اخرج منها يا ملعون

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سلطااااان_التحول
    عـضـو
    • Oct 2005
    • 33

    #11
    رد: اخرج منها يا ملعون

    أخرج منها يا ملعون

    قبيلتنا ضعفت مع ضعف شيوخها فصار الأجنبي يملأ عناوين مراتبها

    الجزء (11)





    في الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد الشيخ ابراهيم واحفاده الثلاثة حسقيل ويوسف ومحمود حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة. ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة عن طريق «مشروعات» تربط العشيرة بالاجنبي، وتصل ممارسات حسقيل الى حد التخطيط لقتل الشيخة، وفي المقابل فكرت الشيخة في قتل حسقيل للتخلص من شروره. ويظهر عنصر جديد في الاحداث هو تحريض نخوة بنات القبيلة ضد حسقيل. وبعد وفاة والدة نخوة، تعد الابنة خطة تراوغ فيها حسقيل للتخلص منه.

    حل اليوم الذي اتفقوا أن يلتقوا فيه في بيت أبي سالم.. حضر سالم ورجاله، شباباً وكهولاً، هذا يحمل قوسه وسهامه، وذاك يحمل سيفه أو رمحه، وذاك يحمل قضيباً من حديد، وقليل منهم يلبس درعاً أو يحمل ترساً.. وكانت وجوههم الطافحة بالإيمان تنبئ بما صمموا عليه.. وقد وضعوا جميعاً عدة الحرب في بيت سالم وفق ما تم الاتفاق عليه بين سالم ونخوة، خشية غدر تحالف قبيلة الروم وحسقيل بهم..
    بدأ الناس يتوافدون من كل فج وبيت، شيوخ العشائر في القبيلة، ووجوهها، شيباً وكهولاً وشباباً، هذا يركب راحلته، وذاك يركب فرساً أو حصاناً، وذاك على ظهر ناقة، أو ذلول، وبعض كبار السن الذين لا تصل إمكانياتهم إلى فرس أو جمل، كانوا يمتطون حميراً.. أما من كانت بيوتهم قريبة من بيت سالم فكانوا يأتون راجلين..
    تكامل توافدهم، وكان أبو سالم يشرف على الاجتماع والضيافة، يعاونه سالم من غير أن يظهر بأنه المبرز في التأثير ابتداء، على وفق ما اتفق عليه هو ونخوة، ووافق عليه حسقيل من غير أن يعرف بحقيقة التدبير. وما أن تجمعوا، حتى طلب حسقيل إذناً من أبي سالم بأن يتكلم..
    أذن أبو سالم له بالكلام، بأن مد يده باتجاه حسقيل، وهو يبسطها ويحركها باتجاهه، أن ابدأ، حتى قال حسقيل:
    لقد اجتمعنا هنا لأمر يهم القبيلة كلها وقد اجتمعنا في هذا المكان وفق رغبة نخوة، حيث أنني فاتحتها برغبتي في خطبتها لتكون زوجة لي.. لكنها قالت إن الطريقة التي تقدمت بها لخطبتها غير لائقة، نظراً لأنني فاتحتها في بيتها بعد أن زرتها هناك، قالت لي انذاك إن من الأحسن أن أخطبها من القبيلة كلها بحضور أعمامها بينكم، وها بعد تكامل حضور القبيلة، أرجو أن تباركوا خطبتي هذه لنزيد القبيلة اقتداراً، املاً أن يزيد زواجي من نخوة، وانتقالها معي إلى بيت الزوجية، أموالنا بما تملكه وأملكه من أموال تعرفونها، وقد يفتح هذا وغيره مجالاً للسلم داخل القبيلة، بعد أن خرج منها عدد من الشباب، وفي ظنهم أن خروجهم على المشيخة هو الطريق الصحيح لتصحيح ما يظنونه خطأ، أما نحن فنظن، بل متيقنون، من أن طريقنا هو الصحيح.
    أكمل حسقيل كلامه وجلس..
    نهض سالم، وبدأ يعرّف نفسه: سالم بن محمد بن شجاع بن سيف بن حسين بن رشيد بن علي بن طعان بن رمح بن عبد المطلب.. ابن.. ابن.. من هذه القبيلة أباً عن جد.. وعاشوا كلهم وماتوا على هذه الأرض، وذادوا بسيوفهم وأموالهم وأبنائهم عن القبيلة وحماها.. وعلى أساس ما تعرفون، فأنا لا أقدم الحديث عن المال لأنه ليس عنوان الشرف والأمانة والالتزام حكما، إنما نوع من الأرزاق قد يكون سبيلاً للجحيم، وقد يكون منجاة مع الصفات والأعمال الأخرى في الاخرة، إنما أقول: أنا مثلما أنا، ومثلما تعرفون، أعلن عن رغبتي بأن أخطب نخوة زوجة لي في هذه الدنيا قبل الاخرة، إن شاء ربّ العالمين، فإن قبلت بي فعهدي لها أمامكم أن أكون وفياً مخلصاً أميناً، وأن تملك كل ما أملك، وأن يكون ما تملكه هي لنفسها وحدها، تتصرف به وفق ما تشاء، لا طمع لي إلا بصفاتها الحميدة، وأصلها الطيب وعفتها، لأحفظ بها صفات أولادي، إن رزقنا الله أولاداً، وإن شاء الله يجنبنا وإياهم عثرات الطريق، وزيغ ما يوحي به الشيطان ومعشر السوء، وإن رفضتني، فحسبي أنني قدمت نفسي أمامها كاختيار من أحد أبناء (الديرة) والحمى، مقابل رغبة الأجنبي وعرضه الذي قدمه حسقيل..
    عندما قال (رغبة الأجنبي)، قام حسقيل من مكانه، وهمّ بأن يتجه إلى سالم، وهو ينفض برأسه منزعجاً ويصيح بهستيرية ظاهرة:
    أنا أجنبي، يا ولد؟
    أجابه سالم بهدوء:
    أنا أخو أختي.. وأنا أخو نخوة حتى الان، بوصفها نخوة قبيلتنا وليس ولداً، على ما أردت أن تصف، فاحترم نفسك في مجلس الرجال، واعرف قدرك وكيف تتكلم.
    وعندما لاحظ أن سالم يتكلم بهدوء، لكن بحزم، قال حسقيل، قبل أن يجلس:
    أنا شيخكم، ألست هكذا، يا جماعة الخير؟.. قال ذلك وهو يشير بيده إلى الجالسين، ثم أردف يقول:
    جئت هنا لأعرض عليكم خطبتي لنخوة، لا لنضع نخوة في مزاد مفتوح!! قال سالم بعد أن جلس حسقيل، لكنه بقي واقفا، رغم مقاطعة حسقيل له:
    أنت، يا حسقيل، أجنبي، ولست من قبيلتنا، رغم أنك تحمل عنوان شيخ القبيلة..
    مرة أخرى قاطعه حسقيل ليقول:
    لكنني شيخ القبيلة بأمر أكبر شيخ لأكبر قبيلة في هذا الزمان، هو شيخ قبيلة الروم..
    عاود سالم قائلا:
    استطاع شيخ قبيلة الروم أن يصدر أمراً مطاعاً لمن أطاعه لتكون على ما أنت عليه من وصف وحال شيخ القبيلة، على من أطاعك وليس علينا، في الوقت الذي غفل الناس عن دورهم وحقهم وواجبهم ومبادئهم، بل عندما تنازل وجوه القوم عن دورهم، وجعلوا الاخرين يغفلون بسبب ضعفهم، فإنما تخلوا عن حقهم وواجبهم.. ولهذا تمردنا عليك، وعلى شيخ الروم، وتحالفك معه ومع قبيلته، لنمثل برفضنا وتمردنا ضمير القوم، وندافع عن حاضرهم ومستقبلهم.. ولا أظن أن من اللائق لنخوة القبيلة أن تذل لأجنبي..
    عاد حسقيل مقاطعاً مرة أخرى:
    أريدها زوجة، يا رجل.
    لم يقل لسالم (يا ولد) مثلما فعل في المرة السابقة، ورده سالم بقوله:
    أنا أيضاً أعرض نفسي وروحي وحالي أمامها، راغباً بها زوجة، ونخوة للقبيلة، إذا لم يعترض اخواني الحضور، أقولها بتصميم لا يلين إلا عندما لا يلتقي برغبتها وقرارها، لو أعلنت أنها لا تريدني.. وها قد قلت قولي، ولم أعرض على نخوة مالاً أو شيئاً مما يرتبط به، ولم أزايد، لأن نخوة تجل عن المزايدة عليها.. ولأنها ليست سلعة، أو خدمة، أو بضاعة، إنما المقبول فقط أن يعلن أمامها من يعلن مزايدة للمعاني العالية بمستوى الإخلاص والتضحية، وبكل ما يعز قومنا، ومن خلفنا كل ذي قلب طاهر من الأجانب، ينوي التعامل معنا بتكافؤ، ومن غير أذى أو استغلال أو استغفال.. وفي كل الأحوال فإن أمراً من النوع الذي نتحدث عنه، يبقى قول نخوة هو القول الفصل فيه، إذ لا مجال لأن يفرض زواج عليها، إنما هي التي تختار، بعد أن صارت على ما هي عليه من عمر ونضج وصفات حميدة..
    قال حسقيل:
    نعم.. الاختيار لنخوة الان، وبعد أن تقول نخوة رأيها، ينبغي أن لا يقول أحد رأياً مخالفاً..
    قال ذلك، وفي ظنه أن نخوة ستختاره حتما.
    اتجهت الأنظار كلها إلى نخوة، التي استأذنت أبا سالم، ونهضت، في الوقت الذي تجمعت النساء كلهن واقفات خلف الرجال، الذين كان بعضهم يجلس على بسط والاخر على نبت الربيع في الأرض، ثم مشت حتى وقفت في مكان يراها فيه الجميع، رجالاً ونساء، وقالت:
    إن قبيلتنا ذات تاريخ مجيد، وحماها ذو عز ومهابة، بقدر ما عليه ناسها من عز ومهابة، وفي مقدمتهم رجالها، وكان خيرها الذي أصاب الناس أجمعين وفيراً.. كبيراً وعظيماً، وليس قومنا فحسب، عندما كانت على هذا الوصف، لكنها بدأت تضعف مع ضعف شيوخها ووجوهها، وولاة أمرها، حتى تضاءل شأنها إلى الحد الذي صار رجالها غير قادرين على أن يدافعوا عنها وعن خيراتها وحماها، بعد أن فقدوا القدرة على صيانة معانيها، فاستهان بها الأجنبي، بعد أن طمع بها إلى الحد الذي صار يتدخل في شؤونها، وينصب على أهلها هذا أو ذاك ليملأوا عناوين مراتبها، حتى وصل الهزال بها وإذلالها أن نصب الأجنبي حسقيلاً عليها، وفق تحالف معروف لكم، كأنه الابن اللقيط لمرحلته، فإذا كان الأجنبي قد تمكن من العنوان الأمامي لقبيلتنا، أو أي عنوان اخر بعده، على يمينه أو شماله، فلن يتمكن منا نحن بنات وأبناء قومنا الذين قررنا أن نبقى مخلصين، ونرفض المصطنع المذل.. ولأنني ابنة القوم الذين أنتم منهم، فلن يتمكن مني الأجنبي وحسقيل منهم، لذلك أعلن أمامكم، وأشهد الله، وأشهدكم على قولي وإخلاصي وأمانتي أنني أقبل خطبتي من ابن عمي سالم، وتاج رأسي، كابن بار لقومنا..
    دوت عاصفة من التصفيق من الحضور كلهم، نساء ورجالاً وأطفالاً.. شيباً وشباباً، صبية وصبايا، عدا حسقيل، الذي كان يصرخ حتى بحّ صوته.. ولم يسمعه أحد، وضاع صوته في الفضاء، في الوقت الذي كانت الموسيقى ودفوف وطبول الفرح تصدح في كل مكان، معلنة ولادة روح جديدة، وتقليد جديد من موقف جديد في زواج أبناء وبنات القبيلة.. وموقفهم من أنفسهم ومن الأجنبي الطامع..
    وخطت نخوة خطوات عدة وهي تتهادى باتجاه سالم، واستأذنته لترقص معه، أو تدبك الدبكة نفسها التي دبكاها عندما كان ملثماً في المناسبة المعروفة..


    ****

    نهض حسقيل ليغادر، لكن أبا سالم، باعتباره المضيف والمشرف على الدعوة، أشار اليه بأن يجلس، فجلس على مضض.
    انهت نخوة رقصتها مع سالم، تلك الرقصة المعروفة للقبيلة، وعادت لتقول وهي تقف في المكان نفسه:
    بعد ان حسمنا امرنا برضاكم، اخواني واخواتي وابناء عمومتي، بقيت شؤون اخرى، تتصل بالقبيلة وتتصل بي.. فقالت:
    لا اريد ان اتطرق الى ضعف أبي، فأنتم تعرفونه وأنا اعرفه، لكنكم تعرفون نوعية وموقف جدي وأجدادكم وكيف كانوا حماة القبيلة وعزها وكيف كان حال الناس وفق ما نعرف في احسن حال، عندما كانوا على تلك الصفات يمارسون مسؤولياتهم عليها.. ان الضعف يدخل نفوس الناس عندما لا تكون المهمة او المهمات التي يتولونها عالية المعاني وتعز الجماعة او عندما يداخل انفسهم ما يغويها بعيدا عن ذلك او عندما تختلط طباعهم وافكارهم بطباع اجنبية ليست على ايماننا ومعانينا، سواء من معاشرة وتعايش قريب او من خؤولة لا تحفط من المعاني العالية حدها الادنى.. او خؤولة لا تجد نفسها تنتمي الى تقاليدنا والمعاني التي نعتز بها ونفتخر ونضحي لنحافظ عليها ولأنني اعرف اسباب ضعب ابي والاسباب التي جعلت امي تضعف في القصة التي سأرويها لكم، فإن ضعفها حفز المعاني التي أختزنها في نفسي الان، حتى صارت سياجا قادرا ليحميني ويحافظ عليَّ امام صعوبات الحياة او اغراءاتها، لذلك رفضت حسقيل، وفضلت ابن بلدي.. ابن قبيلتي وقومي..


    ****

    عندما ذكرت نخوة أمها بدأ حسقيل يلم نفسه، وامام الاحتمالات التي كان يداورها في نفسه وما اصابه جراء رفض نخوة له ومرارة الموقف، صار جسم حسقيل ينكمش ويصغر، ليس نفسه فحسب وكان يتحدث مع نفسه وهو يسحب عقاله ليرجعه الى الخلف او يقدمه الى الامام تارة او يجلس القرفصاء او يمد هذه الرجل او تلك ويدلكها، كأنها (خدرت) من طول انتظار، تارة اخرى.
    قالت نخوة:
    ان حسقيل لم يتامر على المشيخة في القبيلة فحسب، بل على القبيلة كلها، هو وشيخ قبيلة الروم، الذي اسماه حسقيل اكبر شيخ، وسمى قبيلته اكبر قبيلة في هذا الزمان.. وانا اسمي ذلك الشيخ مثلما اسمي حسقيل: اخزى اثنين.. اما قبيلة الروم فليست اكبر قبيلة، اذا اخذنا الامور على الصفات والمعاني العالية.. او عدد الانفس..
    قال حسقيل مقاطعا:
    انا اخزى واحد بين اثنين كلاهما الاخزى، يا بنت!؟
    قالت نخوة:
    احترم نفسك، يا حسقيل، انا نخوة قومي، واذا كنت تصر على ان وصفي لك لا ينطبق عليك، تنازل عن الوصف الذي وصفته به واختر وصفا جديدا ولأن القول لا يفيد امام الفعل، فان تنازلت عن الوصف الذي وصفتك به، اذا كان لا يعجبك، ينبغي ان يتم بحيازة صفات مناقضة لصفاتك المعروفة المذمومة، وهذا يتم بالعمل والنموذج الذي تضفي به الجماعة عليك صفة استحقاق ما هو جديد.
    سكت حسقيل، لكن نخوة واصلت كلامها:
    عندما عزلتم والدي موجهة الكلام للقبيلة فعلتم ذلك باستحقاقه، لكنكم اخطأتم عندما توهمتم ان الاجنبي يمكن ان يصلح لقومكم مثابة وراية ومعنى وسندا، فجئتم بحسقيل شيخا للقبيلة ونسيتم في ذلك القرار الخاطئ ثوابت الامور الاساسية وخواص حسقيل، قبل ان يأتي الى قبيلتنا وتناسيتم ما وصلكم عنه من اخبار (علوم) قبل مجيئه، بما في ذلك ان ابراهيم، ذاك الشيخ الجليل، طرده من عطفه وحماه، بعد ان خرج على مبادئه واحرجه امام الناس، وفعل يوسف ومحمود الشيء نفسه.. وعندما صار حسقيل شيخا للقبيلة لم يكفه ذلك، انما دفعته عقده وماربه المتشعبة التي بدأت من انجاح بقالية يملكها او متجر صغير، الى سيطرة مصالحه على المنطقة كلها.. اقول لم يكفه عنوان المشيخة فينا، وانما راح يخطط ليتزوج امي وبسبب الوحدة التي كانت تعيشها ولأن واليا لم يكن على رأسها ولانها لم تكن بنت عمنا وربما اغراها حسقيل بلسانه المعسول، فقد استساغت خطة حسقيل عندما اعلن رغبته في الزواج منها..
    قالت ذلك وتدفقت الدموع من عينيها، لانها تعرف ان أمها لم تبق الامور مع حسقيل ضمن هذه الحدود، انما اندفعت الى ما تعرفه في سلوكها وعندما خنقتها العبرة وراح الدمع يتدفق مدرارا من ماقي عينيها، توقفت عن الكلام برهة، فاستغل الجمهور المتجمع خلف الرجال الجالسين على الارض، ليعلن عن نفسه بعاصفة من التصفيق، انتقل تأثيرها للجالسين، فصفقوا معهم بحرارة وبدأ من كان واقفا منهم يلقي شعرا وقصائد:
    اخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا..
    او يلقي هوسات:
    لو هلهلتي وصوتك عالي..
    وتحبني الناس من افعالي..
    احنا الرمح وسيف العالي..
    وكل خدّاع يجفل منا..
    صفن يا البيض شهود إلنا..
    وتجول النساء والرجال، كل ضمن حلقة مركبة، بجولات حماسية، كل يعبر عن موقفه، ويشجع نخوة ويتضامن معها ويلعن حسقيل، حتى صار حسقيل يقرع نفسه، وهو جالس مصفر الوجه، لا يكاد يرى دم فيه، ويقول:
    لماذا لم اركب فرسي واهرب، عندما اعلنت نخوة رفضها لي وفضلت سالم عليَّ؟
    ثم يعود يسأل نفسه:
    يا ترى هل ستقول كل شيء؟ انها ان قالت كل شيء، سيذبحونني، ولن يمنعوني من المشيخة فحسب..
    وعندها يقول:
    انا (كصيرهم) قصيرهم (يذكر نفسه بهذا لانه التجأ اليهم وعاش تحت حمايتهم) ولذلك لا اظنهم يقتلونني، لان العرب لا يقتلون (كصيرهم).
    ثم يعود ليقول:
    لكنني جعلت نفسي شيخا عليهم، ولم أبق (كصير) تحت حمايتهم، لذلك قطعت بنفسي حق ان يحموني..
    كان حسقيل يقول ذلك في نفسه، بعد ان لاحظ ان لا أحد يجامله، حتى وفق أبسط اشكال المجاملة للعلاقة بين شخص وشخص، اما المجاملة على اساس انه يحمل عنوان شيخ القبيلة فقد انتهت او كادت منذ ان اعلنت نخوة رفضه واجهزت عليه نهائيا الان، حتى انه عندما طلب (زنادا) (1) ليشعل غليونه، رماه اليه من طلبه منه بدلا من ان يقدمه اليه بيده مباشرة.. مع انه كان قبل هذا لو طلب (زنادا) لتدافع كثر من الذين قربه كل يسعى، وفي ظنه انه شرف له، ان يقدح له (الزناد) على شفرة حصى، بعد ان يضعوا فوقها جزءا من خرقة جرت تسويتها وهي مبتلة وممزوجة برماد، بعد ان تتيبس، (اما الان فصاروا يرمون لك الزناد يا حسقيل)، وعندما يستعيد افعاله مع نفسه، يقول:
    ان كل هذا هين، الاخطر لو سيطروا على اموالي.. انهم ربما يسيطرون حتى على البرج.
    ثم يعود ليقول:
    ولكن البرج ليس في حماهم وانما في حمى حليفي شيخ الروم وهو والبرج الذي يملكه قريبان من بعضهما، لذلك سيحميه ويحمي الذهب والفضة التي فيه ودفاتر الحسابات التي تسجل ديوني عليهم وعلى غيرهم.. مثلما يحمي برجه.
    تنفرج اسارير حسقيل قليلا، لكنه سرعان ما يقول..
    ولكنهم قد يقتلونني لو سردت نخوة كل ما تعرفه عني.. ثم ينثني بقوله، بما يعني ان نخوة لن تقول ما يخزيها، لذلك تحدثت عن خطبتي لأمها، ولم تتحدث عما هو ابعد..
    تعود نخوة، بعد ان تكفكف دموعها لتقول:
    ومع ان من المعيب ان تتزوج امرأة كانت يوما ما زوجة شيخ القبيلة، الا من قروم القوم، ان كانت بحاجة الى رعاية والا اعتبرت حالتها شاذة، لو فعلت، فقد وافقت حسقيل في رغبته..
    بدا حسقيل كأنه استعاد معنوياته ليقول:
    هذه اهانة لي لا اقبلها.. متخدا من ذلك غطاء لينهض، وفي ظنه ان بامكانه ان يترك الجلسة، لكن باشارة من سالم، بعد ان ينقر ابوه على (طاسة) امامه بان اسكتوا واجلسوا، يتولى اثنان من الشباب الذين يقفون خلفه اجلاسه في مكانه، بعد ان يضعا ايديهما على كتفيه ويضغطانها للاسفل..
    عادت لتقول:
    ومع ان امي، رحمها الله، وافقت على الزواج من حسقيل، لكن حسقيل تصور ان امي كتمت عليَّ الموضوع، وجاءني ليعلن رغبته في خطبتي، وتمالكت اعصابي، ولم انهره، خشية ان يدبر لي ولوالدتي امرا اذا رفضته، ذلك انه سيتصور عندها ان امره قد انكشف، لكنني لم اقطع له املا بشيء وماطلته لأديم صلتي بنساء القبيلة واحرضهن على التمرد، في الوقت الذي كان سالم يفعل الشيء نفسه مع الرجال، لكنني قبلت الخطوبة عندما اشتد ساعد تنظيمنا وعرضها عليَّ سالم، واتفقنا على ان نكتمها، بعد ان نشهد الله على ذلك، وكانت شاهدتنا، بعد الله، اخته سمية، ثم ابوه وامه بعدها، وعلى هذا عندما جاء حسقيل طالبا ان ادبك معه.. رفضت، ليس لأنني احب سالم او لأنني اتفقت معه على الزواج وفقا لقانون الله فحسب وانما لاجنبكم الحرج، اخواني واخواتي واعمامي، ولكي اجنب علاقتي وعملي بين النساء ما يشوش عليهما، بل انني قدرت انني، لو وافقت على طلبه ذاك، سأخزيكم واخزي المبادئ التي انادي بها بين صفوف نسائكم، ولو تمت موافقتي على مراقصته، لا سمح الله، لقال كثير وربما كل النساء ان حسقيل قانون الله في الارض، هو وحليفه شيخ الروم، حيث لا يعود باستطاعة نساء العرب، وربما رجالها ان يصمدوا بوجهيهما..
    وراحت نخوة تحكي مقتل امها، وقالت:
    يا عمر.. يا سمعان.. يا حازم.. احضروا الفأس التي وضعتموها في كيس كمستمسك جرمي، واشهدوا على ما رأيتموه وحكيتموه لي..
    قام الثلاثة وحكوا ما رأوه للحضور وجاءوا بالفأس وراحوا يعرضونها على الجالسين والواقفين، كأداة جرمية وعندما جاءوا بها امام حسقيل كان مطرقا برأسه، كأنه لم يعد يشعر بما حوله، لشدة ما لفه من الهم والغم والخوف، حتى انه (فزّ) عندما نبهه احدهم، وكاد يصرخ ويقف كأنه يجفل من حلم مزعج.. وعندما رأى الفأس امامه قال، وهو على تلك الحال:
    يا أخي (فززتني) جفلتني.. نعرفها.. نعرفها..
    ولكنه ادرك انه اخطأ، فقال:
    من لا يعرف فأس أم نخوة، رحمها الله!؟ كلنا نعرفها.
    كاد جميع من سمعوه ان يضحكوا، في الوقت الذي استدار الموجودون، كل الى من يجلس او يقف الى جانبه يمينا ويسارا، هامسين أو معلقين بما يخزي حسقيل، ويضع علامة استفهام عليه...
    قالت نخوة:
    اعلن امام بنات وابناء قومي قصتي وقصة امي مع الخائن المجرم حسقيل، وتحالفه الشرير مع كلب الروم وقبيلته، وانشد نخوتكم بي، وبالمعاني التي تحملونها عن انفسكم وايمانكم وعن تاريخكم، لتنصفوني، وتأخذوا لي حقي.. ان وقفة حق ثابتة معززة بالايمان تجعل الاقوام الاخرى تحترمكم وتحترم حقوقكم.. لذلك ادعوكم لأن تقفوها..
    وجلست.. عندها دوت عاصفة من التصفيق، بعدها القى سالم القصيدة التالية لاثارة حماس ابناء قبيلته:


    مشينا على هام الزمان المطاول
    ندوخه والمجد ليس بزائل

    حفرنا بأعلى الراسيات مناهلا
    ففاضت زلالا من مياه الجداول
    لنقري اضيافا اذا هي زمجرت
    ونحمي حماها من عدو وجاهل
    فنحن اباة الضيم مذ هي اشرقت
    وان اثقلت فيها الغيوم بهاطل
    ونحن ولدنا للمعالي وشعبنا
    شقيقين يخشى جمعنا كل سافل
    كما زحل يزجي الثريا منورا
    كذلك يبقى مجدنا غير افل
    ترانا عيون الود بيضا فعالنا
    وسودا بعين الارعن المتطاول
    لنا الحكمة الغراء من عهد ادم
    نصون لنا حقابها غير باطل
    كذاك اراد الله سبحانه لنا
    وقد خصنا فيها بقدرة فاعل


    نهض حسقيل من مكانه وقال:
    ان الاتهامات التي قالتها نخوة خطيرة، خاصة موضوع مقتل امها، رحمها الله، ولأنني لم أكن مسبوقا بهذا، ارجو من ابي سالم ان يمهلني لأحضر دفاعي يوم غد، على ان نجتمع في التوقيت نفسه، وفي المكان نفسه، هنا في بيت ابي سالم، وان نكون بلا سلاح.. جميعا بمن في ذلك انا.. وها انا مثلما ترون، لا احمل اي سلاح الان.. وفتح عباءته وكشف تحتها من ثياب ليثبت انه لا يخفي سلاحا تحتها..
    قال ابو سالم، بعد ان استمزج رأي الجالسين عن يمينه وشماله من وجوه القوم، بمن في ذلك سالم:
    ان ما تطلبه، يا حسقيل، موافق عليه، وسنلتقي على بركة الله يوم غد، في التوقيت نفسه، على ان لا يحمل اي منا سلاحا، وانما يأتي الجميع ويجلسون في هذا المكان، من غير سلاح، لنصدر قرار القبيلة، بعد ان نسمع دفاع حسقيل، ان شاء الله.
    رفع سالم يده مستأذنا والده، وقام ليقول:
    ان ما سمعناه اليوم خطير كله، ومن أجل فتح الفرص وتأثير اطراف القضية بصورة متساوية، اقترح ان نجمد صفة المشيخة التي يمارس حسقيل من خلالها أوامره وتوجيهاته على من يطيعونه، ليكون في مركز مساو لأي منا من الناحية القضائية..
    صفق الجميع علامة تأييد لمقترح سالم، وعبثا حاول حسقيل ان يعترض قائلا:
    اخترت من الشيوخ، وليس من العامة، ولذلك اتمسك بحقي..
    عاد سالم ليقول:
    ان الجميع حاضرون الان، سواء من اطلقت عليهم وصف العامة أو الشيوخ، وانهم ايدوا مقترحي، ومع ذلك، فإن الاصول تقتضي ان نسمع رأي رئيس الجلسة..
    قال ابو سالم:
    مع انني لاحظت حماسكم وانتم تصفقون، اخواني واخواتي قال ذلك وهو يخاطب الجميع فانني اعرض عليكم المقترح، وادعو من يوافق عليه ان يرفع يده لنعرف عدد الموافقين وعدد غير الموافقين علنا، على ان يكون من يقوم بذلك هم البالغون فقط، لذلك ارجو ان ينعزل غير البالغين عن الحضور، في ركن من هذا الفضاء واشار بيده الى المكان وبعد ان تم ما اراده ابو سالم، رفع حسقيل يده طالبا الكلام، وقال مخاطبا الجميع:
    انكم، اخواتي واخواني وهنا قدم النساء، وفي ظنه انه يخدعهن، باعتباره قدم صفة مخاطبتهن على الرجال انكم الان تقررون ما هو خطير، سواء على حاضركم أو مستقبلكم، أو على مستوى قومكم، أو المستوى الأبعد، خاصة علاقتنا التي رتبناها مع شيخ الروم وقبيلته، لذلك اقترح أن أجلس أنا وأبو سالم وحدنا في بيت، ونحضر من يسجل رأي من يدخل علينا من وجوه وشيوخ القوم من الرجال فقط..


    هامش 1 الزناد، المروة، نوع من الحصى يضرب بعضه ببعض فيولد شرارة.. كان الأقدمون يوقدون النار بها، أو يشعلون سكائرهم بها.

    تعليق

    • سلطااااان_التحول
      عـضـو
      • Oct 2005
      • 33

      #12
      رد: اخرج منها يا ملعون

      أخرج منها يا ملعون

      لو ذاق أي عربي طعاما في بيت اخر فإنه لن يخونه أو يغشه

      الجزء (12)


      في الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد الشيخ ابراهيم واحفاده الثلاثة حسقيل ويوسف ومحمود حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة. ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة عن طريق «مشروعات» تربط العشيرة بالاجنبي، وتصل ممارسات حسقيل الى حد التخطيط لقتل الشيخة، وفي المقابل فكرت الشيخة في قتل حسقيل للتخلص من شروره. ويظهر عنصر جديد في الاحداث هو تحريض نخوة بنات القبيلة ضد حسقيل. وبعد وفاة والدة نخوة، تعد الابنة خطة تراوغ فيها حسقيل للتخلص منه.

      قال حسقيل ذلك، لكن خطته الحقيقية غلبت رأيه في المرأة بتصويره على غير حقيقته، عندما وضع النساء قبل الرجال وهو يقول (اخواتي واخواني)، فهنا اقترح ان يقتصر التصويت بصورة شبه سرية على الرجال فقط من وجوه وشيوخ القوم..
      نقر أبو سالم على الصحن الموضوع أمامه لينبه الجميع لكي ينصتوا، وقال موجهاً الكلام للجميع، بعد أن استمع إلى حسقيل:
      سنعرض المقترحين على الحاضرين، حسب تقاليدنا، وسنبدأ وفق الأسبقية بالمقترح الأول، الذي يقضي، بناء على ما شرحه سالم بأن يعرض المقترح على كل بالغ في هذا الجمع، رجالا ونساء، وأن يجري التصويت برفع الأيدي، وعندما يحوز على أغلبية، يكون فائزاً، والمقترح يقضي بتجميد صفة الشيخ الممنوحة لحسقيل حتى ننتهي من محاكمة حسقيل يوم غد، إن شاء الله، وفق ما أرادت نخوة، وفي ضوء القرار الذي نتخذه تجري مراجعة كل ما يتصل بالموضوع.

      عندما أكمل أبو سالم كلامه، وهمَّ ليعرض مقترح سالم للتصويت رفع حسقيل يده مرة أخرى، وأذن له أبو سالم بالكلام، قال حسقيل:

      ولماذا، يا أبا سالم، نتشبث بتقاليد عفا عليها الدهر، ولا ننشئ تقاليد جديدة؟.

      استأذن سالم أباه والحضور ليتكلم، فقال، موجهاً كلامه لحسقيل ومعه من كان في المكان:
      ان كل شيء موروث جزء من تاريخنا، ويعتمد على حيويته أو جموده في حالة ما إذا قررنا أن نقبل استمراره، أو أن نمر به مروراً كحالة مجردة، أو مجرد نشاط حصل في تاريخنا فحسب.. ان مقترحك، يا حسقيل، مقترح متخلف، ذلك لأنه يختار عددا من الرجال على أساس عناوينهم، ويستثني الاخرين من الناس.. وفي الوقت الذي يؤخذ عدد محدد من الناس قد يثير الجدل حول مشروعية قاعدته ورصانتها، فإنه يستثني من المشاركة كل الرجال البالغين الاخرين، ومع أنك خاطبت المرأة قبل الرجل، وأنت تهم ان تقدم اقتراحك، فقد استثنيت كل النساء من المشاركة في أمر يتعلق بالحاضر والمستقبل، ويتعلق بمصير الناس وحماها ومصالحها التاريخية، وليس بالسلطة وشكلها ومدى استحقاق من يحمل عناوينها فحسب، ثم اننا عندما نقول بأهمية احترام الأسبقية في عرض المقترحات على أساس تسلسلها الزمني، فلأنه الأكثر عدالة بين ما هو معروف من أساليب أخرى، ومن بينها ما يمكن أن يفهم، من اعتراضك على هذه التقاليد، كأنك تريد أن تقول إن المقترح يطرح للتصويت على أساس عنوان من يقترحه، ويتأخر مقترح من يكون مواطناً فحسب في القبيلة، ويتقدم مقترح من اسمه حسقيل، وان كان على هامش القبيلة، أو لا يمت إليها بصلة، في المعاني ولا في الأصل، أو يترك لمن يدير الجلسة أن يتصرف على هواه، فيقدم هذا ويؤخر ذاك من المقترحات، وعندما لا تكون هناك ضوابط متفق عليها، تسود الفوضى والخلافات، ليس في اطلاق الأحكام فحسب، إنما في تطبيقها ايضا، وفي وصف المواقف، ومن يلتزم بالجماعة، أو يخرج عليها، لذلك يستمر أي تقليد لا تلغيه روح الجماعة، ولا تقتضي تغييره الضرورات الظرفية الملجئة، أو تستوجبه قوانين التطور المولود من رحم وصلب قومنا، وان المحافظة عليه، والالتزام به ضروريان، لذلك نلتزم بالتقليد الموروث الذي أشار إليه والدي، واترك لأخواني وأعمامي الحضور أن يبدوا اراءهم، إذا كان لأحد منهم رأي اخر.

      ومع إكمال سالم الجملة الأخيرة، دوى تصفيق من الحضور، بما يعني أنهم متمسكون بما ورثوه من تقاليد، كانت قد أعزت قومهم عندما كانوا متمسكين بها، وأضعفهم الهوى والتخلي عنها كلياً، أو جزئياً، إلى الحد الذي جاء الضعف والتخلي بحسقيل شيخاً عليهم، بدلا من أن يكون شيخهم منهم عقلاً وضميراً، نسباً وموقفاً، كتاباً وسيفاً وراية..

      عرض أبو سالم مقترح سالم، وفاز المقترح بإجماع الحضور، رجالاً ونساء، عدا عدد قليل راهم أبو سالم يجلسون قبالة حسقيل، ويرفعون أيديهم بصورة غير كاملة، ثم يخفضونها حيثما نظر إليهم..

      وعندما طلب أبو سالم من سالم أن يقول لهم: إذا كنتم غير مقتنعين، اخفضوا أيديكم، ولن نزعل لهذا..
      قالوا له:
      لا نحن مقتنعون بمقترحك..
      ومن تلك اللحظة رفعوا أيديهم بثبات، فكان القرار بالإجماع.


      ****

      خرج حسقيل بأمل أن يحضر المحاكمة في المكان نفسه، في اليوم التالي، فيما راح الجميع يدبك ويغني ويرقص، او يهتف، ويجول، كل حسب اختياره، وشعوره في تلك اللحظة، والأسلوب الذي يقدر انه متمكن فيه أكثر من غيره ليعبر عن نفسه.


      انسل سالم من بين الجمع، وأشار إلى نخوة وعدد من الرجال: أن اتبعوني، وبعد أن تبعوه الى حيث بيت ابي سالم، الذي كان اقرب بيت الى تجمعهم، حيث تناولوا طعام الغداء، بعد ان استمعوا الى حسقيل وسالم ونخوة، وعندما جلسوا في مكان واحد، قال سالم:
      ان طلب حسقيل تأجيل البت في مصيره في ضوء ما اقترف من جرائم، لم يكن وفق ما اشار له في الجلسة.. ان هزيمة حسقيل امام محاكمتنا له بحضور كل الناس من قومنا، وافتضاح امره وجرائمه تجعلها ضرورية له قبل ان يعرض مصيره وحياته علينا، يوم غد، وهو امر لا يتحمله، لا هو ولا شيخ الروم من بعده، لذلك اردت ان اقول لكم هواجسي واستنتاجي، لنعد انفسنا على قاعدة صحيحة، وقد نصل بالحوار فيما بيننا الان الى افضل الوسائل لمعالجة اقرب الاستنتاجات مما نتوقعه.

      سكت سالم.. وتكلمت نخوة قائلة:
      ان ما اشار اليه سالم هو الاستنتاج الأساس، بل قاعدة ما يمكن ان نتصور من استنتاجات فرعية منه، واي تصور غير هذا عن نوايا حسقيل، ومن خلفه كلب الروم، يعد تصورا قاصرا من شأنه ان يوقعنا في الوهم، وقد يسبب لنا خسارة، لا سمح الله.. ان اعداءنا لا ذمة لهم ولا عهد.. كما ان هاجس اي منهم لا يكون صادقا امينا، بل غادرا اشرا، وان حسقيل وجماعة الروم معروفون بنكثهم العهود، وعلى هذا ينبغي ان نعد انفسنا ووسائلنا وخططنا.

      وتكلم بعدهما من تكلم، ولم يخرجوا عن دائرة الاستنتاج الرئيس، سوى انهم كانوا يقترحون اساليب وخططا لمواجهة تكمل ما قاله سالم ونخوة.. ومن بين ذلك ان احدهم قال:
      اقترح ان نراقبه، رغم ان هذا ليس متيسرا من غير تضحية، ذلك لأن حراس وخدم حسقيل، الا واحدا منهم، هم ممن جاء بهم الروم، بعد ان فقد الثقة بمن حوله..
      تساءل اخر: ما هي الصعوبة في ان نراقبه؟
      أجابه من قال بالصعوبة:
      ان ما اقصده ان احد رجالنا الموجودين معه لا يستطيع ان يغادر المكان الا لو هرب على فرسه.. وان وضعنا عيونا جددا عليه الان سنكون قد اتخذنا قرارنا هذا بصورة مستعجلة وربما مرتبكة، فإنه عندما يكتشفهم سيلقي القبض عليهم ويعرضهم بعد الضغط الى السؤال والجواب، وعندما يعرف اننا نحن الذين امرنا بمراقبته، ستكون له حجة علينا، ومن بين ذلك قد يمتنع عن الحضور للمحاكمة امام القبيلة.

      وبعد مداولة طويلة، اكتفوا بوضع عين عليه في بيت هو الاقرب لبيت حسقيل ممن يطمئنون الى اهله، لينبههم بهروب حسقيل خارج المنطقة ان هو فعل ذلك، لكن حسقيل لم يخرج الا في اللحظة الاخيرة، التي سبقت الزمن المحدد، الذي اتفقوا عليه، ليحضروا في اليوم التالي، بقصد اللقاء في بيت ابي سالم.

      تكلم الثمانية المجتمعون في بيت ابي سالم، ومنهم سالم ونخوة، والستة الاضافيون، وهم خمسة رجال وامرأة.

      قال سالم:
      لتكن خطتنا على اساس ان نموه عليه، ونمكر بخطط حسقيل ونواياه، مثلما نتصور انه يعد العدة ليمكر بنا.. وعلى هذا، فإن خمسين من رجالنا ينبغي ان لا يحضروا مكان الاجتماع، وان يكونوا مع خيولهم خلف بيتنا هذا، في الوادي الذي يبعد عن مكاننا هذا ما بين مائة وخمسين الى مائتي متر، اما سلاحنا فهو في بيتنا هذا في مقطع العيال.. واذا ما داهمونا بغدر، سوف يسبق الخيالة المشاة الينا، واعتقد ان حسقيل سيتصور اننا بلا سلاح، وسيفاجئهم سلاحنا، وسيكون هو وحليفه في وضع صعب، ربما لم يتمنياه لو انطلق فرساننا الخمسون من مكانهم، مقسمين على مجموعتين.. وظهروا كلهم بعد ان يلتفوا من الجوانب خلف العدو، واعملوا سيوفهم في رقاب العدو، في الوقت الذي اركب انا ونخوة فرسينا، حيث ستكون لها فرس مجنبة قرب فرسي، وسوف اوعز الى حازم وعمر وسمعان بأن يحضروا خيولهم، لتكون قرب جارنا، وتربط في مقدم البيت، لتكون اقرب الى مكاننا، وسوف امرهم بأن يلازم اثنان منهم نخوة على جناحي حركتها، والثالث الى الامام قليلا..

      علقت نخوة:
      ألا تثق بقدراتي، يا سالم؟
      بلى، ولكن التحسب واجب.
      ألا يكفي حازم لحمايتي، هو وشخص اخر، وان يكون الثالث معك؟
      اطمئني، سأكون بين جمعكم، حتى عندما اتقدم صفوفكم، وفق ضرورات الحرب، اذا تطلب الامر ذلك، لذلك ستكونون جميعا بحمايتي بعد الاتكال على الله.
      تبسم الجميع..
      قالت نخوة:
      ربنا، منك النصر، وبك نستعين..
      ردد الجميع:
      امين..

      ونهضوا بعد ذلك، ليقوم كل بواجبه قبل ان يحل موعد اليوم التالي.


      ****

      في الوقت الذي كان سالم ونخوة يرسمان، كل في ميدانه، سيناريوهات لما ينبغي او يجب، في ضوء ما استنتجاه عن نوايا حسقيل وخططه.. اتصل حسقيل فور وصوله الى بيته بشيخ الروم.. بعد ان كلف من يقوم بذلك ليشرح كل ما سمعه عن الاتهام الذي وجه اليه هذا اليوم، والى تجميد صفة المشيخة فيه، والى دعوته ظهر اليوم التالي ليحضر اجتماع القبيلة، الذي يتقرر فيه مصيره النهائي كشيخ للقبيلة، وربما حتى حياته، قال، وأكد القول على من بعثه الى شيخ الروم:

      قل لشيخ الروم انني سأنتظره هو وفرسانه عند القنطرة التي كنا نخيم حولها في خريف العام الماضي، عندما كنا في (القنيص، القنص،) وهناك سأبين لهم كل شيء إضافي عن الخطة، واسمع ايضا اي تعديلات اضافية يريد الشيخ ادخالها عليها.. وكرر على شيخنا الكبير ان التوقيت قبل الظهر بساعة او ساعة ونصف الساعة.. وقل له ان تأخرهم قد يفشل خطتنا، لأن سالم وجماعته ومعهم قبيلتهم، عندما يعرفون انني لم احضر في الموعد المقرر، سوف تداخل عقولهم هواجس عن سبب تأخري، وقد يحتاطون، بينما لو داهمناهم قبل ذلك، سنغلبهم لأنهم غير مسلحين..

      انطلق من كلفه حسقيل على فرسه باتجاه شيخ الروم، وبعد ان تسلل في الوديان القريبة من بيت حسقيل، لئلا يراه احد ويكشف اتجاهه، وصل الى شيخ الروم وابلغه الرسالة..

      قال شيخ الروم للرسول:
      ابلغ حسقيل بأن يطمئن فإن ما لدينا من عدة حرب تكفي لما هو اكثر عددا من قبيلة سالم، وان رجالنا كثر، مع اننا لم نجرب من قبل الاصطدام بهم، ولا نعرف تفاصيل كثيرة عنهم، وبخاصة معنوياتهم، لذلك قد يجد رجالنا في بادئ الامر صعوبة في ان نجعلهم يقاتلون كما يجب، لكن التفوق في السلاح والخيل امام رجال غير مسلحين يجعل القتال معهم محض نزهة.

      ثم ان حسقيل يقول ان عددا كبيرا من شيوخ وشباب القبيلة سينسلخون عن سالم وجماعته، عندما يبدأ القتال، وهذا جيد، ذلك لأنهم ما ان يروا خيولنا تجمح باتجاههم، حتى ينقسموا على بعضهم، وعندما ينقسمون ويبدأون ببعضهم، سامر رجالي بأن يكفوا عن مهاجمتهم، لكي لا نوحدهم اذا جعلناهم هدفا واحدا، وحيثما مالت منهم كفة على كفة، سندعم الكفة التي تضعف، بحيث نعيد التوازن بين الكفتين، بما يجعل القتال ومعه الخسائر يستمران ولا يتوقفان.. واذا ما حاولوا الصلح فيما بينهم بعد ان يتعبوا، سوف ندس بينهم، ونخرب اي صفاء، ليعاودوا التناحر والانقسام، فيضعفون، واذا ما التجأوا الينا بعد ذلك لنحكم بينهم، سوف نفرض عليهم شروطنا، حتى يرضخوا، ولا يعودوا يتمردون على سلطتنا، سلطة تحالفنا العتيد.. وقل لحسقيل اننا لن نتخلى عنه.. الا اذا هددت مصالحنا، وبما ان مصالحنا مضمونة ومؤمنة بدوره وجلوسه فوق رؤوس المضطرة كشيخ عليهم.. فلن نتخلى عنه.. وسأكون مع فرساني.. وسأحشد كل ما استطيع حشده، وهو كثير، قرب القنطرة..

      يركب المبعوث فرسه، ويهم بأن يلكزها ليغير عائداً من حيث أتى.. لكن شيخ الروم يستوقفه.

      قلت إنهم سيكونون غير مسلحين.. أليس كذلك؟
      نعم يا شيخ، حتى ان حسقيل اشترط أن لا يحضر منهم أحد حتى لو كان يحمل عصا غليظة، وليس سلاحاً..
      هذا جيد، أجاب شيخ الروم.. سأكون عنده قبل ظهر يوم غد، وفق ما أراد.. ثم قال للمبعوث:
      ارشد.. أي اذهب راشدا..

      قال شيخ الروم ذلك، واستدار بوجهه ناحية البرج، الذي بناه الى جانب برج حسقيل، وكلاهما في حماه، لكن على مقربة من الخط المتعارف عليه بين القبيلتين.


      ****

      التقى شيخ الروم بشيوخ قبيلته وفرسانه، وشرح لهم الخطة.. وناموا ليلتهم.. وما ان صارت الشمس في صباح يومهم ذاك (بارتفاع قامة) عن الأفق، كما يقول أهل الريف والبادية، حتى سار بفرسانه، منطلقا ناحية القنطرة بعد ان حسب مسافة الطريق، يحف به الفرسان المدججون بأسلحتهم ودروعهم، وهم يضعون على قلنسوات المعروفين منهم ريش نعام أو ريش (فزن)، أو قرون اكباش كأنهم في غرورهم وحبورهم ومظهرهم إنما يقدمون على زفاف او استعراض في مناسبته..

      وما أن اقتربوا من القنطرة، حتى لاح لهم (خيّال) فارس وحيد فوق فرسه، مما اثار استغراب شيخ الروم، خاصة أنه رأى خيالاً واحداً في هذا المكان، في الوقت الذي يفترض ان يكون حسقيل فيه.. وعندما ابدى استغرابه لمن حوله.. اجابهم الأكبر مكانة ومرتبة بين من كان مع الشيخ الكبير، شيخ الروم:

      قد يكون أحد فرسان حسقيل وسبقهم إلى هنا، ليكون في استقبالنا قبل حضور حشد حسقيل الكبير.

      عاد الشيخ ليقول:
      لكن التوقيت حكم، فمتى يأتي؟!.. ليذهب اثنان منكم ناحيته وليتأكدا من هويته، لكن احذرا أن تتركا له فرصة الهرب، إذا لم يكن من جماعة حسقيل، خشية أن يبلغ جماعة القبيلة المضطرة بأي شيء، بعد ان رأى موكبنا.. ونحن قريبون منازلهم الان..
      انطلق الفارسان باتجاه الفارس الذي كان متوقفا وهو يمتطي جواده عند القنطرة، بينما توقف رتل الشيخ الرومي بانتظار ما سيكتشفانه عن ذاك الخيال..

      وصل الفارسان، وتعرفا على الفارس.. انه حسقيل الذي جاء معهما (هذبا) خببا باتجاه رتل الروم.. وما ان وصل حتى قفز من على ظهر فرسه، واتجه ناحية شيخ الروم، فيما بقي شيخ الروم في بادئ الأمر على ظهر حصانه، مما اضطر حسقيل أن يمد يده لشيخ الروم ليصافحه وهو على ظهر حصانه.

      سأله شيخ الروم قائلا:
      أراك وحدك، يا شيخ.. ترى، ألم يبق معك أحد؟..
      عرف حسقيل أسباب التغيّر الذي طرأ على شيخ الروم (ذلك ان من يكون وحده، لا يحمل إلا وزن جسمه حتى في نظر اصدقائه).. هكذا قال حسقيل في نفسه.. وعلى أساس ما فهم اجاب حسقيل شيخ الروم:

      ان فرساني كثر، يا شيخنا، لكنني قدرت أننا لن نحتاجهم، ذلك لأننا سنواجه قوماً بلا سلاح، وخطتي مثلما شرحت لك تقوم على المخادعة، واستصحاب فرساني معي إلى هنا سيكشف خطتي، ويجعل القوم يتهيأون، لذلك فضلت استبقاءهم هناك، على أن يلحقوا بنا، عندما يروننا نهجم على تجمع سالم في قبيلته، وربما هاجموهم قبل أن نصل لو رأوا (عجاج) الخيل.. أما لو سألتني: هل تريد أن يهجموا معنا؟ لقلت: كلا، ومع ذلك عملت هذا التدبير خشية ان تلومني لو حرمتهم من المشاركة معنا.. وإلا كنت افضل ان لا يحظى بشرف إبادة سالم وجماعته إلا أنتم وأنا معكم.. وربما خادمي شميل الذي تركته معهم هناك..

      ترجل شيخ الروم من على ظهر حصانه، بعد ان سلم رسنه إلى أقرب مرافق له.. وتكلم وهو منفرج الأسارير:

      ظننتك وحدك من غير تدبير، لذلك ظننت انهم ربما جردوك من الرجال فأصابني الغم.. لأن الشيخ من غير رجال لا يساوي وزن عقاله، حتى لو كان عقاله من ذهب.. قال ذلك وهو يشير إلى عقال حسقيل الذي كانت خيوطه من ذهب، كأنه ذاهب هو الاخر إلى حفلة..

      قال حسقيل، بعد ان نفث حسرة من صدره:
      نعم، يا شيخ، كلامك ذهب.. سترى ان فرساني (يسدون عين الشمس) لو اصطفوا في مكان بعينه.. لكنني استبقيتهم هناك وفق ما أشرت واسترسل في الكذب حتى انني نسيت ان اقول لمبعثوي إليك اننا لا نحتاج إلى فرسانك كلهم، إنما لجزء صغير منهم، أو بالعدد الذي كنا نستصحبه معنا في (القنيص) القنص.. وطالما احضرتهم جميعاً، فعلى بركة الله، ولو ان حصصهم من الغنائم ستقل بسبب العدد الكبير.. لكن حصتي وحصتك لن تتأثرا.. حيث لنا النصف مما يغنمون..

      قال ذلك وضحك هو وشيخ الروم.. ثم رفع شيخ الروم يده ليصافح حسقيل.. وضربا يدا بيد بقوة، وكانت يداهما مرتفعتين بصورة قائمة وليستا ممدودتين إلى بعضهما، كما الطريقة العربية.. فعلا ذلك جرياً على عادة الروم، تعبيرا عن مستوى علاقتهما وحبورهما..


      ****

      جلس حسقيل وشيخ الروم القرفصاء، وأعاد حسقيل شرح خطته على الارض، بعد ان استخدم عصا بيده، يخط بها على الأرض، وكان يستعين بشفرة حصى من حين لحين، ليحفر بها خطوطاً على الأرض بما يشبه الخريطة الإيضاحية..

      طلب حسقيل وشيخ الروم احضار عدد اضافي يمثلون عينات من قوم الروم الذين يتولون القيادة..

      نهضا واتجها كل إلى فرسه أو حصانه، وقبل ان يركبا، لاحظ حسقيل ان عددا من الصقور كان يطارد رف طيور من الحبر، فنبه شيخ الروم الى ذلك المنظر، وقال شيخ الروم:

      انه لأمر عجيب حقا ان نرى في شهر نيسان هذا العدد الكبير من طير الحبر، يطارده هذا العدد من الصقور.. بينما اعتدنا ان نرى هذا في الخريف فحسب، أو حتى في أوائل الشتاء..

      أجابه الأعرابي الذي اتخذه شيخ الروم دليلاً في معرفة الأرض والقبائل والبطون:
      اننا في شهر نيسان، يا شيخنا، والعرب يتفاءلون بشهر نيسان، مثلما يتفاءلون بشهر أيلول، ونيسان مثل أيلول يحمل مفاجات سارة، لذلك فإن منظر الصقور هذا، وهي تطارد رف طيور الحبر، علامة فأل خير قد ينصرنا الله به على عدونا..

      ورغم ان أحد حكماء الروم نبّه شيخ الروم إلى التورية في كلام الأعرابي بقوله: (فأل خير قد ينصرنا الله به على عدونا)، بينما كان يفترض أن يقول تعبيراً عن الاحترام والتبجيل انه (فأل خير قد ينصرك الله بعده على عدوك).. فقد أجاب شيخ الروم بنزق:

      بل سننتصر عليهم وعلى قومهم كلهم، من غير أن يذكر اسم الله، أو يتّكل عليه..

      بقي شيخ الروم ممتطياً ظهر حصانه، يتوسط مقدمة الفرسان الذين كانوا يحيطون به من اليمين واليسار، وكان حسقيل اقربهم إليه من جهة اليمين، يتوزع حوله وجوه القوم وشيوخ القبيلة، وتتأخر خلفهم، على جانبي حصانه، كوكبة من الذين يتولون حمايته اثناء القتال، وغالبا ما كان دوره في القتال رمزيا، لأن مرافقيه ورجال حمايته ينوبون عنه في ذلك..


      ****

      بعد ان أنجزت نخوة واجباتها مع نساء القبيلة، وقدرت ان سالماً وأباه أنجزا واجباتهما، عادت إلى بيت أبي سالم بعد المغرب بقليل.. فقدموا لها ولهم طعام العشاء المؤلف ذلك اليوم من خروف صغير، أعدته أم سالم، وجعلته هبيطاً ثردت خبزاً فيه..

      قالت نخوة:
      هلاّ أعفيتموني من العشاء، فنفسي لا تشتهي الطعام..

      أجابتها أم سالم:
      كيف يا عمة؟ أيصح هذا.. مضى زمن ونحن نأكل من خيرك.. ولا تريدين الان أن (تمالحينا) في بيتنا؟ ما الذي تنوينه مما لا نعرف؟!!..

      ضحكت أم سالم وضحك الجميع.. وأشارت أم سالم إلى أهمية الملح ودوره شبه المقدس عند العرب، ذلك لأن الملح يوضع في الطعام، ومنه الخبز، ورغم ان كثيره ضار للصحة، فإن شيئاً منه ضروري للإنسان، بل حتى للحيوان، إلى الحد الذي قد لا يعيش الإنسان ولا الحيوان من غير ان يتناولاه في أي مما يأكلان أو يشربان، ولأن الغذاء، مثل الماء، مقدس عند العرب، لتوقف الحياة عليه، فإنه يتخذ بما يشبه الرمز المقدس.. وتقديرا لهذا وما يرتبط بمعانيه، فلو ذاق أي عربي طعاماً في بيت أحد، فإنه لن يخونه أو يغشه أو يسرقه، وعلى ذلك قصص كثيرة في الموروث الشعبي بعضها يقول:

      ان احد الأعراب حمل عصاه، وارتحل يبحث عمن يغزوهم، ليسرقهم خلسة، لا علنا.. وهذا النوع من السرقة يسمى (الحنشل) وقد سطا على بيت لا على التعيين في الليل.. وعندما كان يبحث عن ضالته في الظلام، وجد جرة فتحتها واسعة، وعندما تحسس شيئاً ما في يده، لم يستطع ان يتعرف عليه إلا بعد أن تذوقه، ووجده ملحا.. فترك كل شيء، ولم يسرق ذاك البيت أو تلك القبيلة، علما ان عياله كانوا بحاجة إلى ما ينقذهم من الجوع والهلاك.. وقد سار مسافة ثلاثة أيام عن نقطة انطلاقه، ومع ذلك أبى أن يسرقهم وعاد إلى دياره، ومن هناك حمل عصاه واتجه ناحية تلك القبيلة مرة اخرى.. كأنه بعودته الى حيث انطلق.. ثم معاودته الكرة كفّر عن استحقاق ما تذوقه من ملح.. لو أراد أن يسرق من بيت اخر في القبيلة..

      قالت نخوة:
      كل ما أنويه وتنوونه خير، يا عمة، بعد الاتكال على الله..
      تدخل سالم ليقول:
      أتعرفون لماذا نفس نخوة (مسدودة) عن الأكل هذا اليوم، يا أماه؟..
      قالت أمه:
      لماذا؟! قال، بعد أن لاحظ أن نخوة تتبسم كأنها حزرت أنه ينوي أن يمزح:
      ان نخوة تخاف أن يصيبني مكروه غدا..
      قالت أم سالم:
      أبعد الله الشر، (سور سليمان من حولك) إن شاء الله..
      قال سالم:
      اننا زرع الله، يا أماه.. وهو سبحانه خالقنا، وعليه نتوكل، وبه نستعين.. ان تعليقي هو انها طيلة هذه السنين لم تقلق عليّ قلقاً خاصاً، لكن عندما سميت باسمها، بعد أن خطبتها، صارت معدتها (تنسد) ولا تشتهي الطعام عندما تنتظر منازلة..
      قالت نخوة مازحة وهي تتبسم:
      وانت ايضا، لم تقلق عليّ مثلما تقلق الان.. ألم تعيّن بالاسم ثلاثة يقومون بحراستي؟ في حين انك، رغم معرفتك في السابق انني انشط بين النساء ضد حسقيل، وانني معرضة لاحتمال غدره، لم تكن تقلق عليّ كما الان..

      ضحكوا جميعاً..
      قال أبو سالم:
      ما يريده الله يفعله، إن خيراً فخير، وإلا فنحن له مسلمون.. ولا راد لما يريده، سبحانه..
      عادت أم سالم لتقول:
      خير، إن شاء الله.. تفاءلوا بالخير، يا جماعة..
      قال الجميع:
      خير، إن شاء الله، يا رب العالمين..
      قال أبو سالم:
      الزاد برد.. كلوا بعد ان تسموا، وامتدت أيديهم إلى الطعام، يسبقهم أبو سالم وقالوا جميعاً «بسم الله الرحمن الرحيم»، وعندما انتهوا من تناول الطعام، قال أبو سالم، بعد ان رفع يده من الصحن (الصينية): الحمد لله رب العالمين..
      وقال الجميع مثل ما قال..


      هامش:
      1 القنيص، الصيد براً

      تعليق

      • سلطااااان_التحول
        عـضـو
        • Oct 2005
        • 33

        #13
        رد: اخرج منها يا ملعون

        أخرج منها يا ملعون

        هل فعلها العرب حقا وأحرقوا البرجين..ام فعلها غيرهم ليرمي نتائجها على العرب؟

        الحلقة الأخيرة

        رواية لكاتبها: صدام حسين

        قبل ان يصلوا إلى ديار أبي سالم، سأل حسقيل شيخ الروم:
        هل أبقيت حراسة كافية على البرجين؟..
        نعم، لكن ليس بنفس عدد من يقومون بالحراسة كل يوم، إنما أقل من ذلك..
        قلق حسقيل على المال والذهب في برجه فقال:
        لو اعدنا عددا من فرساننا الذين لا تقدر اننا بحاجة إليهم، ليعودوا ويعززوا حراسة البرجين، خشية ان يدهمهما عدو أو طامع في غيابنا..

        أعاد شيخ الروم ستة من الخيالة إلى البرجين، قبل أن يقتربوا من المثابة التي بعدها تبدأ الصولة.. وبعد مسافة ليست ببعيدة، وصلوا إلى تل يشرف من يكون فوقه على ديار أبي سالم هناك، بل لعل من يكون فوقه على ديار أبي سالم هناك، بل لعل من يكون فوقه بامكانه ان يرصد كل حركة، ويعرف الراجل من الخيال..

        تجمع وجوه القوم حول حسقيل وشيخ الروم.

        قال شيخ الروم موجها كلامه اليهم:
        عليكم ان تنقسموا الى قسمين متساويين، كل قسم يخرج على العدو من جهة التل.. رتل من جهة الشرق، ورتل من جهة الغرب قال ذلك وهو يشير بيديه الى حيث ينبغي اما انا وحسقيل، فبعد ان تخرجوا عليهم، سنكون فوق التل، نرصد حركتكم وحركة العدو، ونتدخل في الوقت المناسب، ويبقى عدد من الخيالة حولنا خلف التل، ليقوموا بواجب الحماية، وكاحتياط بايدينا، نزج بهم في اللحظات الحاسمة.

        لاحظ شيخ الروم، وهو يعطي أوامره، ان هناك بيتين صغيرين يقعان في اطراف منزل القبيلة، كل منهما يرفع راية على عمود عال كأنها اشارة ما.. فنبه حسقيل الى ذلك..

        قال حسقيل:
        اخشى ان تكون اشارة متفقا عليها، وهذا معناه، ان العدو اكتشفنا قبل ان نظهر عليه من خلف التل..


        ****


        في اليوم التالي مر سالم على كل العناصر القيادية من جماعته، وتأكد بنفسه من ان الاوامر التي اعطاها في اليوم السابق فهمت تماما، وان الاجراءات التي امر بها نفذت وفق ما اراد، وان التهيؤ جرى وفق روحية تلك الأوامر..

        كان هناك واد عميق يحيط بمنزل القبيلة، حفرته مياه الامطار على مر السنوات الماضية، حتى صار وهو يستدير هنا، وينعطف هناك، على شكل حدوة حصان، أو شبه جزيرة، تاركا خلفه التل الذي كان حسقيل وشيخ الروم ينويان ان يبقياه خارج منازلهم، وما يليه باتجاه خط مجيء قبيلة الروم الى المكان، منبسطا تماما..

        أمر سالم، وشدد حتى اللحظات الاخيرة على الخيالة المختبئين في الوادي ان ينطلقوا، مستخدمين الوادي، كل باتجاه، وان يظهروا خلف التل، أو قريبا من جهتيه، ليقطعوا على المهاجمين خط انسحابهم، وليوقعوا بالأسر اكبر عدد ممكن منهم..

        اعطى شيخ الروم أوامره.. وانطلقت الخيول بفرسانها على ظهورها، وبدلا من ان يجدوا الناس بلا سلاح، وجدوهم مدججين بالسلاح، وجدوا النساء متهيئات للقتال، ومتسلحات بأعمدة بيوت الشعر في الأقل، بعد ان سحبن الأعمدة منها حال وصول الإشعار بهجوم العدو.. وما هي الا لحظات، حتى صار فرسان القبيلة كل على ظهر فرسه أو راحلته، أو يمسك بسلاحه ليقاتل راجلا..

        كان الصف الاول في القلب من حاملي القسي والسهام، يليهم الرماحة، فيما يحاول الفرسان الاغارة فوق جيادهم على الاجنحة.. وكان جماعة سالم، كلما حاول جماعة الروم اختراق القلب، امطرهم حاملو القسي بوابل من السهام، فيسقط الفرسان من على ظهور خيولهم، أو يسقط الجواد المصاب، فيتدحرج الفارس، ويضع الاقرب اليه السيف في رقبته، وقد اختلط الحابل بالنابل، في الوقت الذي اختلط صهيل الخيول بصيحات الفرسان، وهلاهل (زغاريد) النساء العربيات اللائي كن يمسكن بالاعمدة، ويحرسن الاطفال والبيوت، كلما جاء فارس رومي مهزوما على فرسه، أو منقضا على العرب، ضربت النساء قوائم فرسه بالأعمدة، أو يشددن قوائم فرسه بحبال ممسوكة من طرفها، وتكون ممدودة على الارض، وترفع فور اقتراب الفرس الغائرة منه فيتجندل الفارس، ويتناولنه بالعصي والعمد، فيهرب، أو يردينه قتيلا.. أو يسقط في الاسر..

        وكانت نخوة تهجم، يسندها الرجال الثلاثة على خيولهم.. وكلما حاول احد فرسان الروم الاقتراب منها، برز اليه احدهم ليرديه قتيلا مضرجا بدمائه.. وكانت صيحات (الله أكبر) هي الأعلى..

        وكان سالم يقاتل فرسان الروم، كأنه صقر ينقض على فريسته.. وكان يمتطي حصانه الابيض الذي سماه (نسر).. بعد ان خلع قميصه، حتى بان صدره وظهره، ولم يبق على رأسه غطاء.. وكان يطلق ضفيرتين طويلين تتدليان حتى اسفل كتفيه، مثلما كانت عادة شباب العرب انذاك، والى وقت قريب من زمننا هذا، وهو ينتخي.. ويصيح:
        الله أكبر..
        الله أكبر..
        وليخسأ الخاسئون..
        ليخسأ حسقيل وكلب الروم..
        وعاش العرب..
        يحيا الايمان..
        وتبا للكفر والالحاد..
        وكان لا يحمل الا سيفا فحسب.. وكلما انكسر سيفه، ناوله احد الفرسان سيفا اخر. وكان جمع الروم يتفرق عندما يغير عليهم، تماما كما تفر النعاج امام ذئب يطاردها، أو كما حمر فرت من قسورة..

        وبعد ان يصيح:
        الله أكبر.. كان يقول (عين عيونك يا نخوة).. حياك الله.. وحيا الحمى.. حياك الله.. وحيا أهلنا..

        كانت نخوة غالبا ما تنسى القتال وتقف لتملأ عينيها بمنظر سالم وهو يقاتل، وكان حصانه (نسر) يجود بما لا يخذل فارسه..

        بدأ جمع الروم يتقهقر، وعبر التل الذي كان حسقيل وكلب الروم يقفان فوقه.. وقفت نخوة هي والفرسان الثلاثة عمر، وحازم، وسمعان.. لترى اللوحة العظيمة التي خذل الله فيها الروم وحسقيل امام العرب.. وعرفت حسقيل وشيخ الروم من طبيعة الكوكبة التي كانت تحيط بهما ولا تغادرهما، وعرفت ايضا انهم صاروا في وضع كأنهم يهيئون انفسهم للهزيمة..

        ولاحظت نخوة ان سالما، كلما قاتل وجيها كبيرا من وجوه الروم، أو جندل احدهم فرسه من تحته، أمر له بفرس، ولم يقاتله، ومنع الاخرين من قتاله الا بعد ان يصير فوق ظهر فرس أو حصان، واذا كسر احد سيفه أمر له بسيف جديد.. حتى يقاتله، أو يقبل بأن يقاتله أحد الفرسان.. وهذه عادة اصيلة حفظها عن أجداده وبقي متمسكا بها..


        ****


        عندما كانت نخوة فوق التل، ترقب منظر القتال، وتراجع فرسان العدو، لاحظت ان اثنين جاءا مسرعين على جواديهما، وما ان توقفا قرب مجموعة شيخ الروم وحسقيل، حتى انطلقت خيولهم مسرعة للخلف باتجاه البرجين، في الوقت الذي بقي الاخرون يقاتلون، وفي ظنهم ان امكانية التراجع المنظم ممكنة.. ولكن الهجمات المستمرة للعرب جعلتهم لا يصمدون امام الموت، ففروا معقبين حسقيل وشيخهم، بعد ان سقط خلق كثير منهم بين صريع ميت وجريح، اضافة الى اسر خلق كثير ايضا.. وفقد العرب صناديد منهم، ولكنهم انتصروا، وبقيت راية الله أكبر ترفرف فوق هاماتهم.. وعرفوا، بعد ان جاءهم من تولى مطاردة الفارين، ان النيران شبت في البرجين، واتت عليهما وعلى كل شيء فيهما، مما لا يعرف مصدره الا الله، وان شيخ الروم وحسقيل، عندما اخبرهما الفارسان بالواقعة، وجدا في ما اخبرا به الغطاء الذي كانا يبحثان عنه للهزيمة..


        ****


        عندما رأى حسقيل النار كأنها الجحيم، تعصف بالبرجين بلهيبها ودخانها، راح ينثر التراب على وجهه..ويصيح:

        (أويلي علي).. لقد ذهب كل شيء جمعته طيلة السنين الماضية.. يا لها من نكبة كبيرة لي ولشيخ الروم!! قال له أحدهم متشفيا من الروم:

        انصحك يا حسقيل ان تبني برجين اخرين، تبيع احدهما وتؤجر الاخر لشيخ الروم، وتذهب انت لتكون ضيفا على ابن عمك في النار.


        ****


        لقد فعلها العرب.. يا لهم من مغامرين عندما يستفزون!! ومع ان حسقيل، والى جانبه كلب الروم، كانا يحثان التراب ويذروانه على رأسيهما.. فقد تساءل كبير الروم مستفسرا من حسقيل:

        هل عملها العرب حقا، واحرقوا البرجين، في الوقت الذي كنا منشغلين بالقتال مع جماعة سالم، أم فعلها غيرهم، ليرمي نتائجها على العرب، مع ان اعداءنا من غير العرب كثر ايضا؟

        ويجيبه حسقيل:
        لا، ان مثل هذا العمل الفدائي لا يقوم به الا عربي.. لأنني وفق ما عرفته ممن جاءنا بالخبر ان الذين احرقوا البرجين، احترقوا جميعهم في نيران البرجين بعد ان احرقوهما..

        كيف ذلك؟، يستفهم كلب الروم.. اعتقد ان اخرين من غير العرب لو امنوا بما يؤمن به العرب قد يقومون بهذا ايضا.

        ويجيبه حسقيل:
        لقد باشروا باحراق البرجين بعد ان صعدوا الى حيث الحرس في البرجين، وقتلوهم.. باشروا باحراق البرجين من على الأعلى، أو منتصفهما ابتداء، وليس من الاسفل، وكانوا يعرفون، كما يبدو، ان مثل هذا العمل يجعل امكانية احتفاظهم بالحياة غير ممكنة، ولذلك قبلوا هذا المصير لأنفسهم.. وقال من اخبرنا بهذه التفاصيل انهم كانوا يرددون، مع قيامهم باحراق البرجين، بصوت جماعي مدو: الله أكبر.. الله أكبر.

        وعندما سمع أحد حراس كلب الروم هذا، ويبدو ان جماعة سالم كسبوه الى طريقهم وموقفهم، قال:

        رحم الله الشهداء الابرار، شهداء الايمان، والعروبة المؤمنة، وأخزى الله الكافرين. عندها جفل كبير الروم وحسقيل، وهما يقولان:

        يبدو ان لا مفر امامنا.. ان البرجين وخسائرنا وهزيمتنا في هذه المعركة ليست نهاية المطاف.

        قالا ذلك، وركبا فرسيهما، ورحلا..


        ****


        رأى سالم منظر النار وهي تشب في البرجين.. وكان فوق التل، بعيدا عنهم، وقد ارخى الليل سدوله، ولما يزل يطارد بقايا قوم الروم المهزومين قريبا من ديارهم.. رأى منظر البرجين البائس، واستعاد بذاكرته ثروة حسقيل، وشيخ الروم، تلك الثروة التي جمعاها من المنطقة على حساب اهلها والمحتاجين اليها..

        التحقت به نخوة، وفرسانها الثلاثة، وكوكبة من افضل رجال العرب، وقفوا هناك، فوق ذاك التل، يتأملون في ما حصل..

        ردد سالم عند ذاك بصوت متهدج، بعد ان فاضت الدموع من عينيه، ومن عيون الجميع، وبكت نخوة خشوعا وحبورا:

        (بسم الله الرحمن الرحيم.. الم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا ابابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول) وردد ايضا: (قل اللهم مالك الملك، تأتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) صدق الله العظيم.. كأنه استحضر ما يعطي التفسير لما راه من هزيمة حسقيل والروم واحتراق برجيهما.. واستحضر هذه الايات من هذا المنظر ومنظر الصقور، وهي تنقض على طيور الحبر، ذلك لأنها قد مرت من فوق رؤوسهم، وهم يتجمعون في بيت سالم، وحوله وامامه، مثلما مرت من فوق حسقيل وشيخ الروم.
        والله أكبر.
        التعديل الأخير تم بواسطة ح ـكآية; 18-07-2010, 03:41 AM. سبب آخر: تنسيق

        تعليق

        • ح ـكآية
          V - I - P
          • Nov 2008
          • 1818
          • اللهم لك الحمد ..

          #14
          يسلموو

          تنقل للقسم الافضل ..

          تعليق

          • × عاشق القلوب ×
            عـضـو فعال
            • May 2009
            • 161
            • خخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخ

            #15
            يعطيك الف عافيه

            تعليق

            • أردوغان
              عضو فضي
              • Jan 2015
              • 598



              • افكر في كون هذا المخلوق (الجني شعشوع) يستعبط

              #16
              رد: اخرج منها يا ملعون

              حطمتني أبي اكتب رواية

              والله زمان يا فن

              تعليق

              • أردوغان
                عضو فضي
                • Jan 2015
                • 598



                • افكر في كون هذا المخلوق (الجني شعشوع) يستعبط

                #17
                رد: اخرج منها يا ملعون

                أخرج منها ياملعون

                هرب الشيطان بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر

                الجزء الأول (1)




                رواية لكاتبها: صدام حسين


                تعيش الشياطين، حسب اعتقاد من يعتقد بذلك، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها الناس، أو في خرائب بابل، التي هجرها أهلها بعد أن دمرها الفرس، وفق تدبير تامر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر أسرى إليها.. أما الان، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناسا يناضلون ويجاهدون حبا بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.
                ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثا بروحه، حتى لو رددوا الاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).
                صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيدا.
                وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللا ومستقرا في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيدا، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.
                قبل حوالي ألف وخمسمائة عام، أو نحو ذلك، وبعد ذلك، وإلى حين، كان الناس في العالم كله يعيشون عيشة متواضعة بوجه عام، وكان حجم الخير والشر في صدورهم وأنفسهم، ومن بعدها في تصرفاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم، موجودا، في المكان والمسمى المناسب له.. لكن الخير والشر كانا يعبران عن نفسيهما وتأثيرهما طبقا لوسائلهما وقدراتهما انذاك، لذلك كان الشر متواضعا أيضا بالقياس بما هو عليه الان، إلا أن قدرة الخير كانت أكبر، لأن حجم وعمق تأثير عدد من يحملونه كانا أكبر.. ورغم أن قدرة إقناع من يقتنع به من بني البشر، كانت متصلة بمستوى حصانة وعي وإيمان هذا أو ذاك من الناس، وقد كان الناس أميين إلا قليلا منهم، فإن جرائم وتأثير من يقنعهم بالشر، بعد أن يغويهم الشيطان، كانت محدودة أيضا بالقياس بما عليه الأمر الان.. لكنها كانت موجودة، وكان الشر وأهله، إلى جانب الخير وأهله، موجودين في ذلك الزمان أيضا.. وكان الله، رب العالمين، فوقهما، يرصد كل فعل ويسجله له أو عليه، وعلى هذا، يسجل لكل وفق استحقاقه، ويسجل فعل الشيطان أيضا.
                كان إبراهيم يحكي جانبا من هذا لأيتام أولاده الثلاثة، الذين قتل اباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وما أكثرها في ذلك الزمان في شبه الجزيرة العربية، الممتدة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وتضم العراق ودول الخليج العربي واليمن.
                وشاءت الصدف هكذا، أن يخلف أبناؤه المقتولون الثلاثة، ثلاثة أولاد ذكور، أي ابنا واحدا لكل منهم، وهم: حسقيل ويوسف ومحمود، وقد نشأ الأولاد الثلاثة في كنف جدهم إبراهيم، وكان الجميع ينادونه (أبتي) وينادون جدتهم حليمة زوجة إبراهيم (أمي)، أو (أمنا).. ذلك لأن أمهاتهم عدن إلى أهلهن بعد وفاة أزواجهن.
                وعندما انتهى من حديثه، كانت إلى جانبه زوجته حليمة، التي تكنى أم الخير، تغزل بمغزلها خيوطا من الصوف لتعمل لمن اهترأ ثوبه ثوبا جديدا.. وكان البيت الذي يسكنون (يكنون) فيه بيتا من الشعر..
                عندما كان إبراهيم يحكي، جاءت «سخلة» صغيرة من غنمهم، وحاولت أن تلحس فروة إبراهيم، ومن غير أن يقطع كلامه، كان إبراهيم يشاغلها بيده، ليصدها عن الفروة، بأن يمسح على وجهها، أو يناولها اصبعا من أصابعه، ترضعه (متلهية)، مثلما (يتلهى) الصغار الان برضاعاتهم الاصطناعية، وعندما يسأله صغيرهم محمود:
                هل في اصبعك حليب، يا أبتي؟
                يقول:
                لا، الحليب في ضرع أمها، يا بني، لكنها تتلهى مثلما تتلهى أنت عندما تركب على حبل مقدم البيت.. فحذار من أن تنكسر رقبتك، إذا هويت إلى الأرض، لكن الفرق بينك وبين السخلة في هذا، أن السخلة تلعب بأصبعي، وهو أمين، لا يؤذيها، بينما إذا ركبت الحبل، قد تقع منه، بعد أن يختل توازنك، وعندها قد تكسر يدك أو رجلك، وربما رقبتك، وبخاصة إذا أراد حسقيل أن يتخابث معك ويهز الحبل..
                كان محمود، عندما يسمع قول أبيه (وربما تكسر رقبتك)، يتحسس رقبته، وبالكاد يبلع ريقه، ويضحك أخواه، في الوقت الذي تتبسم أم الخير، حليمة، التي نسب إليها هذا الوصف والكنية، بسبب تقدير إبراهيم والناس لها.
                استأذن أوسطهم وهو يوسف، والده وقال:
                * أنا أيضا، يا والدي، ألاعب الحبال أحيانا، أو ألعب عليها، ولم يحصل أن وقعت منها!.
                قد تقع يوما، يا ولدي، مهما كانت مهارتك في اللعب عليها.. أبعدكم الله، يا أولادي، عن شر اللعب على الحبال ومسلكها.. ان الابتعاد عنها خير من الاقتراب منها واللعب عليها، إذ أن كثيرا من الناس ممن امتهنوا اللعب على الحبال، بدلا من اتخاذ مسلك اخر أكثر ثباتا في الحركة، يجدون في نهاية المطاف ما يجعل توازنهم يختل ويقعون منها، وقد تودي بحياتهم.
                قال محمود:
                * وماذا لو لاعبت شجرة متنقلا بين أغصانها؟! أجابه إبراهيم:
                مع الانتباه إلى طريقة التصرف والمغامرة مع الشجرة، فإن التسلي مع الشجرة افضل، لأن عروق الشجرة في الأرض والشجرة عميقة الجذور، لذلك فإن صلتها بالأرض عميقة وراسخة، ومن تكون صلته بالأرض عميقة وراسخة يكون أكثر ثباتا وأكثر حنوا، ولا يخون صاحبه، لذلك فإن الشجرة لا تخونك لو لاعبتها، أما الحبل فإنه في الهواء، وصلته بالأرض من خلال أوتاد فحسب، وليس من خلال ذاته.. لذلك لا يكون استقراره كاستقرار الشجرة، ولا يكون الأمان معه نهائيا.. وبخاصة لو اقتلعت أوتاده، وأنت تلاعبه أو تلعب عليه.
                سأل حسقيل أباه:
                * هل الرب الذي تحدثنا عنه موجود قبل أن يخلق الإنسان؟ وهل هو في السماء، يا والدي؟
                نعم، يا بني، إن الله، سبحانه، موجود قبل أن يخلق الإنسان، وقبل أن يخلق كل ما هو حولكم مما ترونه أو تلمسونه، بل إن الله، جلت قدرته، هو خالق كل شيء، وخالقنا، وهو محيط وموجود حيث شاء.
                انبرى يوسف متسائلا:
                * وهل خلق الله «السخلة» أيضا؟
                نعم، يا ولدي، خلق الله السخلة أيضا، هي وأمها وأباها، وخلق الحيوانات والأشجار والأنهار.
                هكذا أجاب إبراهيم ابنه الأوسط يوسف.
                كانت أعمار الثلاثة متقاربة، بفارق عام ونصف العام، أو ما يزيد أو يقل عن ذلك قليلا، بين كل واحد واخر.. وكان عمر أكبرهم اثنتي عشرة سنة، ويأتي بعده أخواه متسلسلين وفق هذا التقدير.
                عاد حسقيل ليسأل:
                * ولماذا لم يخلق الله إنسانا، بدلا من السخلة، يا والدي، مثلما تفعل أنت وأمي، حيث أراكما تتعاونان معا لتغزلا أو تحوكا ثوبا عندما يهترئ ثوب أحدنا، لكن عندما تهترئ بردعة الحمار ينشغل في تسويتها واحد منكما فحسب، غالبا ما يكون أنت لأن بردعة الحمار أقل أهمية من ثوب إنسان، أليس الإنسان أهم من السخلة، يا والدي؟ فلماذا ينشغل الله عن خلق إنسان بخلق سخلة؟! يجيبه إبراهيم:
                إن قدرة الله، يا ولدي، تحيط وتسع كل شيء، وأنها ليست كقدرة الإنسان، بحيث يضطر لأن يحسب لكل شيء يخلقه زمنا وزخما قدرة بعينه، لذلك فإنه، سبحانه، في الوقت الذي يخلق إنسانا يستطيع أن يخلق إنسانا اخر أو جملا أو سخلة أو أيا من الكائنات الحية والنبات والأشجار.. ان الله قادر، يا ولدي، أن يقول لكل شيء، وأي شيء: كن، فيكون. أما نحن بني البشر، فلأن قدرتنا محدودة، فإننا نضطر، إذا ما انشغلنا بأمر أو شيء ما، أن نؤجل الاخر إلى وقت يليه، أو ان يقوم غيرنا بما لا نستطيع أن نقوم به، عدا عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير أن يخلق الله له المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات، بعد أن خلق الأرض والماء والهواء، بل ان واحدة من ايات الله أن خلق الإنسان في أحسن تقويم وسط المخلوقات الأخرى، وجعله أرقى منها، ليعرف دوره في الحياة الدنيا، بعد ان يشكر الله لتمييزه عليها.
                وعندما يتدخل صغيرهم (محمود) سائلا:
                * عندما تكبر السخلة، نشرب من ضرعها الحليب، أليس كذلك، يا والدي؟
                يقول إبراهيم:
                نعم يا ولدي، أحسنت.
                كان الجميع يتلقون، مع تلقي إبراهيم هذه الأسئلة، ريح كانون التي تخترق بيت الشعر محدثة صفيرا.. سمعوا معه رعدا يتخلله برق، يجعل الغنم تجفل مرئية، في مدخل بيت الشعر، حيث تكون جلستهم قبالته عادة.
                يقول إبراهيم:
                اللهم اجعلها سنة خير، واحمنا من الصواعب.. وعاديات الدهر..
                ويردد الجميع:
                امين.
                في الوقت الذي كان إبراهيم يرد على أسئلة أحفاده، كانت أم الخير، منشغلة بالغزل، وعندما كانت تصغي إلى سؤال أحدهم كانت تتبسم، وتتوقف يداها عن الغزل، أو ما يتعلق به، مؤقتا، ثم تعود لتواصل عملها، ولا تنقطع عنه، إلا عندما يطلب إبراهيم أو صغيرهم ماء، فتأتيهم به في كأس (كوز) فخار من صنع العراق، ذلك لأن أحدا انذاك لم يكن يعرف أفضل منه كيف يصنع أدوات الطبخ والأدوات الأخرى التي يحتاجها الإنسان، أو تأتيهم بالماء في (كوز) مصنوع من القش ومطلي بالقار، وهو الاخر يصنع في العراق، إما من سعف النخيل، أو ذؤابات القصب أو البردي، ويطلى بالقار.. حيث لا قار انذاك إلا في العراق فحسب، لذلك نجد أرضية شارع الموكب في مدينة بابل الأثرية مطلية بالقار أيضا.. ومن الأمور التي ينبغي أن تعرف أن القار استخدم، في هذا الشارع في العصر البابلي القديم، في عام 1900 قبل الميلاد، ومع ذلك فهو أكثر جودة من القار المستخرج بالوسائل الحديثة الان، شأنه شأن السيراميك الذي استخدمه العراقيون في العصر الاشوري الوسيط، في حوالي عام 1400 قبل الميلاد، والأصباغ في بابل، أو في شمال العراق، انذاك، فإنها لم تفقد لونها رغم مضي ستة الاف سنة على بعضها.
                كان إبراهيم وزوجته يضعان الماء في قربة يعلقانها في زاوية بيت الشعر لئلا تدهمه عنزة، أو نعجة، أو كلب عندما يحس بالعطش، أو لمجرد العبث بها.. وكان إبراهيم يتدثر بفروته المصنوعة من جلود الغنم، ويجيب على الأسئلة، وكلما خبت النار التي كانوا يتحلقون حولها، اقترب منها الأولاد أكثر، حتى تكاد تلامس أجسادهم، وكلما أوشكت النار على أن تخبو بسبب تحول الحطب في الموقد إلى رماد بعد اشتعاله، لأم إبراهيم ما تبقى من أطراف الحطب الخارجية، ووضعها في النار لتعاود الاشتعال من جديد، وكان إبراهيم قبل أن ينتهي الحطب يأمر ابنه الأكبر حسقيل بأن يأتي بكمية حطب جديدة من الزاوية البعيدة للبيت، حيث يوضع لكي لا يكون رطبا بفعل المطر أو الندى.
                في هذا البيت، كان كل شيء يحتاجونه، من الرحى الحجرية اليدوية، التي يستخدمونها للطحين والجرش، إلى قربة الماء، وقربة اللبن (الشكوة ( والدلو وحبله، الذي من غيره يتعذر إرواء الغنم وإرواء أنفسهم أيضا من بئر احتفروها قرب بيتهم، وبساطين أو أكثر حاكتهما حليمة هي ومن عاونها من صوف الغنم.. وكلما تقدم الليل وخفتت النار، كان صغيرهم محمود يقترب من النار فاتحا رجليه حتى تبان عورته، التي لم يكن يداريها بثوبه، لذلك كانت اثار اقترابه من النار تبدو كأنها دمغات أو) جزر) على جلده في بطن فخذيه، بل كان الأولاد الثلاثة يفعلون هذا، لكن محمود لصغر سنه كان أكثرهم مبالغة في فتح ساقيه والاقتراب من النار.. وعبثا كان (أخواه) الأكبر أو الأوسط يحاولان تنبيهه لكي يلم ساقيه، ويداري عورته بثوبه، وكلما ازداد البرد قبل النوم، ازداد اقتراب محمود من النار أكثر فأكثر.. لكن أمه كانت تنهرهما، قائلة:
                اتركا الصغير ولا تضايقاه، فقد كنتما تفعلان ذلك عندما كنتما بعمره.. سوف يكبر ويتعلم.
                يضحك الأب والابنان الأكبر والأوسط.
                في أحد الأيام، فعل أخوهم الصغير الشيء نفسه، فيما كانوا يتحلقون حول النار، لكن حسقيل قرب جمرة بعصا صغيرة رويدا رويدا، حتى كادت تلامس قلفته، أو لامستها فعلا، وصرخ الصغير، وهب واقفا، واندفع باتجاه أخيه حسقيل ضاربا إياه على صدره بيده، في الوقت الذي كان يجر شعر رأسه باليد الأخرى.. فعل الصغير هذا إزاء حسقيل وسط لوم وتعنيف الجميع: إبراهيم وحليمة، ويوسف.
                وما أن مرت أيام حتى اعتل حسقيل ب (وذمة) في لسانه، ورغم أن حليمة وإبراهيم حاولا ما وسعهما لإشفائه، لكن لسانه لم يشف، إلا بعد أكثر من شهرين.. ومع أنه شفي من (الوذمة) فإن احتباسا بلسانه كان واضحا، مما جعله يلثغ في الكثير من حروف اللغة العربية، وكانت لثغته واضحة بحرف (الراء) على وجه التحديد.
                قال له جده (والده) إبراهيم:
                المني تصرفك مع أخيك محمود قبل شهرين، عندما أصبت قلفته بالأذى، ولم يشف إلا بعد أن ختناه (طهرناه).. ولشدة ألمي دعوت عليك بالأذى، ولأن دعوة الأب مستجابة، فقد استجاب الله ربي، يا ولدي، لدعوتي عليك، وامل وأدعو الله، سبحانه، أن يهديك بما يبعدك عن نزعات الشر، وما يمكن أن يصيب الناس منك من أذى.. حيث غالبا ما تتجه هذا الاتجاه خلاف أخويك، يوسف ومحمود، وكثيرا ما يكون أذاك منصبا عليهما، عدا ما يصيب الاخرين غيرهما.. وامل أن تكف عن الطمع، حيث أراك تطمع في ما في حوزة أخويك، ومن يجاورنا.. إن الطمع يفسد الإنسان، ويجعل الناس يكرهون صاحبه، يا حسقيل، ثم انني أعرف أنك لا تعطي أحدا مما هو في حوزتك، حتى لو كان أمك حليمة، ولا تساعد أحدا، بل انك حتى (لا تبول على جرح أحد لو طلب منك ذلك(، كما يقول المثل عندنا..
                قال إبراهيم هذا المثل، ذلك لأن البول غالبا ما كان وسيلة تعقيم الجرح البسيط، إذا لم يتيسر الرماد في المكان.. وقد اتخذ من البول مثلا على البخل والبخيل بأن يقال عنه (إنه لا يبول على جرح) لو احتاجه المجروح.
                عاد إبراهيم ليقول:
                إن الصفات التي تحملها، يا ولدي حسقيل، صفات غير حميدة، وأن الله، ربنا، لا يحبها، وإذا استمر سلوكك هذا، أخشى أن لا يوفقك الله، وتعيش منبوذا بين أخويك والناس، ومن يخسر رضا الله والناس، لن يعيش مرتاحا، حتى لو ملك كل ما يملكه الاخرون.. أترى، يا ولدي، أنك لو ملكت كل ما تطاله يدك في الوقت الذي لا يملك الاخرون شيئا، هل تتصور إمكانية أن تعيش مرتاحا وسعيدا؟، إنك حتى لو كابرت، وقلت: نعم سأعيش سعيدا، فلن تعيش امنا، وسوف تبقى تلوح بعصاك على كل من يطمع بمالك، ذلك لأنك، وفقا لهذا الافتراض، قد حزته بسبب طمعك، وحتى عندما تقدر عصاك على واحد أو اثنين، فإنها ستعجز عن ذلك، كلما ازداد عدد الطامعين بزيادة ما تملك، وحرمان الاخرين من الملكية، أو كلما وجدوا أن من واجبهم أن يتضامنوا ويتحصنوا تجاه أطماعك فيهم وفي ما يملكون.. بل انك حتى لو استحوذت على ملكية الاخرين كلها، ستعيش معذبا في داخلك، وإذا لم يتعذب في داخله من يستحوذ على كل شيء، ويطمع في كل شيء، سوف يقعد له الناس المتضررون كل مقعد، ولن يجد حماية الله قريبة إليه.. وفي كل الأحوال لن يعيش سعيدا محبوبا من أقرانه ومن الناس.. فاحفظ وصيتي، يا ولدي، لأن العمر يتقدم بي، وأخشى أن أموت، ولا تبدل طباعك فتندم.
                مرت الأيام، ولم يكن المطر في ذلك العام غزيرا في منطقتهم.. حيث كانوا على مبعدة من الحافة الغربية لنهر الفرات في وسط العراق، أو الحافة الشمالية من جنوبه.. لكن بعض البدو الذين كانوا يمرون بهم في ترحالهم، ذكروا لهم أن بلاد الشام (أصابها) مطر غزير في مناطق الجزيرة المحاذية للعراق. ولأن إبراهيم كان يملك أغناما وإبلا كثيرة، قرر بعد أن تشاور مع أم الخير، أن يرتحل إلى هناك، بإبله وأغنامه، اضافة الى عائلته، ولأن مشي من يرتحل عادة ما يجري على قياس أقل الحيوانات قدرة على المشي، فقد تطلب وصولهم إلى هناك زمنا طويلا.. وكلما ارتحلوا بين مثابتين باتجاه أرض الشام، حسبوا حساب الماء، بالإضافة إلى ما تأكله حيواناتهم، لتكون في وضع يمكنها من مواصلة المسير وكانت واحدة من مثاباتهم منخفض الثرثار شمال غربي تكريت وشمال الأنبار.. وعندما ارتحلوا من هناك كانت رحلتهم ليلا.
                هنا قال ابراهيم موجها الكلام إلى حليمة، أم الخير:
                لو صادف أن سبقتكم إلى المثابة التي نحن بصدد الوصول إليها، ضعي نجم الجدي، كأنه فوق كتفك الشمال، وامشي، إذ انك لو واصلت هذا الحال، ستصلين حتما إلى ارض الشام، ولو كان مقصدنا البو كمال في سورية، وواصلنا المشي كذلك، فسوف نصل إلى هناك من غير دليل.
                وكان إبراهيم يعرف هذه الأرض جيدا، حيث سبق أن تنقل فيها على مدى عمره مقيما ومرتحلا.. وكلما نزلوا قرب عين ماء، أو بئر، كانوا في الغالب، يجدون من سبقهم إلى هناك، سواء من أهل المنطقة التي فيها البئر، التي يحطون قربها ليرتووا منها هم وأنعامهم، أو مناطق أبعد، وهم في طريقهم إلى ارض الشام أيضا.
                ولأن إبراهيم غالبا ما كان يعرف ممن يسبقه إلى حيث ينزل، وبالذات من سكان المكان المستقرين نسبيا فيه، فقد كان وجوه القوم يدعونه هو وأبناءه لعشاء ذلك اليوم، وينحرون له الذبائح، ويدعون على شرف إبراهيم من يدعونه ممن هم حولهم، بل إن الناس انذاك، وبعضهم في الصحاري حتى الان، لم يكونوا ينتظرون أن يأتيهم من يدعوهم لوليمة، وإنما يلتقون غالبا عند كبيرهم (مقدمهم) بين وجوههم لشرب القهوة أو السمر، وفي كل الأحوال، يحضرون عندما يستشعرون وجود ضيف غريب، ليحظوا بقطعة لحم مع ثريد وادام، أو ثريد وادام فحسب، إذا تعذر الحصول على قطعة لحم، أو إذا كان عدد الاكلين أكثر من قطع اللحم.
                عندما أنجز طبخ الطعام، قدم المضيف الطعام لإبراهيم، وتقدم إلى الطعام من كان حاضرا معه.. وبينما كانوا يتناولون الطعام، لاحظ إبراهيم أن حسقيل، خلاف أخويه، تناول مع قطعة اللحم الموجودة أمامه، قطعة لحم من جاوره على المائدة، فتبعتها يد صاحبها، ولكن حسقيل أمسك بها وأخذها من يده ووضعها في فمه بصورة أخجلت إبراهيم وأخويه، بل أحزنتهم أمام مضيفهم ومن حضر المائدة معهم، ورغم أن المضيف وإبراهيم، والمدعوين، ضحكوا عندما علق صاحب قطعة اللحم على ذلك بقوله: حقك علي، يا ولدي، يبدو أن طريقكم طويل، وأن البطن كافرة عندما تجوع.. فقد تمنى إبراهيم أن تنشق الأرض وتبتلعه في تلك اللحظة، على أن يكون أمام ذلك المنظر المخزي، بل حتى يوسف خجل من تصرف حسقيل، رغم فارق العمر بينهما.. ومن يومها لم يعد إبراهيم يحضر حسقيل معه في وليمة يدعى لها، وصار يحضر معه يوسف ومحمود فقط.
                كان الطقس والهواء والمرعى في الشام من الجودة بحيث أغرى ابراهيم على البقاء هناك، فاستقر في بلاد الشام الى حين، مرتحلا ومتنقلا من مكان الى اخر. وسمنت وتكاثرت اغنامه وإبله، وأتيح امامه ان يعيش في حال مميز قياسا بأقرانه، وكان الخبز والتين المجفف والزبيب وزيت الزيتون، والزيتون المنقوع بالزيت، أهم مؤونة البيت، وكانت حليمة سعيدة، بما أسعد زوجها ابراهيم، ولكنها بقيت هي والأولاد في شوق الى ديارهم القديمة، حيث يشتون في الشامية، على أرض الجزيرة غرب الفرات من جهة الفرات الأوسط، ويصيفون على الكتف الأيمن لنهر الفرات.
                كبر الأولاد حتى صار حسقيل في حوالي العشرين عاما من عمره، يتدرج بعده في العمر يوسف ومحمود، كل على أساس عمر معلوم بفارق اقل من سنتين بين واحد واخر.. وكلما كبروا ازدادت مشاكل حسقيل، وازداد طمعه وعدوانيته على الاخرين، وطمعه في مالهم، وازداد اخواه، ابنا عميه، يوسف ومحمود ثقلا، وعقلا، وتسامحا، وشهامة، وكرما. وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يحظيان باحترام وتقدير من يعرفهما ويخالطهما، كان الناس يبتعدون عن حسقيل، ويزدادون نفورا منه، بل صار من يقترب منه ويصيبه أذاه يمقته ويكرهه، ورغم ان ابراهيم صار محط انظار اهل الشام ممن عرفوه والتقوه، وصار من يسعى ليتزود بالحكمة ينهل من دروسه باختلاطه به أو استشارته، فقد حاول ابراهيم عبثا ان يصلح حسقيل ابن ابنه.. لكنه كان، في كل يوم يمر، ينتظر شكوى من احدهم ضد حسقيل، وحتى عندما كانوا يلعبون على ظهور الخيل في مناسبة ما، كان الشباب يختارون يوسف ومحمود، رغم انهما اصغر عمرا، ويتجنبون حسقيل، وعندما كان حسقيل يلتمس مطاردة احدهم على ظهر فرسه، أو حصانه، كان من يلتمسه يعتذر له بشتى الأعذار، لكنه من جهة أخرى يذهب إلى يوسف أو محمود يرجو منه مطاردته.. وعندما يحصل أن يخطئ أحدهم التقدير، ويقبل بمطاردة حسقيل، فغالبا ما تنتهي علاقته مع من يلاعبه على ظهور الخيل الى شجار يسيل فيه دمه أو دم صاحبه، واذا سال دم حسقيل، من غير ان يموت طبعا، عفا ابراهيم عمن يفعل ذلك، لأنه يعرف الخواص السيئة لحسقيل، وإن سال دم اخر، دفع ابراهيم دية عن تصرف حسقيل، وفق ما كانت تقتضي الاعراف، خاصة ان ابراهيم كان يعيش اساسا خارج مسقط رأسه، حيث أهله واعمامه. وكان حسقيل يعمد الى ان يحمل معه حبلا بطرفه انشوطة بصورة سرية، فإذا طارده أحدهم، رمى بالحبل على رقبة فرس ذاك الخيال، ثم يسحبه لتنعقد الانشوطة عليها، فتقع الفرس والخيال على الارض، أو ان يضرب فرس نظيره بعصا أو ان يضرب قرينه خلاف العادة بعصا غليظة حتى يدميه.. الخ. وادرك ابراهيم ان حسقيل، اذا بقي في بيته، سيشكل عداوات مع الناس كلهم، قد تنعكس عليه سلبا، رغم كل تقدير الناس له، ولكنه كان في حيرة من أمره.. كان يتداول مع زوجته حليمة في أمر حسقيل، ورغم ان حليمة تعرف طباع حسقيل السيئة، فقد كانت تصبر ابراهيم بالقول:
                قد تذهب منه طباعه السيئة عندما يكبر.
                وعندما يذكرها ابراهيم بأن عمره صار عشرين عاما، وانه أكبر من ابراهيم عندما تزوجها.. تقول، بعد أن ترجوه ليصبر عليه:
                ربما يصير أفضل عندما يتزوج.
                وتعود لتقول مع نفسها بصوت مسموع، بعد أن يسكت ابراهيم على مضض:
                ترى من يقبل به؟ ومن يزوجه ابنته، بعد ان شاع صيته بالسوء؟
                وبعد سكوت وتأمل طويلين، يتجه ابراهيم الى ربه بالدعاء:
                اللهم اشفه من حال السوء، وخلصني من عبء ما يفعل، انك خير من يعلم السرائر، وتعرف الخير من السيئ، وأنك القدير العزيز.
                في إحدى الليالي الربيعية، وبعد ان تناولوا طعام العشاء، سأل حسقيل أباه (جده) إبراهيم:
                * هل الثروة الان أكبر لدى الدول والناس، أم قبل الان، يا والدي؟
                إنها الان أكبر.. لأن عدد الناس الان صار أكثر مما كانوا عليه قبل مائة عام مثلا، ولأنهم الان أكثر فإن حجم عملهم أكبر، ولأن العمل اساس الثروة، فإن الثروة الان أكبر ايضا.
                * لماذا لا تقول ان الذهب أكثر الان باعتباره المقياس الثابت لقيمة الثروة منذ زمن بعيد، فازداد بالتراكم؟
                بل أقول إن العمل الان أكبر.. ذلك لأن العمل، كما ونوعا، أهم من الذهب..
                * كيف؟
                * لو كان لديك أوقية من الذهب.. وذهبت الى السوق، ولم تجد رغيف خبز، وانت جائع، وكذا عيالك، وتكرر الحال عدة ايام.. الا يعني ذلك انك ستموت، انت وعيالك، ويبقى الذهب لمن يرثه!؟
                نعم.. صحيح.
                اذن الثروة هي العمل.. وكلما ازدادت ساعات عمل شخص على اخر، وازداد علمه أو مهارته على قرينه، ازدادت الثروة في فعله بالقياس بما عليه قرينه..
                اذا كانت الثروة عملا فقط.. لماذا يطمع من يطمع بثروة الاخرين!؟
                ثم اردف حسقيل:
                * ألم تقل لي، يا أبتي، انني اطمع في ما يملكه الاخرون؟.. فهل اطمع في عملهم.. أم في مالهم؟ ولكنه اجاب بنفسه:
                انني اطمع في مالهم، وليس في عملهم.. اطمع في اغنامهم، وفي محصولهم الزراعي، وفي الخيول والجمال والبقر الذي يملكون.
                أنا لم أقل إن الثروة عمل فقط.. وإنما قلت إن الثروة عمل، جوابا على ما قلته وتصورته حكما قاطعا من أن الثروة ذهب فحسب.. انك لا تطمع في ملكية الاخرين فحسب، يا حسقيل، وإنما في عملهم أيضا، عندما لا تدفع لهم ثمن عملهم، أو تدفعه منقوصا، أما لو أردنا الاسترسال، وان نولد من كل عنصر من العناصر الأساسية في تكوين الناس والتأثير بها، لما توقفنا عند العمل كمصدر وحيد للثروة، ولكنه المصدر الأساس فيها وفي تعريفها.. ولو نقلنا ثقل الناس والدول في الميزان، من صلتهم بالثروة تحديدا، إلى صلتهم بالقيمة، فعندها نكون أمام عنوان اشمل، يحوي ما هو مادي وما هو معنوي، وعند ذلك تدخل جغرافية الدول ضمن قيمتها وتاريخها، وما هو في باطن ارضها أو عليها.. وما تركته فيها ولها الاجيال السابقة، ومستوى استعداد شعبها للصبر في الملمات والمحن، ومستوى اعداد واستعداد الناس فيها، بوجه عام، يتقدمهم الرجال، للتضحية الخ.. ولكن اساس الثروة عمل في كل الاحوال.. وهي الان أكبر، سواء على اساس ما تحوزه الدول أو يحوزه الافراد.. والعمل ايضا مقياس مهم لمستوى صلة الانسان المؤمن بالحياة، وبرب السماوات والارض، لأن الله سبحانه خلق الحياة للانسان، وخلقه ليعمل فيها.. لذلك فإن من يعبد الله، ولا يعمل كما ينبغي او يجب، لا بد ان يكون خلل ما في عبادته، ولا نعرف الى اي حد يقبلها الله أو ينقصها.. خاصة اذا قارنا المؤمن بناقص الايمان.. فكلما قلت قيمة عمله.. أي قل عمله زمنا وقيمة.. عن الحال المقارن به مما ذكرنا، كان معنى ذلك ان ناقص الايمان اكثر فائدة للحياة من المؤمن ان لم يخربها.. ولأن المؤمن لا يقبل ان يكون اقل قيمة من ناقص الايمان، فعليه ان يتفوق على هذا الاخير، ليس في الاخلاق العامة، وتواصله مع رب السماوات والارض فحسب، وانما في العمل ايضا.. وان الاشارات التي اراد بها الله سبحانه ان يعمل الناس، وان يتقن كل عمله، كثيرة، بل لعل صلاة الفجر، وهي الصلاة المبكرة في يومها.. تعني ان الله اراد للمؤمن ان يكون يقظا عند كل فجر، ولأن صلاة الفجر اقصر صلاة، فمعنى ذلك انه، سبحانه، اراد يقظة الانسان للعمل اساسا، وجعل صلاة الفجر في هذا التوقيت سببا ودافعا ليكون المؤمن مستيقظا.
                * ولكن. ألا يأكل الناس، ويلبسون افضل، مع ان عددهم الان أكبر؟ فما الذي ازداد؟ هل ازداد الذهب أم العمل..؟
                ان وصف الافضل وصف نسبي.. فعندما نقول ان فلانا يأكل ويلبس الان أفضل من جده.. فإن قياس الافضل ينبغي ان لا يقاس لفلان مع جده، وإنما مع الناس في مرحلته.. وهكذا كان حال جده يقاس من قبل.. وعلى هذا، فإن كثيرا من الناس يعيشون الان من دون حد الفقر على مستوى العالم ككل، ومن هذه النسبة أناس من الدول التي تعتبر، أو يعتبرها أهلها أو المسؤولون فيها، من أكثر الدول ثروة.. مثلما كان أناس يعيشون في السابق، على قياس معيار الفقر والغنى انذاك، من دون حد الفقر.. ومع ذلك اقول جوابا على تساؤلك: نعم، إن الثروة، ومنها الذهب في الدول وفي حوزة الناس، أكبر الان مما كانت في الماضي، وإن العمل الان أكبر حجما وأرقى نوعا.
                * ولكن، كيف اصبح الذهب أكبر حجما الان؟
                انه اكبر حجما، لأن عدد العاملين على استخراجه صار أكبر بالقياس النسبي.. وان وسائل استخراجه الان افضل طبقا لقياسات التطور، فكلما تحسنت وسائل استخراجه، وصارت فعالة بصورة افضل، ازداد حجم المستخرج منه. يضاف الى ذلك ان عامل التراكم بسبب الزمن الطويل جعل حجمه أكبر، ولعل المرأة قد لعبت دورا اساسيا في تراكمه لدى الافراد والعوائل، ولولاها لكنا أمام حجم أقل بكثير مما عليه الذهب الان لدى العوائل لأن الرجال لا يكنزون أو يستخدمون الذهب، في الغالب.
                * الا يعني هذا، يا والدي، ان اثم المرأة أكبر من اثم الرجل، وفق مفهوم ديانتك، لأنها تكتنز الذهب، ولا يكتنزه الرجل؟
                احسنت يا ولدي.. نعم ان من يكتنزه ولا يزكيه يقع عليه اثم كبير. عاد حسقيل ليقول:
                * ولكن ما أدرانا، قد تكون حصة الفرد من الذهب الان اقل، لو وزعنا الموجود منه بالتساوي على الكل، ذلك لأن عدد الناس الان أكبر، بينما كان عددهم في الزمن القديم اقل.. وكان الذهب ظاهرا في أماكنه أيضا، وفي مجاري الأنهار، أو حيثما كان هنالك مسيل لماء المطر في أرضه في قديم الزمان مما يسهل تصفيته وجمعه..
                أجاب إبراهيم على تساؤل حسقيل:
                لا أستطيع أن أقول لك شيئا قاطعا في هذا، لأنني لا أمتلك أرقاما.. ولا أريد هنا أن اعتمد على الاستنتاج في الإجابة.

                تعليق

                google Ad Widget

                تقليص
                يعمل...