" ..خشخشة .."

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • Off The Grid
    كُلُّهُم رَحَلـوا ...
    • Dec 2004
    • 4007

    " ..خشخشة .."

    كانت في غرفتها الحالكة ممددة على الحصير , تنظر إلى السقف بإمعان ثم بحركة خاطفة تحجبه عنها بأصابع يدها و كأنها قضبان , ثم تعود فتنظر إلى السقف مرة أخرى , و هكذا . كانت نظراتها تنتقل بالتناوب بين أصابع يدها و السقف دون سبب واضح . ربما رأت أن المرء يسمح له أحيانا بأن يقضي على الفراغ بأية وسيلة متاحة دون التدقيق في الأسباب التي تدعوه لهذه الوسائل .
    الأجواء في البيت ساكنة و كأنه مقبرة , مع أن الجميع كانوا موزعين بين غرفتين أخريين و مطبخ ضيق و حمام و حديقة اعتادت دجاجات الجارة أن تتسلل إليها لتنال نصيبها من قوت - الله وحده يعلم - كيف تستدل عليه وسط هذا البؤس المدقع , و لكنهم على ما يبدو قد نذروا هذا اليوم للصمت .
    إلى أن تناهت إلى مسمع الطفلة خشخشة أكياس , فوثبت سريعا و دست أرجلها الصغيرة في فردتي قبقابها كيفما اتفق ثم انطلقت تجري نحو مصدر الصوت و هي تنادي : " بابا .. بابا .. هل عدت؟ ماذا أحضرت ؟.. هل جئتني بها ؟ .. ؟ " . لقد توقعت بحكم العادة أن يكون القادم أباها , فلا أحد سواه ترافقه خشخشة الأكياس عادة , و قد كانت تتحرق شوقا إلى هذه الخشخشة اليوم بالذات , لأن أباها وعدها بأن يشتري لها في هذا اليوم تلك اللعبة الضخمة ذات الأزرار الكثيرة و المصابيح المضيئة , و التي رأت مثيلتها لدى ابنة جيرانهم المتبجحة , و التي كانت دائما تستعرض هذه اللعبة أمامها قائلة بزهو و اعتزاز : " انظري كيف إذا وضعت قطعة نقدية من فائة مائة مليم في هذا الدرج ثم دفعته تجري تلك الكرة و تتواثب في تلك المتاهة دون عناء؟ " . لقد ظل هذا الغرور يعصرها عصرا و يشعرها بأن امتلاك لعبة مماثلة هي مسألة حياة أو موت . و قد رجت فعلا أباها أن يشتري لها تلك اللعبة , و قد دلته مرارا على المحل الذي يعرض هذا النوع من الألعاب " المزررة " على واجهته . و رغم حاجته إلى المال و الفقر الذي صار على مشارفه , فقد وعدها بأن يأتيها بهذه اللعبة في هذا اليوم .

    وهي تركض نحو الباب أدركت أنها استنفدت صبرها و لم تعد تطيق هذه المسافة القصيرة بين غرفتها و الفناء , حتى لكأنها ظلت تركض أميالا لتصل إليه . و
    لكنها ما إن بلغت الممر حتى رأت أمامها رجلا غريبا , لم يسبق لها أن رأته في حياتها , و يبدو أن الخشخشة قد صدرت عن الكيس الأسود الذي كان يحمله في يده . رمقته بنظرة مستطلعة أنستها حتى اللعبة التي لم تكد تبرح ذهنها في هذه الأيام قط.
    و سألته بينما هو يبادلها نظرة مبهمة المعنى : " من تكون؟ .. إن أبي ليس في البيت . "
    فأجابها بعد أن أبعد عن عينيه نظارة شمسية مغبرة : " المعذرة , أ هذا بيت السيد جلال؟ "
    فردت عليه وهي تهز رأسها : " نعم, هذا هو بيته . فمن تكون؟ "
    فقال : " لقد جئت لأعلمك أن أباك قد اضطر إلى سفرة مفاجئة إلى بلدة " تلابت" ليقضي شؤونا مستعجلة هناك . و قد أوصاني أن أستدل على بيتكم و أسلم هذا الكيس إلى ابنته الصغرى . هل أنت هي نادية أم أن لك أختا أصغر تحمل هذا الإسم؟ " .
    فأجابته بنبرة يمازجها شيء من ذهول : " اه ... أ .. أنا نادية عينها . .. شكرا على مجيئك . "
    فرد يقول : " لا بأس . إن جلال صديق قديم و ما كنت لأرفض له طلبا . تفضلي هذا الكيس , و اسمحي لي بالمغادرة . عمتم مساء . "
    و دون أن ينتظر جوابها استدار مغادرا و أغلق الباب وراءه .
    و ما إن انقضت هنيهة من صمت , حتى بدأت تتحسس بيديها محتوى الكيس الأسود دون أن تفتحه , فإذ بيديها تجس علبة من كرتون مقوى , و بسرعة فتحت الكيس فإذ بها تلمح العلبة التي تحوي لعبتها المنشودة . رمقتها بعينين سعيدتين , كانت ألوانها مائلة إلى الزرقة السماوية , و لم يكن يسوءها هذا الإختلاف بين ألوان لعبتها و ألوان لعبة ابنة جيرانهم التي تمزج بين اللونين الوردي و البرتقالي .
    لكن ذراعيها سرعان ما تهدلتا و قد خالجها في تلك اللحظة حزن ثقيل .
    كم تمنت لو أن والدها هو الذي سلمها هذه الهدية بيده , فقد كان ذلك يشكل النصف الثاني من فرحتها باللعبة . و لكنها الان تشعر و كأنها تسلمت شيئا عاديا جدا , شيئا لا يستحق هذا الإنتظار الذي بذل لأجله و تلك الدنانير التي بذرت لقاء شرائه , و التي كان يمكن لها أن تبذل في سبيل أشياء أخرى يحتاجها البيت , أو في سبيل أدوية أمها المصابة بالسل.
    شعرت فجأة بحاجة لمعانقة أبيها و طلب الصفح منه و هي تعلل بكاءها بالقول : " لا أريد هذه اللعبة يا بابا .. أعدها إلى البائع و اشتر بثمنها معطفا لك عوضا عن هذا المعطف المرقع القديم الذي تلبسه , أو اشتر بثمنها أي شيء اخر تريد . خذ هذه اللعبة يا بابا .. لا أريدها ! "
    , و لكن سفره المفاجىء إلى " تلابت " حرمها من هذا البكاء المريح و جعلها تحقد على تلك اللعبة بشكل متزايد شيئا فشيئا .



    لحظية أنهيتها منذ ساعة تقريبا
    ز.م
  • *مزون شمر*
    عضو مؤسس
    • Nov 2006
    • 18994

    #2
    رد: " ..خشخشة .."

    قصة جميله
    ماشاءالله عليك
    الله يعطيك العافيه وتستاهل التثبيت ..
    موفقه غاليتي ..

    تعليق

    • غرور شمس
      عضو ذهبي
      • Sep 2011
      • 891
      • السعاده لاتعني أنك تعيش حياة كامله
        بل تعني أنك قد قررت
        غض البصر عن النواقص . .
        ” لو كانت الدنيا مثلما نريد ”
        لما تمنينا الجنه

      #3
      رد: " ..خشخشة .."

      تسلم الايادي رائعة
      تحياتي

      تعليق

      • الليديM
        عضو متألق
        • Oct 2012
        • 425

        #4
        رد: " ..خشخشة .."

        قصة رائعة ,, وأسلوبك أروووع

        أسلوبك الشيق عيشني أجواء القصة

        ماشالله عنك

        موفقة

        تعليق

        • زهور و عطور
          عضو ذهبي
          • Jun 2012
          • 866

          #5
          رد: " ..خشخشة .."

          قرأنا القصة بشوق وبلهفة وكاننا نتفرج على فيلم عشنا وقائعه لحظة لحظة

          كتب في نهاية الجينيريك==قصة واقعية==

          بوركت وتسلم الانامل التي حملت اليراع الذي خط وبمهارة هذه القصة الحزينة

          تعليق

          • شملول
            عـضـو فعال
            • Dec 2009
            • 93

            #6
            رد: " ..خشخشة .."

            يسلمو

            تعليق

            google Ad Widget

            تقليص
            يعمل...