينة, وكنت قد أخترت من ملابسي بذلة قمحية أنيقة , ووضعت ربطة عنق خافتة بلون الخريف الباهث , وحذاء بنيا بلون حبوب القهوة المحمصة ,وتقدمت نحوها بوجل وقد عرفتها من لون جلبابها الأنيق الفستقي تبعا لتعليمات الحاجة ,وعلى مضض نطقت بعبارة مختصرة :
-مساء الخير أنستي
ألتفتت إلى و طالعتني بعينين واسعتين يعلوهما حاجبان رفيعان وتطل منهما رموش طويلة مكفهرة بلون السواد, وأول ما لا حظت في لباسي ربطة عنقي التي أخترتها بلون الخريف , فبدا أنها غالبت شعورا قويا للضحك ,وخاطبتي قائلة وبسمة جميلة تعلو شفتيها :
-مساء النور...
وأضافت:
- لنأخذ طاكسي ونبتعد عن هذا المكان من فضلك أخشى أن يراني أخد من عائلتي
قلت مخاطبا نفسي ساعتها لابد أن سنها جاوز الثلاثين و طريقة لباسها الأنيقة وحذائها التمساحي البراق لابد توحي بأنها موظفة كما أخبرت الحاجة أمينة غير أنها وبخلاف ما قالت كانت خفيفة القوام لا أثر للإمتلاء فيها ....... ثم شملني من ناحيتها عطر فواح وناعم
لوحت بيد حائرة لأول تاكسي وفتحت الباب المحاذي للسائق , وفتحت لها الباب الخلفي في أدب مستلهم من قصص الأفلام ,لكنها سحبتي من ذراعي وجرتني جانبها في المقعد الخلفي وخاطبت السائق قائلة:
-مقهى البركات بشارع المقاومة من فضلك
ثم أقتربت مني وهمست إلي بصوت حنون
-أول شيء عليك أن تتعلمه معي أن تجلس دوما إلى جانبي في التاكسي
وكسحابة شردت في طريقها إلى إدرار المطر وفاجأتها أشعة الشمس الحارقة انشغلت عيناي بالقفز بين الطريق أمامي وحذائها التمساحي أسفل قدمي
وانتابني شعور غريب للضحك وأنا أراقب قفا السائق السمين أمامي وهو يميل مع ميل السيارة ثم بادرتني قائلة من جديد وهي تبتسم :
-مساء النور لماذا أنت ساكت بهذا الشكل ألا تجد شيئا تقوله
ومع مزاحها وبسمتها الحنونة منذ البداية ,أدركت أنها مستوصاة بي , وأن الحاجة أمينة لابد مهدت لي الطريق وأخبرتها بأشياء عني
وبادرتها بابتسامة خافتة وأنا على علم بأن قاموس لغتي أنكسر في حوض واسع وتشتت مفرداته
-تشرفت للغاية بمعرفتك
ولا أعرف لماذا حضرتني ساعتها كلمات لأغنية فرنسية كانت تقول:
مع الوقت يذهب كل شيء, وتذهب الذكريات وتتحطم ,وحضرتني أيضا صورة ابنة الجيران الشعثاء الصغيرة والتي كنت ألاعبها أمام منزل الوالدين
ورددت على مسمع منها ومن السائق
-أطال الله عمرك وعمر الحاجة أمينة
ورددت مع نفسي
ما أصعب القرار في دوامة الأسى, وما أكثر ما تحملت من أجل خيار سابح ....وإذا تعلمت السباحة فلابد أني سأرتمي طواعية في دوامة الحيرة , لا لشيء إلا لأني عشت حائرا وكبرت حائرا ,ومن صنف النساء فقد عشقت دوما الوجه الجاف والمعطر بأشعة الشمس ولفحات البرد ,والجسد الطري العبق برائحة العرق ......و أكثر ما كرهت دوما : المساحيق والعطور والدفىء والنحول
وكما سحبتي من يدي لأجلس جانبها بالتاكسي, سحبتني أيضا بعد أن غادرناه وجلسنا في الطابق العلوي في مقهى البركات , وكانت أول مرة أجلس فيها في مكان مماثل ,كان فضاءا أنيقا للغاية و يبدو جيدا أنه خصص للقاء ات الجميلة .
وخيم صمت غريب لازمني وأنا أتأمل قوامها الخفيف وأناقة ملبسها الفائقة للغاية , ولابد أنها أدركت دهشتي واحتارت في أي شيء تفعله في موقف مماثل , ووقفت تحول بصرها بيني وبين الطاولة لتنطق بعبارة بسيطة كمحاولة منها لمساعدتي :
-رغم أن الفصل خريف فالجو جميل
ولم أفعل غير التأكيد على قولها بإيماءة من رأسي فعادت لتخاطبني
-لماذا أنت ساكت بهذا الشكل
و فاجئني سؤالها وددت أن أخبرها أن جواب سؤالها أمر حيرني لسنين طويلة , وأني أحيانا لا أفهم نفسي, وأن شعورا جارفا في نفسي يجرني دوما إلى الدميمات من النساء دون الجميلات , بل ويحرك جوانحي لمتسولة تنتظر مني المعونة فيما جسدي يهتز لمعانقتها
لكني في ارتباك وخفقان قلت:
صراحة لست معتادا على هذه الجلسات وأرجو أن تعذريني
وانفرجت أساريرها عن بسمة حنونة للغاية وقالت:
لا عليك ولا تهتم لشيء لست أبدا ممن يجب أن يخاشهم الرجال
وململت كأس القهوة الذي وضعه النادل من مكانه أمامها وقدفت به قطعة واحدة من السكر وعادت إلي ببصرها وبسمتها الجميلة تعلو محياها :
إذن هل تود أن تعرف عني شيئا
ثم وهي تلاعب الملعقة بكأس القهوة في حركة أنثوية لن أنساها طيلة حياتي :
-اسمي عائشة.....سنى 29 سنة أشتغل إطارا بمندوبية السياحة , سبق لي الزواج وتطلقت قبل البناء ,أعيش رفقة والدتي و اثنين من أخوتي ثم سكتت ورفعت بصرها إلي .
ولا أعرف لم شل لساني وحضرتني من جديد الأغنية الفرنسية وصورة الفتاة التي لاعبتها في صغري فنظرت إليها وقلت عن مضض غير مستور :
-حسن ....... 31 سنة أشتغل بقسم التأمينات وأكتري منزلا لدى الحاجة أمينة....لم يسبق لي أبدا الزواج ............واستسلمت لشلل الصمت من جديد
بدت طيبة للغاية وأنيقة وكان وجهها مغطى بمواد التجميل مما تستعمله كل نساء هذا الوقت ... ومن تحت منديل رأسها بدت خصلات شعر كستنائي لامع للغاية ...كانت جميلة للغاية أكثر بكثير مما انتظرته, هذا ما لا أنكره أبدا وفوق ذلك بدت طيبة وحنونة وبقدر ما تأملت جمالها وطببتها بقدر ما أحببت الحاجة أمينة وقلت مخاطبا نفسي:
-لابد أنها كانت صادقة حين قالت أني بمرتبة ابنها
وراودني ضغط ملح لزيارة المرحاض فاعتذرت منها وانتصبت واقفا وخاطبتها قائلا:
-دقيقة وأعود من فضلك
بنفس بسمتها الحنونة ووجهها المضيء اللامع قالت:
-مرحبا خد راحتك
وغادرت مكاني ,ودون إدراك مني وجدت قدماي تقودانني إلى خارج المقهى بعيدا عن الوجه الجميل الحنون, وغادرت في شبه استسلام من معركة لم تبدأ أطوارها بعد, وكما أسلمت نفسي للحيرة أسلمت قدماي للطريق في صمت مطبق وأنا أردد:
الحيرة من مقدسات حياتي ودوما اعتبرتها نهاية كل طريق سائرة , وعائشة صنف جديد من النساء لم أعتد بعد مجالستهن على انفراد والتفاتتها وهي تحرك كأس القهوة فتحت لي بابا جديدا في قاموس النساء لم أكن على علم به
تنفست بعمق ولوحت لسيارة أجرة وقلت
لن أنسى يوما التفاتتها وهي تحرك الكأس الملعون
الفصل الثالث
قضيت ليلتي كالذئب بين ثلوج الجبال تراودني رغبة كبيرة في فتح النافذة وإطلاق حنجرتي للعواء,وذرعت الغرفة ذهابا وإيابا وقد خنقتني غصتي وإمتلأ صدري بصراخ مكتوم فقلت معزيا نفسي:
ما أشد تأتير تيارات الأعماق وكم هو خادع علو الأمواج الظاهرة ودون إدراك مني حملت قصاصة ورق وخططت ما يلي:
الألم
رديف الحزن وسليل الأسى
والفرح ..
وليد النسيان وسليل الأوهام....
ولوقت طويل أعتقدتني تجاوزت الأمر وتحررت لإنطلاقة جديدة و ميمونة ببسمات جديدة..
لكن ليس الأمر بالصحيح أبدا
ولست في غصتي إلا كائنا يعيش ليجتر ما مضى
البسمة........
خط على الشفاه بريشة النسيان.
ولوقت طويل اعتقدته خطا أبديا لا ينمحي ......
فغمرتني أفراحي, وأشرقت عيوني بأضواء غريبة أحاطت بالمكان ,وركضت مطروبا بألحان شدت بها السماء, وغصت في أحضان والدتي وقد تملكني الصبا وأعيتني الشقاوة ..حتى إذا أمسكت يدي الصغيرة بيدها النحيلة اعتقدت أني أمسكت الدنيا بما ضمت. وما همني يوما شئ غير ضحكتها ..فإذا أهدتني إياها ,قفزت معلنا فرحتي ,وموزعا ألحاني وأضوائي ..... ..وبسماتي
الجرح............
مسافر عبر الزمن بحقيبة سوداء, يمتطي جناحا أسرع من البرق وأسرع من الأضواء والألحان , يقفز من مكان لمكان في تخطي كامل لأوهام الزمان والنسيان.
ولوقت طويل اعتقدته زائرا عابرا ممن لا يطيل المكوث,وممن يطرق ليضيء ويتوهج حتى يغمر المكان في خجل , ثم ما يلبت أن ينكمش مفسحا المجال للأضواء والألحان والفرح ...
وربما تأخرت في فهمي
لكني أدركت مجبورا خداع اعتقادي, وآمنت أنه كالسقم العليل ,يختفي لأوقات قد تقصر أو تطول , ثم ما يلبث أن يشرق في صباح غير متوقع , ومع إشراقته يمتد ضوءه ليغمر التجاويف جميعها فتقسم أنه لم يختف يوما أبدا ,وأنه كان دوما هناك يراقب الاضواء والألحان ,حتى إذا أزعجه وقعها فتح حقيبته وأمتطى جناحه ..........وعم المكان
ربما عشت لحظات تحررت فيها من قيوده, وانطلقت بسرعة متوهما البسمات.
لكنها ليست إلا لحظات خادعة رسمتها أنامل النسيان.
وعديدة هي المرات التي صليت فيها لنعمة النسيان.
هكذا حالي مع ألآمي وجروحي, وهي على كثرتها لا تحصى ولا ترسم, حتى إذا مررت صاغرا بالمكان هناك ... حيث تربيت وترعرعت وحيث كنت طفلا يتماهى بالأضواء ويشدو بالألحان ..... تبدل حالي, ويأست من سيري وركوبي, وانتابني قلق شارد أتلمسه بتسارع دقات قلبي وصعود صفرة ماقعة إلى صفحة وجهي.
وربما قررت التوقف , وربما قررت المسير, لكنه ليس إلا قرار الحيران ....ممن لا يملك مفاتيح الزمان
تم طويت الورقة وأستودعتها صدري وقد بدأت خيوط الفجر الأولى تمزق رداء الليل
الفصل الرابع
في طريقي إلى النزول التقيت أمي أمينة كما أناديها ..ورغم حروف الطيبة التي تغلف دوما محياها وبسمتها اللامبالية فقد تلونت ملامحها هذه المرة ,وبدا وجهها كوجه تمثال استوى على نار فضية هادئة, وأخذت ركن الزاوية بعيدا عني بأدراج العمارة ,ورمقتني بنظرات ملتهبة للغاية ,ولأني أعرف غرابة ما أقدمت عليه , فقد أكملت طريقي هاربا لا أبحث إلا عن منفذ العمارة ,و وتجاوزتها مسرعا وأنا أسمعها تقول:
-أقطع ذراعي هذا إن تزوج هذا الولد يوما
وكنت على وشك الخلاص من باب العمارة حين سمعت مناداتها علي باسمي ..... ولأني أكن لها معزة خاصة فقد توقفت ولم أجد بدا من الرجوع عن مضض , ووقفت بين يديها محمر الوجه كطفل أمام معلمته التي ضبطته متبولا في سرواله , أو أكثر ,وانشغلت بالنظر إلى الأرض في انتظار تقريضها لي , لكن الصمت الموحل عم للحظات رفعت فيها رأسي إليها فوجدت ملامح الطيبة قد غطت وجهها من جديد ,وبسمتها اللامبالية قد علت شفتيها الواهنتين وتفحصت قامتي بنظراتها من حذائي إلى قمة رأسي , وضربت يدا بأخرى قائلة:
-ماذا سنفعل الآن أخجلتني أمام السيدة ولا وجه لي أبدا للقائها...كان يوما أسود يوم استشرتني وطاوعتك.
لم أجد شيئا أقوله واكتفيت بتحريك حاجبي صعودا ونزولا ومطمطة شفتاي متمنيا الخلاص ,ثم جاء الفرج مع إحدى الجارات وقد لمحت الحاجة أمينة واستغليت فرصة تبادلهما التحية لأفر من أمامها .
بالطبع لاشيء يمكن أن يقال, ونفسي الغريبة لا تقودني إلا إلى طريق مقفل, و التفاتة عائشة وهي تداعب كأس القهوة قد مزقت جوانحي وقلبت مفاهيمي, وطال الوقت أم قصر لابد سأجدني يوما واقفا في طريقها دون أن أعرف ما علي فعله أو قوله , فهل أعتذر من سلوك غريب ,أم أرسل إليها أمي أمينة إن قبلت من جديد أم أرسل باقة ورد وتوسل مديد
تنفست بعمق ورددت:
كان ما كان......... وليكن ما يكون
كنت ساعتها أجتهد بقدماي في طريقي إلى عملي ببذلتي القمحية ذاتها وربطة عنقي الخريفية وحذائي المحمص, وبمشية تجمع بين خيلاء كاذب وأناقة غير مستورة كنت أردد أغنيتي القديمة:
مع الوقت
مع الوقت تذهب الذكريات وتتحطم
مع الوقت نتحول إلى جثث متجمدة
وتوقفت فجأة أمام باب عمارة محاذية لمقر عملي ..شل تفكيري من جديد ونبضت عروقي وأنا أشاهد جسدا طريا وممتلئا لشابة تمسح أرض مدخل العمارة, كان مشهدا قاسيا من المشاهد التي أحتفظ بها في ذاكرتي والتي لا أستطيع مقاومتها .وجحظت عيناي لمدة وتسارعت ضربات قلبي وتسمرت رجلاي أمام الباب, فأطلت النظر وتتبعت حركاتها وتموجاتها وهي تمسح الدرجات الأخيرة درجة درجة, وحين أدركت أني قد أثير انتباهها يممت لأكمل طريقي لاعنا الشيطان في خاطري ..غير أن قدماي رجعتا بي وتوقفت من جديد أسجل مشهدها وهي تنحني لتمسح الأرض ..فأفلتت مني تنهيدة لاهبة ...وقلت متحسرا:
-ما أطيبك من ريح ندية رطبة ... ولا شيء يعوض عن الامتلاء و الطراوة
ولا أدري كيف سبقتني يدي وأخرجت الهاتف من جيب السترة القمحية, ونادى مناد من أعماق جسدي ساعتها أن صورة الجسد الطري المنحني بالهاتف هي غاية المنى ومبتغى القاصد المجتهذ, ولا سبيل للمغادرة دونها ,فوجهت الهاتف توجيهة ملعونة صوبها ,و كانت منها التفاتة إلي ورمقتني أصوب إليها هاتفي وقد فضحتني عيناي وتدلت جفوني في تعلق مائج....... وكانت منها صرخة, ثم صرخات , ودفعت السطل برجلها وهرولت إلي بجسد قوي للغاية , وسحبتي من ربطة عنقي القمحية بلون الخريف حتى تقطعت أنفاسي وأحمر وجهي و كاد يغمى علي ,وأخذت في الصراخ موجهة خطابها للجمع الذي أخد في الاحتشاد:
-كان يصورني وأنا أمسح الأرض ولابد سيرميني في اليوتوب
ورددت وصوتي مبحوح من شدة مسكتها
لا أعرف بتاتا طريق اليوتوب والهاتف أمسكته لأعرف الساعة فقط أغيثوني من هذه الباطشة
وشدت الخناق علي من جديد قائلة:
-إذن هات ذلك الهاتف لنفتشه
ومن حسن حضي أني لم أكن قد التقطت الصورة بعد , فأخرجت هاتفي وفتحته لأحد الواقفين وطلبت منه التصفح ليخبرها إن كنت سجلتها ,ثم أظهرت الاختناق, وأخذت في السعال, فرق البعض لحالي وطالبوا منها أن تفك قبضتها عن عنقي ثم سلمني الشخص هاتفي وقد قال للواقفين
ليس في هاتفه تسجيل بتاريخ اليوم
وحمدت الله على السلامة والخلاص , وأطلقت السمينة ربطة عنقي وولت ظهرها وهي تسب وتلعن في أمثالي , ثم شيعتني بعض النسوة ممن وقفن بنظرات حقارة واشمئزاز, فيما واصلت سيري مقهورا مجبورا وقد سمعت إحداهن تقول
-أكل هذه الأناقة للتحرش بعاملة تنظيف
إنه لأمر غريب أن أحمل القلم وأخط عباراتي الصغيرة , فالكتابة أمر لم ألفه أو أعتده , وفي حياتي لم أكتب يوما غير ما تمليه ظروف الصدفة من سطور ضئيلة
استغربت أكتر لهذا الشعور المتضخم في داخلي والذي يدعوني لحمل القلم والكتابة ,وكأني سأكتب رواية أو قصة تصدح لها الحناجر.. وغاية ما أردت رسمه حروفا دفينة لحزني المتهالك.
الحزن من مقدسات حياتي ودوما اعتبرته نهاية كل طريق سائرة , والألم رديف الحزن يلتقيان معا ويتبادلان بسماتهما الساخرة ,حولي وحين بلغت من سني 30 قلت ساخرا الألم أيضا من مقدسات الحيات الحزينة.
بحتت عن زوجة أكمل بها نصف ديني خصوصا بعد تخرجي وتعييني وكيلا بقسم التأمينات, ولا أنسى أبدا فالزواج لم يكن يوما من مقدسات حياتي ,ولأني كنت قليل التجربة في الجنس اللطيف فقد كان علي أن أستعين بخدمات شخص أخر أكثر خبرة ,لكني كنت وحيدا ولا أملك في دنياي غير دفاتري وكؤوس البلار الثلاثة التي أحتفظ بها من ذكرى والدتي.
فكرت كثيرا ولم أجد غير الحاجة أمينة صاحبة المنزل, فهي غاية المنى و تربطني بها علاقة كبيرة نوع خاص للغاية.. كانت علاقة سخرية مريرة منها لواقع حالي ,وعلاقة تقدير مني لها لصراحتها وعبثها وقوتها بعد سن 70
وكانت أمسية لطيفة من أماسي الخريف حين فاتحتها في الأمر
ولأختزل الكلام وأرحم نفسي من عذاب المقدمات قلت في شبه مرارة وأنا أراقب سحب الخريف الواهنة عبر النافذة:
-فاض بي الأمر وأريد الزواج ولا سبيل لي إلى محادثة أنثى أبدا بسبب خجلي
قاومت ضحكة كادت تنفجر من بين شفتيها ولم يبد عليها أبدا التعجب أو الاستغراب وقالت:
-يالك من شخص عجيب وغريب وكل يوم أكتشف فيك خصلة جديدة
, وكخبيرة في جنس الملطومين بالخجل وفي فن تزويج الجنسين قالت بصوت قادم من أعماق جسدها النحيل
-طلبك عندي بني ولأنك شخص طيب فلن تكون من نصيبك إلا الطيبة بنت الطيبين
وزادني جوابها جرأة وغالبت عذابي فحولت نظري عن السحب الواهنة وأضفت مختزلا كلامي في أوصاف العروس بعبارة واحدة:
-أريدها ممتلئة ناضجة وكاملة
وقلت في قرارة نفسي لا تطيب زوجة بعد سنين الصيام إلا الزوجة الناضجة الممتلئة
ورددت في خاطري: الطيبة و الامتلاء أيضا من مقدسات حياتي والتي أسرت بها مسار معيشتي , ولزمن طويل عشقت النساء الناضجات الممتلئات ....عن بعد ,وكرهت الصغيرات النحيلات بشدة
وأضفت مخاطبا الحاجة أمينة:
-أريدها أيضا طيبة وحنونة لكن ليس بدرجة الغباء
,وكنت دائما أردد كثرة الطيبة من فنون الغباء اللعين, وطيب في طريق الدهاة كبطة في طريق الثعالب , وبالفعل فلسنوات طويلة عشت كبطة في عش الغربان, واستغربت دوما عيش وألفتي رغم اختلاف اللونين الأبيض والأسود, ثم كان الموت حائلا بيني وبين مزج اللونين , وأصبحت وحيدا في دوامة تنتهي بالسنة الأخيرة من علوم الاقتصاد , وحين تخرجت بميزة جيدجدا قلت أن طريق الغربان الملعونة قمين بإنارة طريق البطة الحائرة , وبقدر ما فرحت بالفوز بقدر ما تعلقت بأهداب الحياة وخفت من مخالب الموت وقد سحبت كل أفراد عائلتي,و جادبت نفسي لأخرج من عنق الزجاجة ولأفوز بعملي, وفي عز تجادبي نسيت نفسي ونسيت من حولي ولم ألتفت إلا لكتبي.....................
-أريدها ناضجة وطيبة
ولن يعوضني عن صبري غير زوجة ناضجة , هذا ما ظللت أردده في خاطري وأنا أراقب حواجب الحاجة المقوسة وهي تصب الشاي وللحظات خلتها سترتاب في أمري خصوصا حين وضعت إبريق الشاي جانبا ,وتوقعت الأسوأ مع نظراتها الجامدة قبل أن تطق قائلة:
-طلبك موجود وقريبا ستراها وستسعد غاية السعادة برؤيتها وفضلا عن ذلك فهي موظفة ناضجة للغاية
وقبل أن أعلق على كلامها أضافت
وأيضا ممتلئة الجسم
الفصل الثاني
الأمر أشبه بنكتة غير مضحكة أو فقاعة هلامية تتلاعب بها أنفاس الحاضرين لترمي بها في النهاية خارجا , وإذا راجعت نفسي وساءلتها عما يعجبها أو ما أعجبها يوما ربما كنت أول المتهكمين منها وأول الساخرين, وغاية ما أدركت منها دوما........التناقض والغرابة.......
كانت أمسية خريفية هادئة من يوم الجمعة حين ألتقيتها في ناصية الشارع كما حددت لي الحاجة أمينة, وكنت قد أخترت من ملابسي بذلة قمحية أنيقة , ووضعت ربطة عنق خافتة بلون الخريف الباهث , وحذاء بنيا بلون حبوب القهوة المحمصة ,وتقدمت نحوها بوجل وقد عرفتها من لون جلبابها الأنيق الفستقي تبعا لتعليمات الحاجة ,وعلى مضض نطقت بعبارة مختصرة :
-مساء الخير أنستي
ألتفتت إلى و طالعتني بعينين واسعتين يعلوهما حاجبان رفيعان وتطل منهما رموش طويلة مكفهرة بلون السواد, وأول ما لا حظت في لباسي ربطة عنقي التي أخترتها بلون الخريف , فبدا أنها غالبت شعورا قويا للضحك ,وخاطبتي قائلة وبسمة جميلة تعلو شفتيها :
-مساء النور...
وأضافت:
- لنأخذ طاكسي ونبتعد عن هذا المكان من فضلك أخشى أن يراني أخد من عائلتي
قلت مخاطبا نفسي ساعتها لابد أن سنها جاوز الثلاثين و طريقة لباسها الأنيقة وحذائها التمساحي البراق لابد توحي بأنها موظفة كما أخبرت الحاجة أمينة غير أنها وبخلاف ما قالت كانت خفيفة القوام لا أثر للإمتلاء فيها ....... ثم شملني من ناحيتها عطر فواح وناعم
لوحت بيد حائرة لأول تاكسي وفتحت الباب المحاذي للسائق , وفتحت لها الباب الخلفي في أدب مستلهم من قصص الأفلام ,لكنها سحبتي من ذراعي وجرتني جانبها في المقعد الخلفي وخاطبت السائق قائلة:
-مقهى البركات بشارع المقاومة من فضلك
ثم أقتربت مني وهمست إلي بصوت حنون
-أول شيء عليك أن تتعلمه معي أن تجلس دوما إلى جانبي في التاكسي
وكسحابة شردت في طريقها إلى إدرار المطر وفاجأتها أشعة الشمس الحارقة انشغلت عيناي بالقفز بين الطريق أمامي وحذائها التمساحي أسفل قدمي
وانتابني شعور غريب للضحك وأنا أراقب قفا السائق السمين أمامي وهو يميل مع ميل السيارة ثم بادرتني قائلة من جديد وهي تبتسم :
-مساء النور لماذا أنت ساكت بهذا الشكل ألا تجد شيئا تقوله
ومع مزاحها وبسمتها الحنونة منذ البداية ,أدركت أنها مستوصاة بي , وأن الحاجة أمينة لابد مهدت لي الطريق وأخبرتها بأشياء عني
وبادرتها بابتسامة خافتة وأنا على علم بأن قاموس لغتي أنكسر في حوض واسع وتشتت مفرداته
-تشرفت للغاية بمعرفتك
ولا أعرف لماذا حضرتني ساعتها كلمات لأغنية فرنسية كانت تقول:
مع الوقت يذهب كل شيء, وتذهب الذكريات وتتحطم ,وحضرتني أيضا صورة ابنة الجيران الشعثاء الصغيرة والتي كنت ألاعبها أمام منزل الوالدين
ورددت على مسمع منها ومن السائق
-أطال الله عمرك وعمر الحاجة أمينة
ورددت مع نفسي
ما أصعب القرار في دوامة الأسى, وما أكثر ما تحملت من أجل خيار سابح ....وإذا تعلمت السباحة فلابد أني سأرتمي طواعية في دوامة الحيرة , لا لشيء إلا لأني عشت حائرا وكبرت حائرا ,ومن صنف النساء فقد عشقت دوما الوجه الجاف والمعطر بأشعة الشمس ولفحات البرد ,والجسد الطري العبق برائحة العرق ......و أكثر ما كرهت دوما : المساحيق والعطور والدفىء والنحول
وكما سحبتي من يدي لأجلس جانبها بالتاكسي, سحبتني أيضا بعد أن غادرناه وجلسنا في الطابق العلوي في مقهى البركات , وكانت أول مرة أجلس فيها في مكان مماثل ,كان فضاءا أنيقا للغاية و يبدو جيدا أنه خصص للقاء ات الجميلة .
وخيم صمت غريب لازمني وأنا أتأمل قوامها الخفيف وأناقة ملبسها الفائقة للغاية , ولابد أنها أدركت دهشتي واحتارت في أي شيء تفعله في موقف مماثل , ووقفت تحول بصرها بيني وبين الطاولة لتنطق بعبارة بسيطة كمحاولة منها لمساعدتي :
-رغم أن الفصل خريف فالجو جميل
ولم أفعل غير التأكيد على قولها بإيماءة من رأسي فعادت لتخاطبني
-لماذا أنت ساكت بهذا الشكل
و فاجئني سؤالها وددت أن أخبرها أن جواب سؤالها أمر حيرني لسنين طويلة , وأني أحيانا لا أفهم نفسي, وأن شعورا جارفا في نفسي يجرني دوما إلى الدميمات من النساء دون الجميلات , بل ويحرك جوانحي لمتسولة تنتظر مني المعونة فيما جسدي يهتز لمعانقتها
لكني في ارتباك وخفقان قلت:
صراحة لست معتادا على هذه الجلسات وأرجو أن تعذريني
وانفرجت أساريرها عن بسمة حنونة للغاية وقالت:
لا عليك ولا تهتم لشيء لست أبدا ممن يجب أن يخاشهم الرجال
وململت كأس القهوة الذي وضعه النادل من مكانه أمامها وقدفت به قطعة واحدة من السكر وعادت إلي ببصرها وبسمتها الجميلة تعلو محياها :
إذن هل تود أن تعرف عني شيئا
ثم وهي تلاعب الملعقة بكأس القهوة في حركة أنثوية لن أنساها طيلة حياتي :
-اسمي عائشة.....سنى 29 سنة أشتغل إطارا بمندوبية السياحة , سبق لي الزواج وتطلقت قبل البناء ,أعيش رفقة والدتي و اثنين من أخوتي ثم سكتت ورفعت بصرها إلي .
ولا أعرف لم شل لساني وحضرتني من جديد الأغنية الفرنسية وصورة الفتاة التي لاعبتها في صغري فنظرت إليها وقلت عن مضض غير مستور :
-حسن ....... 31 سنة أشتغل بقسم التأمينات وأكتري منزلا لدى الحاجة أمينة....لم يسبق لي أبدا الزواج ............واستسلمت لشلل الصمت من جديد
بدت طيبة للغاية وأنيقة وكان وجهها مغطى بمواد التجميل مما تستعمله كل نساء هذا الوقت ... ومن تحت منديل رأسها بدت خصلات شعر كستنائي لامع للغاية ...كانت جميلة للغاية أكثر بكثير مما انتظرته, هذا ما لا أنكره أبدا وفوق ذلك بدت طيبة وحنونة وبقدر ما تأملت جمالها وطببتها بقدر ما أحببت الحاجة أمينة وقلت مخاطبا نفسي:
-لابد أنها كانت صادقة حين قالت أني بمرتبة ابنها
وراودني ضغط ملح لزيارة المرحاض فاعتذرت منها وانتصبت واقفا وخاطبتها قائلا:
-دقيقة وأعود من فضلك
بنفس بسمتها الحنونة ووجهها المضيء اللامع قالت:
-مرحبا خد راحتك
وغادرت مكاني ,ودون إدراك مني وجدت قدماي تقودانني إلى خارج المقهى بعيدا عن الوجه الجميل الحنون, وغادرت في شبه استسلام من معركة لم تبدأ أطوارها بعد, وكما أسلمت نفسي للحيرة أسلمت قدماي للطريق في صمت مطبق وأنا أردد:
الحيرة من مقدسات حياتي ودوما اعتبرتها نهاية كل طريق سائرة , وعائشة صنف جديد من النساء لم أعتد بعد مجالستهن على انفراد والتفاتتها وهي تحرك كأس القهوة فتحت لي بابا جديدا في قاموس النساء لم أكن على علم به
تنفست بعمق ولوحت لسيارة أجرة وقلت
لن أنسى يوما التفاتتها وهي تحرك الكأس الملعون
الفصل الثالث
قضيت ليلتي كالذئب بين ثلوج الجبال تراودني رغبة كبيرة في فتح النافذة وإطلاق حنجرتي للعواء,وذرعت الغرفة ذهابا وإيابا وقد خنقتني غصتي وإمتلأ صدري بصراخ مكتوم فقلت معزيا نفسي:
ما أشد تأتير تيارات الأعماق وكم هو خادع علو الأمواج الظاهرة ودون إدراك مني حملت قصاصة ورق وخططت ما يلي:
الألم
رديف الحزن وسليل الأسى
والفرح ..
وليد النسيان وسليل الأوهام....
ولوقت طويل أعتقدتني تجاوزت الأمر وتحررت لإنطلاقة جديدة و ميمونة ببسمات جديدة..
لكن ليس الأمر بالصحيح أبدا
ولست في غصتي إلا كائنا يعيش ليجتر ما مضى
البسمة........
خط على الشفاه بريشة النسيان.
ولوقت طويل اعتقدته خطا أبديا لا ينمحي ......
فغمرتني أفراحي, وأشرقت عيوني بأضواء غريبة أحاطت بالمكان ,وركضت مطروبا بألحان شدت بها السماء, وغصت في أحضان والدتي وقد تملكني الصبا وأعيتني الشقاوة ..حتى إذا أمسكت يدي الصغيرة بيدها النحيلة اعتقدت أني أمسكت الدنيا بما ضمت. وما همني يوما شئ غير ضحكتها ..فإذا أهدتني إياها ,قفزت معلنا فرحتي ,وموزعا ألحاني وأضوائي ..... ..وبسماتي
الجرح............
مسافر عبر الزمن بحقيبة سوداء, يمتطي جناحا أسرع من البرق وأسرع من الأضواء والألحان , يقفز من مكان لمكان في تخطي كامل لأوهام الزمان والنسيان.
ولوقت طويل اعتقدته زائرا عابرا ممن لا يطيل المكوث,وممن يطرق ليضيء ويتوهج حتى يغمر المكان في خجل , ثم ما يلبت أن ينكمش مفسحا المجال للأضواء والألحان والفرح ...
وربما تأخرت في فهمي
لكني أدركت مجبورا خداع اعتقادي, وآمنت أنه كالسقم العليل ,يختفي لأوقات قد تقصر أو تطول , ثم ما يلبث أن يشرق في صباح غير متوقع , ومع إشراقته يمتد ضوءه ليغمر التجاويف جميعها فتقسم أنه لم يختف يوما أبدا ,وأنه كان دوما هناك يراقب الاضواء والألحان ,حتى إذا أزعجه وقعها فتح حقيبته وأمتطى جناحه ..........وعم المكان
ربما عشت لحظات تحررت فيها من قيوده, وانطلقت بسرعة متوهما البسمات.
لكنها ليست إلا لحظات خادعة رسمتها أنامل النسيان.
وعديدة هي المرات التي صليت فيها لنعمة النسيان.
هكذا حالي مع ألآمي وجروحي, وهي على كثرتها لا تحصى ولا ترسم, حتى إذا مررت صاغرا بالمكان هناك ... حيث تربيت وترعرعت وحيث كنت طفلا يتماهى بالأضواء ويشدو بالألحان ..... تبدل حالي, ويأست من سيري وركوبي, وانتابني قلق شارد أتلمسه بتسارع دقات قلبي وصعود صفرة ماقعة إلى صفحة وجهي.
وربما قررت التوقف , وربما قررت المسير, لكنه ليس إلا قرار الحيران ....ممن لا يملك مفاتيح الزمان
تم طويت الورقة وأستودعتها صدري وقد بدأت خيوط الفجر الأولى تمزق رداء الليل
الفصل الرابع
في طريقي إلى النزول التقيت أمي أمينة كما أناديها ..ورغم حروف الطيبة التي تغلف دوما محياها وبسمتها اللامبالية فقد تلونت ملامحها هذه المرة ,وبدا وجهها كوجه تمثال استوى على نار فضية هادئة, وأخذت ركن الزاوية بعيدا عني بأدراج العمارة ,ورمقتني بنظرات ملتهبة للغاية ,ولأني أعرف غرابة ما أقدمت عليه , فقد أكملت طريقي هاربا لا أبحث إلا عن منفذ العمارة ,و وتجاوزتها مسرعا وأنا أسمعها تقول:
-أقطع ذراعي هذا إن تزوج هذا الولد يوما
وكنت على وشك الخلاص من باب العمارة حين سمعت مناداتها علي باسمي ..... ولأني أكن لها معزة خاصة فقد توقفت ولم أجد بدا من الرجوع عن مضض , ووقفت بين يديها محمر الوجه كطفل أمام معلمته التي ضبطته متبولا في سرواله , أو أكثر ,وانشغلت بالنظر إلى الأرض في انتظار تقريضها لي , لكن الصمت الموحل عم للحظات رفعت فيها رأسي إليها فوجدت ملامح الطيبة قد غطت وجهها من جديد ,وبسمتها اللامبالية قد علت شفتيها الواهنتين وتفحصت قامتي بنظراتها من حذائي إلى قمة رأسي , وضربت يدا بأخرى قائلة:
-ماذا سنفعل الآن أخجلتني أمام السيدة ولا وجه لي أبدا للقائها...كان يوما أسود يوم استشرتني وطاوعتك.
لم أجد شيئا أقوله واكتفيت بتحريك حاجبي صعودا ونزولا ومطمطة شفتاي متمنيا الخلاص ,ثم جاء الفرج مع إحدى الجارات وقد لمحت الحاجة أمينة واستغليت فرصة تبادلهما التحية لأفر من أمامها .
بالطبع لاشيء يمكن أن يقال, ونفسي الغريبة لا تقودني إلا إلى طريق مقفل, و التفاتة عائشة وهي تداعب كأس القهوة قد مزقت جوانحي وقلبت مفاهيمي, وطال الوقت أم قصر لابد سأجدني يوما واقفا في طريقها دون أن أعرف ما علي فعله أو قوله , فهل أعتذر من سلوك غريب ,أم أرسل إليها أمي أمينة إن قبلت من جديد أم أرسل باقة ورد وتوسل مديد
تنفست بعمق ورددت:
كان ما كان......... وليكن ما يكون
كنت ساعتها أجتهد بقدماي في طريقي إلى عملي ببذلتي القمحية ذاتها وربطة عنقي الخريفية وحذائي المحمص, وبمشية تجمع بين خيلاء كاذب وأناقة غير مستورة كنت أردد أغنيتي القديمة:
مع الوقت
مع الوقت تذهب الذكريات وتتحطم
مع الوقت نتحول إلى جثث متجمدة
وتوقفت فجأة أمام باب عمارة محاذية لمقر عملي ..شل تفكيري من جديد ونبضت عروقي وأنا أشاهد جسدا طريا وممتلئا لشابة تمسح أرض مدخل العمارة, كان مشهدا قاسيا من المشاهد التي أحتفظ بها في ذاكرتي والتي لا أستطيع مقاومتها .وجحظت عيناي لمدة وتسارعت ضربات قلبي وتسمرت رجلاي أمام الباب, فأطلت النظر وتتبعت حركاتها وتموجاتها وهي تمسح الدرجات الأخيرة درجة درجة, وحين أدركت أني قد أثير انتباهها يممت لأكمل طريقي لاعنا الشيطان في خاطري ..غير أن قدماي رجعتا بي وتوقفت من جديد أسجل مشهدها وهي تنحني لتمسح الأرض ..فأفلتت مني تنهيدة لاهبة ...وقلت متحسرا:
-ما أطيبك من ريح ندية رطبة ... ولا شيء يعوض عن الامتلاء و الطراوة
ولا أدري كيف سبقتني يدي وأخرجت الهاتف من جيب السترة القمحية, ونادى مناد من أعماق جسدي ساعتها أن صورة الجسد الطري المنحني بالهاتف هي غاية المنى ومبتغى القاصد المجتهذ, ولا سبيل للمغادرة دونها ,فوجهت الهاتف توجيهة ملعونة صوبها ,و كانت منها التفاتة إلي ورمقتني أصوب إليها هاتفي وقد فضحتني عيناي وتدلت جفوني في تعلق مائج....... وكانت منها صرخة, ثم صرخات , ودفعت السطل برجلها وهرولت إلي بجسد قوي للغاية , وسحبتي من ربطة عنقي القمحية بلون الخريف حتى تقطعت أنفاسي وأحمر وجهي و كاد يغمى علي ,وأخذت في الصراخ موجهة خطابها للجمع الذي أخد في الاحتشاد:
-كان يصورني وأنا أمسح الأرض ولابد سيرميني في اليوتوب
ورددت وصوتي مبحوح من شدة مسكتها
لا أعرف بتاتا طريق اليوتوب والهاتف أمسكته لأعرف الساعة فقط أغيثوني من هذه الباطشة
وشدت الخناق علي من جديد قائلة:
-إذن هات ذلك الهاتف لنفتشه
ومن حسن حضي أني لم أكن قد التقطت الصورة بعد , فأخرجت هاتفي وفتحته لأحد الواقفين وطلبت منه التصفح ليخبرها إن كنت سجلتها ,ثم أظهرت الاختناق, وأخذت في السعال, فرق البعض لحالي وطالبوا منها أن تفك قبضتها عن عنقي ثم سلمني الشخص هاتفي وقد قال للواقفين
ليس في هاتفه تسجيل بتاريخ اليوم
وحمدت الله على السلامة والخلاص , وأطلقت السمينة ربطة عنقي وولت ظهرها وهي تسب وتلعن في أمثالي , ثم شيعتني بعض النسوة ممن وقفن بنظرات حقارة واشمئزاز, فيما واصلت سيري مقهورا مجبورا وقد سمعت إحداهن تقول
-أكل هذه الأناقة للتحرش بعاملة تنظيف
تعليق