رد: روايتي الأولى...رجل بدون ملامح ....
الفصل التاسع
رن الهاتف وكان موسى على الخط وكنت ساعتها بمكتبي بمقر عملي:
-هل أنت هنا بالعمل؟
-بالطبع وأين سأكون؟
-هل لي برؤيتك للحظة من فظلك يتعلق الأمر باستشارة.
-أين أنت الآن؟
-ببهو الاستقبال
-إذن انتظرني هناك أنا قادم
وطويت ما كان أمامي وتوجهت إلى جهة الاستقبال , حيت وجدت موسى كعادته بشعره الأشعث والمنفوش يدور برأسه في زوايا المبنى , وبجانبه سيدة توهمت أني وسبق لي رؤيتها , لكن عند اقترابي منها تأكدت أني سبق ورأيتها فعلا , ومع يقيني اهتز قلبي ,وصعد الدم الساخن إلى صفحة وجهي, كانت هي , ولا أحد غيرها
-هذا هو حسن الذي حدثتك عنه , إنه صديقي وسيفيدك لابد في مثل هذا الأمر.
ثم وهو يخاطبني ويشير إليها بيده:
-حليمة . من معارفي استشارتني في موضوع ربما أنت أدرى مني فيه فرافقتها لعلك تفتي عليها برأي صواب.
وطالعتي بعينيها الواسعتين وشفتيها المشققتين, وخلت للحظات أنها تعرفت علي , لكن لم يبد على وجهها ما يفيد ذلك, وبريح طيبة ومغلوبة تختلف بتاتا عما شاهدته فيها من بطش قالت:
-من فضلك سيد حسن ,إن كان وقتك يسمح أريد أن أستشيرك في موضوع يخصني
-على الرحب و السعة سيدتي لنجلس هنا
وجلست بنفس استكانتها, وبدا من طرف جلبابها السفلي ساق سميك للغاية مغلف بكولون ضيق , ولم أفلح أبدا في إخفاء تعلقي بالساق وصاحبته, وزاد منه مشهدها السابق المؤرخ في سجل ذاكرتي,ورن هاتف موسى من جديد, ولا أعرف ماذا كانت مكالمته لكنه بدا منشغلا واستأذننا ثم غادر على عجل مكملا مكالمته.
وجدتني في مواجهتها وعلى مقربة منها, في شبه حلم لم أتوقعه بتاتا , ولو حكى لي شخص حكاية مماثلة لما صدقت أن الأقدار قد تنسج الأحدات بنفس الشكل.
تململت قليلا فأعرتها انتباهي من جديد وعادت تقول:
-سيد حسن لقد حكى لي موسى عن طيبتك وخلقك وهذا شجعني لأطلب مساعدتك
ونطقت من أعماق فؤادي وفرحة مزقططة , تشملني مع رعب حقيقي يدك قلبي:
-على الرحب والسعة أنا رهن إشارتك
-حسنا .. المشكل أني تعرضت لحادت سير مروري, حيت صدمتني سيارة مند حوالي السنة بناصية الشارع هنا..كان حادثا بسيطا لكني تعرضت فيه لفك على مستوى القدم , وكلفني التوقف عن عملي ومصاريف إضافية ...
-هل تم تقييد المعاينة بحادثة السير ساعتها.
-نعم وقمت بتوكيل محامي في الموضوع...وأدركت أن المحكمة حكمت لي بتعويض.. وهذا ليس المشكل ,............ المشكل الذي قدمت من أجله أن المحامي لم يسلمني أي مبلغ لحد الآن, وعند سؤاله يخبرني أنه لم يتوصل بعد بالتعويض.....ومثل هذا الأمر أثار شكوكي كثيرا.. فاستفسرت موسى والذي كنت أساعد زوجته في أعمال التنظيف , وهو من أرشدني إليك لعلك تبحث لي في الموضوع وتعرف إن كانت شركة التأمين صرفت لي مبلغ التعويض أم لا.....
أجبتها مطمئنا:
هذا أمر سهل لابد لي من معرفة بعض الأمور كالشركة المؤمنة وسأتولى الأمر بكل سرور ,وأخذت هاتفها وأعطيتها هاتفي , وتعددت بعد ذلك الاتصالات بيننا حتى طلبت يوما رؤيتها وحددت مكان اللقاء مساءا بزاوية الشارع حيت توجد الشركة.
كانت مثيرة للغاية , هذا مل أنكره أبدا , مليحة لحد الجنون بجسم مليئ , وعن بعد وقبل وصولي إليها قلت مازحا :
-لن أسلم اليوم من قبضة يدها إن أفلت لساني بكلمة خارجة
كانت البادئة بالتحية, وكما حدست فسنها لابد جاوز العقد الرابع وأخبرتها بنتيجة بحتي وأن الشركة في طور صرف مبلغ تعويضها فتنفست وقالت:
-المحامي المسكين ظلمته وألبسته ما ليس فيه....
أمنت على قولها قائلا:
-لا زال في الدنيا أولاد ناس وأناس شرفاء
ثم دعوتها لكأس شاي وبعض الرغيف البلدي(المسمن) بمحل قريب ... وطال بيننا حديث ودي حتى ارتحت لها وخرجت عن خجلي , بل وجدتني أكثر جرأة في الحديث, وعرفت أنها مطلقة بدون أطفال وتكتري غرفة بسطح المنزل بنفس العمارة التي تسهر على تنظيفها أيضا ,وفهمت من وصفها أنها العمارة التي رأيتها فيها أول مرة , وأدركت أيضا أنها لا تذكرني البتة , ولا تذكر ما وقع لي معها فأرتاح قلبي , وطلبت لي ولها جبانيتي حريرة .
وفي بضع أيام وجدتني معتادا عليها, بل وأنتظر مجالستها بفارغ صبر فأحكي لها ما يضيق به صبري وأجد في تفسيراتها البسيطة ما يواكب سخريتي المريرة من حياتي ,وكان مكان لقائنا دوما هو محل الشاي والأكلات الخفيفة بالزاوية , فيجمعنا فطور الصباح, ويغادر كل منا لوجهته وإلى عمله, وإذا سنحت ظروف عملها ألتقيتها مساءا ونأخذ معا جبانيتين من الحريرة الساخنة , وأفرغ ما يضيق به صدري على مسامعها.
كنت مرتاحا للغاية في محل الشاي الشعبي وبجلستها اللامبالية بجلبابها الضيق , وقارنت جلستي معها بجلستي مع عائشة فأحترت في تفسير تعلقي بها وبجلستي معها وضيق صدري من الأمكنة الراقية , ورغم تعلمي ووظيفتي , ومكانتي كرئيس قسم ظل خاطري هاربا دوما من الأمكنة الخاصة ومن اللقاءات الرسمية , وقلت دوما ما أجمل الجلوس إلى امرأة مليحة تحت ضوء مصباح تقليدي ووسط مكان مفعم بروائح الشاي والحريرة.
الفصل العاشر
كان صباحا شتويا ماطرا للغاية وفي طاولة جانبية بالمحل جلست رفقة حليمة نتناول وجبة الفطور, وفي حديثنا الصباحي حدثتني عن نفسها وقالت::
-تعبت من العمل وأرغب في بعض الراحة ولو ليومين
-ألا تأخذين إجازة للراحة وتغيير الجو قليلا
ضحكت بصوت عالي من قولي وقالت
-الإجازة لكم أنتم المرسمون , أما أنا إذا أخذت إجازة ستضيع مني فرص العمل وسيجلب الناس غيري للتجفيف والتنظيف .
-وهل أنت مرتاحة في عملك هذا,
-صراحة لا أعرف ............ بالكاد أؤدي مصاريف الكراء وبعض مستلزماتي وأرسل بعض المال لوالدتي بالقرية ,وأحيانا أفكر بالهجرة وأحيانا أتراجع , وكنت على وشك الاتفاق مع شخص لتهجيري لكني لم أجهز المبلغ المطلوب., وقلت مع نفسي إنه ليس مقدرا لي الخروج بعد ,ربما إذا توصلت بالتعويض يتحقق القدر ...من يدري.
-نعم من يدري يوما ما تغادرين وأجلس وحدي هنا
وضحت بصوت عالي كعادتها وقالت
-أقصى ما أفكر فيه الأن أن أزور الضريح بمدينة مكناس وأقضي فيه يومي السبت والأحد لعل ذلك يرفع عني بعض العياء
لا أعرف كيف واتتني الشجاعة فقلت كصياد يرمي صنارته في الخواء:
-ربما نذهب معا ونكتري منزلا هناك
وقبل أن أكمل كلامي جمعت أغراضها بسرعة من الطاولة ورمتني بنظرة ازدراء وغضب , ثم غادرت المكان بسرعة مخلفة خلفها نظراتي الملتهبة لجسدها المفضوح وتمتمتي بالحمد لأنها لم تمسكني من ربطة عنقي.
الفصل الحادي عشر
مساءا جمعني المكان بموسى بمقهى النجمة ,وكنت في شبه حيرة وصدمة زاد منها مرض أمي أمينة وملازمتها الفراش , ومع معزتها عندي فإني لم أستطع زيارتها بسبب وجود زوجة إبنها معها بالمنزل, وبالكاد أستقيت أخبارها من الجيران.
موسى كان على علم بعلاقتي بحليمة , وكان يسخر مني دوما ويقول أنها لا تليق لصحبتي أبدا وأني لن أربح من ورائها شيئا ,,وحين حكيت له ما حدت وأنها تركتني جالسا أنفجر ضاحكا وقال :
-كنت أعرف أنها غريبة الأطوار ولست ياعزيزي أول من وقع معها في مثل هذا الموقف
-لن تكون غريبة أكثر مني
-لا تهتم أبدا ستأتيك غيرها.
-كم هي مثيرة
-غيرها مثيرات
-ليس بدرجتها
-اوف ..... هل تحبها أم ماذا إنها أكبر منك بعقد وأكثر
-لا أعرف لكني أريدها
أنفجر ضاحكا من صراحتي وقال
-ألم تكن معك بالصبح وأمامك ولشهر وأكثر
-ربما أسأت التصرف بقولي أو تسرعت
-في النهاية كنت ستقول ما قلته, تختلف فقط الجمل , لكن المراد واحد...
وأبتسم للحظة وأضاف :
حاولت قبلك ولم أفلح وحمدت الله أنها لم تفضحني مع زوجتي أما الأن فهي لم تدخل منزلي أبدا بعد طلاقي
تنهدت بعمق وأطرقت برأسي وسألته :
-هل من أخبار عن محفوظ
أنتفض واقفا في غضب ورمى بما تبقى من كأس القهوة في جوفه وغادر أيضا قائلا:
-إذا كنت ستذكرني بذلك الخسيس فالأفضل أن أغادر
ما بال الجميع يغادر ويتركني, وثقت في نفسي أكثر مما مضى ,ونسيت أحزاني السابقة ,وانغمست في إيقاع جديد لا قبل لي به , وسعدت بالجلوس تحت المصباح الأصفر بمحل الشاي ...ثم فجأة انتهت سعادتي ووأدت معها رغباتي وتخيلاتي في حليمة فإما أن أغادر من معركة لم تبدأ أطوارها أو أتوقف في المنتصف بين خاسر ورابح ...
الفصل الثاني عشر
موسى تغير كثيرا بعد طلاقه , ورغم ما يخبر به من سعادة بالطلاق ,فالواقع يبن خلاف ذلك,وزاد من وجومه وتجهمه , وقلت كثيرا عبارات مزاحه للعابرات, ومحفوظ اختفى كأنه لم يكن أبدا, وأمي أمينة توفيت وغادرت دون وداع ودون أن أزورها وبلغني خبر وفاتها مساءا حيت وجدت ابنها محمود بالباب يتلقى العزاء.
السماء كانت مكفهرة للغاية , وخيوط المطر تسارعت بشكل رهيب طرد كل الراجلين والتزموا جنبات المنازل , وخبر وفاة المرحومة شكل صدمة لي ..وقلت أنه كان من الواجب علي أن أزورها وأقبل رأسها, فطالما أحببتها وطالما جالستني كابن من أبنائها ,ولعنت في نفسي انشغالي وإهمالي .وقال محمود أبنها أنها ذكرتني بدعائها في جملة من ذكرت , ودعت لي بالسكينة , فحضنته بين ذراعي بالباب ,وسالت مني دمعة جافة , ثم تلتها دموع ,وكأن بابا موصدا في صدري فتح على مصراعيه ,و لم أشعر بنفسي إلا وقد جلست القرفصاء على عتبة المنزل , وأجهشت بالبكاء كطفل صغير , وتسارعت أنفاسي وزفراتي, وبدل أن أخفف على أهل المرحومة الخطب بالمواساة زدتهم هما على هم و تباكوا بجانبي آسفين .
جفت ينابيعي , والتزمت الصمت أمام الباب الرحيم ,ثم ودعت الواقفين ميمما جهة شقتي قبل أن أتوقف وقد شاهدت قواما مألوفا يقف قرب قرب الباب , تيقنت ,أنها هي ولا أحد غيرها, عائشة صاحبة الطلة البهية الأنيقة , أضطربت من جديد أمامها وركبني شعور الخشية الذي افتقدته أمام عزيزة, ومع تقدمها نحوي بخطوات مدروسة ومحسوبة خلتها طير بلبل يمشي على الأرض ولا أعرف إن كانت شاهدتني , لكنها اقتربت لتقدم العزاء لمحمود وبادلته عبارات المواساة , ووقفت قليلا كأنها تنتظر أحدا, وكنت ساعتها في مواجهتها أرتعد , ثم رفعت رأسها إلي وشاهدتني , نعم هذا ما تيقنت منه, وبدت عيناها مخضبتان متلألئتان بدمع خافت , وخفظت رأسها قليلا ويداها في جيوب معطفها الشتوي ,ثم إقتربت مني ونطقت بعبارة هامسة ورقيقة للغاية
-كيف حالك أخي حسن هل أنت بخير
وبنفس همسها أجبتها وعيناي تنظران إلى الأرض حيت موضع قدماي
-بخير ....بخير شكرا وأطال الله عمرك
- البركة في رأسك من جهة السيدة أمينة ,أعرف أنها تمثل لك الكثير وأنها بمرتبة والدتك, أتمنى أن يعوض الله محبتها في قلبك بالصبر
وتمتمت بعبارة هامسة
-لا أراك الله بأسا سيدتي.. أشكرك من كل قلبي
وحضرتني أمامها صورتها وهي تحرك كأس القهوة الملعون وقفزت فوقها كلمات الأغنية القديمة فأوجمت في صمت عنيد لا يقاوم وأنا خجل من سلوك سابق أقدمت عليه في حقها ,وقلت أنها ربما تجاملني فقط, ولولا الوفاة لرمتني بأقبح عبارات السب .
وواتتني شجاعة عابرة فقلت غير ناظر جهتها :
- خجل للغاية مما أقدمت عليه معك...لست إلا حقيرا جبانا .
ابتسمت بسمتها الحنونة ونظرت وقالت:
-لا عليك ........ مضى ذاك اليوم إلى غير رجعة رغم أنه سيبقى علامة استفهام في مخيلتي
-ما أقبحها من علامات استفهام, وصدقيني ليس إلا خوفا ينتابني من كل مجهول
-لا عليك
وعم صمت مرير تقطعه أصوات النواح والبكاء بالشقة وتحركت بجريرتي كلمات متسائلة صعودا ونزولا , ونادى مناد من أعماق داتي أن علي طلب موعد جديد معها ,فتشجعت وأقتربت منها , و وقلت محاذرا أن يسمعني الواقفون :
- هل أطمع في رؤيتك من جيد
أدارت عينها في المكان كأنما لتخبرني أن الوقت غير مناسب البتة وقالت بعبارة خافتة وملامح الإستغراب تعلو محياها :
-ربما
وتقدمت منها سيدة يظهر جيدا أنها والدتها وأنها كانت بانتظار خروجها من الشقة , وشيعتا الواقفين بنظرات سلام وغادرتا تحت سقف مضلتهما, فيما بقيت مرتكنا إلى جهة الحائط مستسلما لمشاعري المختلطة , وأختلط علي شعور الأسف لوفاة أمي أمينة وشعور الفرحة لحديثها إلي وقفزت بعض الأدراج مرددا:
من خضم الوفاة تنبعث أخبار الفرح...فطوبى للفرحين دوما , وكم كنت غبيا حين غادرت تاركا مثل هذا الجمال على الطاولة وحيدا , وربما هو حلم من أحلام الخيال أن أعود يوما لمجالستها
الفصل التاسع
رن الهاتف وكان موسى على الخط وكنت ساعتها بمكتبي بمقر عملي:
-هل أنت هنا بالعمل؟
-بالطبع وأين سأكون؟
-هل لي برؤيتك للحظة من فظلك يتعلق الأمر باستشارة.
-أين أنت الآن؟
-ببهو الاستقبال
-إذن انتظرني هناك أنا قادم
وطويت ما كان أمامي وتوجهت إلى جهة الاستقبال , حيت وجدت موسى كعادته بشعره الأشعث والمنفوش يدور برأسه في زوايا المبنى , وبجانبه سيدة توهمت أني وسبق لي رؤيتها , لكن عند اقترابي منها تأكدت أني سبق ورأيتها فعلا , ومع يقيني اهتز قلبي ,وصعد الدم الساخن إلى صفحة وجهي, كانت هي , ولا أحد غيرها
-هذا هو حسن الذي حدثتك عنه , إنه صديقي وسيفيدك لابد في مثل هذا الأمر.
ثم وهو يخاطبني ويشير إليها بيده:
-حليمة . من معارفي استشارتني في موضوع ربما أنت أدرى مني فيه فرافقتها لعلك تفتي عليها برأي صواب.
وطالعتي بعينيها الواسعتين وشفتيها المشققتين, وخلت للحظات أنها تعرفت علي , لكن لم يبد على وجهها ما يفيد ذلك, وبريح طيبة ومغلوبة تختلف بتاتا عما شاهدته فيها من بطش قالت:
-من فضلك سيد حسن ,إن كان وقتك يسمح أريد أن أستشيرك في موضوع يخصني
-على الرحب و السعة سيدتي لنجلس هنا
وجلست بنفس استكانتها, وبدا من طرف جلبابها السفلي ساق سميك للغاية مغلف بكولون ضيق , ولم أفلح أبدا في إخفاء تعلقي بالساق وصاحبته, وزاد منه مشهدها السابق المؤرخ في سجل ذاكرتي,ورن هاتف موسى من جديد, ولا أعرف ماذا كانت مكالمته لكنه بدا منشغلا واستأذننا ثم غادر على عجل مكملا مكالمته.
وجدتني في مواجهتها وعلى مقربة منها, في شبه حلم لم أتوقعه بتاتا , ولو حكى لي شخص حكاية مماثلة لما صدقت أن الأقدار قد تنسج الأحدات بنفس الشكل.
تململت قليلا فأعرتها انتباهي من جديد وعادت تقول:
-سيد حسن لقد حكى لي موسى عن طيبتك وخلقك وهذا شجعني لأطلب مساعدتك
ونطقت من أعماق فؤادي وفرحة مزقططة , تشملني مع رعب حقيقي يدك قلبي:
-على الرحب والسعة أنا رهن إشارتك
-حسنا .. المشكل أني تعرضت لحادت سير مروري, حيت صدمتني سيارة مند حوالي السنة بناصية الشارع هنا..كان حادثا بسيطا لكني تعرضت فيه لفك على مستوى القدم , وكلفني التوقف عن عملي ومصاريف إضافية ...
-هل تم تقييد المعاينة بحادثة السير ساعتها.
-نعم وقمت بتوكيل محامي في الموضوع...وأدركت أن المحكمة حكمت لي بتعويض.. وهذا ليس المشكل ,............ المشكل الذي قدمت من أجله أن المحامي لم يسلمني أي مبلغ لحد الآن, وعند سؤاله يخبرني أنه لم يتوصل بعد بالتعويض.....ومثل هذا الأمر أثار شكوكي كثيرا.. فاستفسرت موسى والذي كنت أساعد زوجته في أعمال التنظيف , وهو من أرشدني إليك لعلك تبحث لي في الموضوع وتعرف إن كانت شركة التأمين صرفت لي مبلغ التعويض أم لا.....
أجبتها مطمئنا:
هذا أمر سهل لابد لي من معرفة بعض الأمور كالشركة المؤمنة وسأتولى الأمر بكل سرور ,وأخذت هاتفها وأعطيتها هاتفي , وتعددت بعد ذلك الاتصالات بيننا حتى طلبت يوما رؤيتها وحددت مكان اللقاء مساءا بزاوية الشارع حيت توجد الشركة.
كانت مثيرة للغاية , هذا مل أنكره أبدا , مليحة لحد الجنون بجسم مليئ , وعن بعد وقبل وصولي إليها قلت مازحا :
-لن أسلم اليوم من قبضة يدها إن أفلت لساني بكلمة خارجة
كانت البادئة بالتحية, وكما حدست فسنها لابد جاوز العقد الرابع وأخبرتها بنتيجة بحتي وأن الشركة في طور صرف مبلغ تعويضها فتنفست وقالت:
-المحامي المسكين ظلمته وألبسته ما ليس فيه....
أمنت على قولها قائلا:
-لا زال في الدنيا أولاد ناس وأناس شرفاء
ثم دعوتها لكأس شاي وبعض الرغيف البلدي(المسمن) بمحل قريب ... وطال بيننا حديث ودي حتى ارتحت لها وخرجت عن خجلي , بل وجدتني أكثر جرأة في الحديث, وعرفت أنها مطلقة بدون أطفال وتكتري غرفة بسطح المنزل بنفس العمارة التي تسهر على تنظيفها أيضا ,وفهمت من وصفها أنها العمارة التي رأيتها فيها أول مرة , وأدركت أيضا أنها لا تذكرني البتة , ولا تذكر ما وقع لي معها فأرتاح قلبي , وطلبت لي ولها جبانيتي حريرة .
وفي بضع أيام وجدتني معتادا عليها, بل وأنتظر مجالستها بفارغ صبر فأحكي لها ما يضيق به صبري وأجد في تفسيراتها البسيطة ما يواكب سخريتي المريرة من حياتي ,وكان مكان لقائنا دوما هو محل الشاي والأكلات الخفيفة بالزاوية , فيجمعنا فطور الصباح, ويغادر كل منا لوجهته وإلى عمله, وإذا سنحت ظروف عملها ألتقيتها مساءا ونأخذ معا جبانيتين من الحريرة الساخنة , وأفرغ ما يضيق به صدري على مسامعها.
كنت مرتاحا للغاية في محل الشاي الشعبي وبجلستها اللامبالية بجلبابها الضيق , وقارنت جلستي معها بجلستي مع عائشة فأحترت في تفسير تعلقي بها وبجلستي معها وضيق صدري من الأمكنة الراقية , ورغم تعلمي ووظيفتي , ومكانتي كرئيس قسم ظل خاطري هاربا دوما من الأمكنة الخاصة ومن اللقاءات الرسمية , وقلت دوما ما أجمل الجلوس إلى امرأة مليحة تحت ضوء مصباح تقليدي ووسط مكان مفعم بروائح الشاي والحريرة.
الفصل العاشر
كان صباحا شتويا ماطرا للغاية وفي طاولة جانبية بالمحل جلست رفقة حليمة نتناول وجبة الفطور, وفي حديثنا الصباحي حدثتني عن نفسها وقالت::
-تعبت من العمل وأرغب في بعض الراحة ولو ليومين
-ألا تأخذين إجازة للراحة وتغيير الجو قليلا
ضحكت بصوت عالي من قولي وقالت
-الإجازة لكم أنتم المرسمون , أما أنا إذا أخذت إجازة ستضيع مني فرص العمل وسيجلب الناس غيري للتجفيف والتنظيف .
-وهل أنت مرتاحة في عملك هذا,
-صراحة لا أعرف ............ بالكاد أؤدي مصاريف الكراء وبعض مستلزماتي وأرسل بعض المال لوالدتي بالقرية ,وأحيانا أفكر بالهجرة وأحيانا أتراجع , وكنت على وشك الاتفاق مع شخص لتهجيري لكني لم أجهز المبلغ المطلوب., وقلت مع نفسي إنه ليس مقدرا لي الخروج بعد ,ربما إذا توصلت بالتعويض يتحقق القدر ...من يدري.
-نعم من يدري يوما ما تغادرين وأجلس وحدي هنا
وضحت بصوت عالي كعادتها وقالت
-أقصى ما أفكر فيه الأن أن أزور الضريح بمدينة مكناس وأقضي فيه يومي السبت والأحد لعل ذلك يرفع عني بعض العياء
لا أعرف كيف واتتني الشجاعة فقلت كصياد يرمي صنارته في الخواء:
-ربما نذهب معا ونكتري منزلا هناك
وقبل أن أكمل كلامي جمعت أغراضها بسرعة من الطاولة ورمتني بنظرة ازدراء وغضب , ثم غادرت المكان بسرعة مخلفة خلفها نظراتي الملتهبة لجسدها المفضوح وتمتمتي بالحمد لأنها لم تمسكني من ربطة عنقي.
الفصل الحادي عشر
مساءا جمعني المكان بموسى بمقهى النجمة ,وكنت في شبه حيرة وصدمة زاد منها مرض أمي أمينة وملازمتها الفراش , ومع معزتها عندي فإني لم أستطع زيارتها بسبب وجود زوجة إبنها معها بالمنزل, وبالكاد أستقيت أخبارها من الجيران.
موسى كان على علم بعلاقتي بحليمة , وكان يسخر مني دوما ويقول أنها لا تليق لصحبتي أبدا وأني لن أربح من ورائها شيئا ,,وحين حكيت له ما حدت وأنها تركتني جالسا أنفجر ضاحكا وقال :
-كنت أعرف أنها غريبة الأطوار ولست ياعزيزي أول من وقع معها في مثل هذا الموقف
-لن تكون غريبة أكثر مني
-لا تهتم أبدا ستأتيك غيرها.
-كم هي مثيرة
-غيرها مثيرات
-ليس بدرجتها
-اوف ..... هل تحبها أم ماذا إنها أكبر منك بعقد وأكثر
-لا أعرف لكني أريدها
أنفجر ضاحكا من صراحتي وقال
-ألم تكن معك بالصبح وأمامك ولشهر وأكثر
-ربما أسأت التصرف بقولي أو تسرعت
-في النهاية كنت ستقول ما قلته, تختلف فقط الجمل , لكن المراد واحد...
وأبتسم للحظة وأضاف :
حاولت قبلك ولم أفلح وحمدت الله أنها لم تفضحني مع زوجتي أما الأن فهي لم تدخل منزلي أبدا بعد طلاقي
تنهدت بعمق وأطرقت برأسي وسألته :
-هل من أخبار عن محفوظ
أنتفض واقفا في غضب ورمى بما تبقى من كأس القهوة في جوفه وغادر أيضا قائلا:
-إذا كنت ستذكرني بذلك الخسيس فالأفضل أن أغادر
ما بال الجميع يغادر ويتركني, وثقت في نفسي أكثر مما مضى ,ونسيت أحزاني السابقة ,وانغمست في إيقاع جديد لا قبل لي به , وسعدت بالجلوس تحت المصباح الأصفر بمحل الشاي ...ثم فجأة انتهت سعادتي ووأدت معها رغباتي وتخيلاتي في حليمة فإما أن أغادر من معركة لم تبدأ أطوارها أو أتوقف في المنتصف بين خاسر ورابح ...
الفصل الثاني عشر
موسى تغير كثيرا بعد طلاقه , ورغم ما يخبر به من سعادة بالطلاق ,فالواقع يبن خلاف ذلك,وزاد من وجومه وتجهمه , وقلت كثيرا عبارات مزاحه للعابرات, ومحفوظ اختفى كأنه لم يكن أبدا, وأمي أمينة توفيت وغادرت دون وداع ودون أن أزورها وبلغني خبر وفاتها مساءا حيت وجدت ابنها محمود بالباب يتلقى العزاء.
السماء كانت مكفهرة للغاية , وخيوط المطر تسارعت بشكل رهيب طرد كل الراجلين والتزموا جنبات المنازل , وخبر وفاة المرحومة شكل صدمة لي ..وقلت أنه كان من الواجب علي أن أزورها وأقبل رأسها, فطالما أحببتها وطالما جالستني كابن من أبنائها ,ولعنت في نفسي انشغالي وإهمالي .وقال محمود أبنها أنها ذكرتني بدعائها في جملة من ذكرت , ودعت لي بالسكينة , فحضنته بين ذراعي بالباب ,وسالت مني دمعة جافة , ثم تلتها دموع ,وكأن بابا موصدا في صدري فتح على مصراعيه ,و لم أشعر بنفسي إلا وقد جلست القرفصاء على عتبة المنزل , وأجهشت بالبكاء كطفل صغير , وتسارعت أنفاسي وزفراتي, وبدل أن أخفف على أهل المرحومة الخطب بالمواساة زدتهم هما على هم و تباكوا بجانبي آسفين .
جفت ينابيعي , والتزمت الصمت أمام الباب الرحيم ,ثم ودعت الواقفين ميمما جهة شقتي قبل أن أتوقف وقد شاهدت قواما مألوفا يقف قرب قرب الباب , تيقنت ,أنها هي ولا أحد غيرها, عائشة صاحبة الطلة البهية الأنيقة , أضطربت من جديد أمامها وركبني شعور الخشية الذي افتقدته أمام عزيزة, ومع تقدمها نحوي بخطوات مدروسة ومحسوبة خلتها طير بلبل يمشي على الأرض ولا أعرف إن كانت شاهدتني , لكنها اقتربت لتقدم العزاء لمحمود وبادلته عبارات المواساة , ووقفت قليلا كأنها تنتظر أحدا, وكنت ساعتها في مواجهتها أرتعد , ثم رفعت رأسها إلي وشاهدتني , نعم هذا ما تيقنت منه, وبدت عيناها مخضبتان متلألئتان بدمع خافت , وخفظت رأسها قليلا ويداها في جيوب معطفها الشتوي ,ثم إقتربت مني ونطقت بعبارة هامسة ورقيقة للغاية
-كيف حالك أخي حسن هل أنت بخير
وبنفس همسها أجبتها وعيناي تنظران إلى الأرض حيت موضع قدماي
-بخير ....بخير شكرا وأطال الله عمرك
- البركة في رأسك من جهة السيدة أمينة ,أعرف أنها تمثل لك الكثير وأنها بمرتبة والدتك, أتمنى أن يعوض الله محبتها في قلبك بالصبر
وتمتمت بعبارة هامسة
-لا أراك الله بأسا سيدتي.. أشكرك من كل قلبي
وحضرتني أمامها صورتها وهي تحرك كأس القهوة الملعون وقفزت فوقها كلمات الأغنية القديمة فأوجمت في صمت عنيد لا يقاوم وأنا خجل من سلوك سابق أقدمت عليه في حقها ,وقلت أنها ربما تجاملني فقط, ولولا الوفاة لرمتني بأقبح عبارات السب .
وواتتني شجاعة عابرة فقلت غير ناظر جهتها :
- خجل للغاية مما أقدمت عليه معك...لست إلا حقيرا جبانا .
ابتسمت بسمتها الحنونة ونظرت وقالت:
-لا عليك ........ مضى ذاك اليوم إلى غير رجعة رغم أنه سيبقى علامة استفهام في مخيلتي
-ما أقبحها من علامات استفهام, وصدقيني ليس إلا خوفا ينتابني من كل مجهول
-لا عليك
وعم صمت مرير تقطعه أصوات النواح والبكاء بالشقة وتحركت بجريرتي كلمات متسائلة صعودا ونزولا , ونادى مناد من أعماق داتي أن علي طلب موعد جديد معها ,فتشجعت وأقتربت منها , و وقلت محاذرا أن يسمعني الواقفون :
- هل أطمع في رؤيتك من جيد
أدارت عينها في المكان كأنما لتخبرني أن الوقت غير مناسب البتة وقالت بعبارة خافتة وملامح الإستغراب تعلو محياها :
-ربما
وتقدمت منها سيدة يظهر جيدا أنها والدتها وأنها كانت بانتظار خروجها من الشقة , وشيعتا الواقفين بنظرات سلام وغادرتا تحت سقف مضلتهما, فيما بقيت مرتكنا إلى جهة الحائط مستسلما لمشاعري المختلطة , وأختلط علي شعور الأسف لوفاة أمي أمينة وشعور الفرحة لحديثها إلي وقفزت بعض الأدراج مرددا:
من خضم الوفاة تنبعث أخبار الفرح...فطوبى للفرحين دوما , وكم كنت غبيا حين غادرت تاركا مثل هذا الجمال على الطاولة وحيدا , وربما هو حلم من أحلام الخيال أن أعود يوما لمجالستها
تعليق