الجزء الخامس والعشرون
اتخذت مكاني بين زميلاتي جسدا بلا روح وعينين لا تبصران وأعماقا تنزف بلا حساب ... وبين ضحكاتهن وقرقعة فناجينهن ورائحة القهوة العابقة بالهيل رحلت بعيداً بعيداً حيث جروح جسدي التي تأبي الاندمال وتعيش حية نابضة بالألم والتحدي، تتجدد كل يوم وتسطر صفحات من اليأس والهوان بين يدي من يدعي رجولة لا يملكها ويملك قسوة لا يدعيها... تراءت لي ليلة الأمس بكل تفاصيلها المخزية البغيضة بدءاً من تناوله أقراصا زرقاء اللون ثم ارتدائه ثياب حيوان بري متوحش حتى ارتداده على عقبيه يجرجر أذيال الهزيمة، تلوح علائم الانكسار والخيبة على وجهه الدميم...عرق غزير، أنفاس كريهة تعبرني ببطء متعمد، ثقل يجثم على صدري، الخشونة تطارد أجزائي فلا أشعر لها وقعا ولا أملك لها دفعاً. أحاول الهرب... أغمض عيني وأشغل تفكيري ثم أحسب الثواني والدقائق لتمر الأزمة ونجتاز ممرات لا تسمح بالعبور... بيد أن النهاية تتكرر وكأن العجز إذا الركيزة الوحيدة لعلاقتنا وكل ما عداه من قبض الريح... أوهام وأحلام نسجناها ببراعة لتدير شبكة الوهم عقولنا فلا نرى مواضع أقدامنا... انزوى جانبا يخلع ثياب الحيوانية ليعود إنساناً من جديد وأي إنسان!! إنه ليس سوى كومة قذرة من الشيخوخة والعجز والانكسار... انحنيت اجمع بقاياي وألملم ما تبقي من ذاتي الكسيرة وكرامتي المبعثرة، حتى فوجئت بصفعة تدوى في فضاء الحجرة البارد... ثم انهالت الصفعات والركلات تطول ما عجزت الشيخوخة عن الوصول إليه... صرخ بصوت جريح:
- ماذا تريدين، تكلمي... ماذا تريدين؟ سأعطيك كل شئ مجوهرات وأموالاً... ماذا تريدين؟
وماذا فعلت؟ حقا ماذا فعلت ليسألني ذاك السؤال... لقد أتيته مسلوبة الإرادة ذليلة خاضعة ليفعل بي ما يشاء... لم أرفض شيئا ولم أعارض أو أمنع... بل على العكس كنت له مورداً وماء عذباً ملقي تحت أقدامه ليغترف منه كيفما شاء، لعبة خالية من الروح والحركة... تمثالاً من خزف أو معدن ثمين أو ذهبي حتى يضعه حيث يريد ويكسره إن شاء أن يكسره ويلقيه في البحر إن شاء أن يلقيه لكن العيب يكمن داخله... عجزت بقايا الرجولة الكامنة في أعماقه أن تتواءم مع جسد مسجى بلا روح كجثة باردة تبحث عن كفن يضمها، أو ربما هي الشيخوخة التي عجزت إلا أن تطلق عنانها أمام الشباب الحي والأمل المتجدد، وربما هو عجز المالك عن احتواء البضاعة الجديدة بعد أن اعتاد على البضائع القديمة وتعامل معها طويلاً...
صرخ بصوت أكثر حدة:
- ردي... أجيبي على سؤالي... ماذا تريدين؟
الحب... هل أقول له أريد الحب... أريد من أهفو له نفسا وقلبا لتتداعى أمامه حصون جسدي وترفع قلاعي راياتها البيضاء... أريد من أري نفسي بين عينيه ويراني روحا قبل أن أكون جسداً يري السعادة في وجودي وأري الدنيا ملك كفيه، من ينبض قلبي له حبا وشوقاً... من تهتف أعماقي باسمه ليل نهار... من يستعبد تفكيري ويأسر روحي ويملك قلبي بكل زواياه وأركانه... من يحيلني كتلة نار بنظرة أو بكلمة وأغدو قطعة ثلج لا تذوب حينما يلمسني غيره... من أشرقت دنياي لوجوده وازدان عالمي بحضوره وعدت منه وإليه...
صرخ كثور جريح...
ماذا تريدين؟؟
الطلاق... هل هو أملي ومناي، هل فيه راحتي وسعادتي، هل أستعيد بعده حبي وحريتي أم أنه بعيد المنال كبعد شطحات أحلامي عن واقعي التعيس... الطلاق في عائلتنا مرفوض فهي ترفض النعمة وتثور على المجتمع وتتحدي التقاليد والعادات وتقف أمام الجميع كريشة في مهب الريح... ومن تطلق على الرغم منها فهي وضيعة منحرفة بلا أخلاق أو ضمير... وهو؟ هل سيطلقني؟ هل يتنازل بسهولة عمن بذل في سبيلها الغالي والنفيس ولم يجن منها سوى الذل والانكسار... هل يعيدها كما هي ليكتشف عجزه رجل اخر ويمضي بقية حياته سخرية الاخرين وشماتتهم... كلا إنه لن يطلقني ولو كان الثمن هو حياته... فأنا حصيلة عجزه وفشله وشرخ رجولته، لذلك فلن يفرط بي أبداً، ولن يفرقنا سوى الموت!
جذبني من شعري بكل قواه حتى خلت خصلاتي تتساقط بين أصابعه... صرخت من شدة الألم فضرب رأسي الحائط مرات ومرات حتى رأى الدماء تسيل على وجهي بغزارة فركلني وخرج...
تحسست موضع الألم بينما قالت إحدى الزميلات ضاحكة:
- من منكما الغالب ومن هو المغلوب؟
احمر وجهي بشدة لتقول الأخرى مشفقة:
- إن وفاء كثيرة المزاح والسخرية فلا يعرف أحد جدها من هزلها فاعذريها...
ثم تابعت وهي تنظر إلى رباط رأسي بحذر:
- هل سقطت على رأسك... أم؟
قاطعتها مضطربة:
- لقد اصطدمت بدولاب المطبخ عفواً...
كانت هذه إجابتي النموذجية التي سهرت طويلاً لأطلقها في وجه من يسألني عن ضمادتي، وقد كنت أعرف أنني سأسأل، ولن يدعني أحد في حالي، أعانق جروحي الكثيرة بلا أمل في الشفاء... نحن نعيش في الشرق حيث لا حوائط وأقبية... الأسرار مشاعة للكل والحرية الشخصية جماعية والمرأة مهشمة ذليلة والإنسان يعيش في بيت من زجاج حيث باستطاعة كل البشر أن يقذفوه بالحجارة...
- تفضلي هذه حلوى جديدة اخترعتها وأسميتها باسمي... اسمها " فياجرا ليلى" لا تنسي... احفظي هذا الاسم جيداً وأذكريه لي كلما أعددتها لزوجك...
تابعت بضحكة ذات مغزى...
- سيعجبه طعمها بالتأكيد...
دسست القطعة في فمي ليسري مذاقها الحلو وينعش خلاياي، إنها حلوى مصنوعة من التمر وبعض المكسرات المعروفة، ليس فيها أي جديد سوى اسمها المبتكر والذي يشكل جزءا لا يتجزأ من ليالي البيضاء التي يحيطها ضباب أزرق بلون السماء... ابتدأت الأحاديث النسوية تأخذ منحي اخر وتعالت الضحكات الخافتة والكلمات المغلقة، كرهت أن أبدو كتلميذة بليدة تخطو أولى خطواتها على سلم الحياة، ابتلعت خجلي وترددي واحمرار وجهي المعبر، لأغادر في أول فرصة متحججة بدرس إضافي سأعطيه لطالباتي... ويتوه عقلي بين عيون طالباتي المحدقة في وجهي كأسراب من الخفافيش تطاردني حيثما كنت وحللت... ويبدأ القلب ينفض أوجاعه في سراديب الظلام... يتراءى لي وجه حبيب يحجبني عن العالم ويسدل أستارا من النسيان على واقعي الكئيب... حينما كدنا نقترن بزواج أبدي همس لي ضاحكا:
- هل ستبقين تحبينني طوال العمر يا أحلام... أم سينتهي حبك شيئا فشيئا مع قدوم الأطفال وضجيجهم...؟
قلت بخجل:
- لن أنجب لك سوى دستة أطفال فقط لا غير...
ويضيع صدى ضحكاتنا في غياهب الصمت والألم لينبع صوت جديد يمزق شراييني بأنني لن أحمل ولن ألد أبدا وسأخرج من الدنيا بقصة حب لم تتم، بيد أنها ملأت حياتي طولا وعرضا وأكسبتها مذاقا أقتات منه سنوات طويلة مترعة بالجفاف والتصحر...
- أبله... كلمة منفي هل هي مذكر أم مؤنث؟
انتشلت نفسي بصعوبة من براثن تفكيري... مشيت إلى السبورة ببطء لأكتب الكلمة وإعرابها، ثم أطلب منهم تدوينها في دفاترهم رغم أنها ليست في المنهج. منفي... نعم أنا أقبع في المنفي، زنزانة انفرادية تفصلني عن أهلي وأشقائي وأحبائي، يزورني السجان كل مساء لأذوق على يديه ألوانا من الإذلال والمهانة والسقوط البشع... أشعر بأنني أتردي في هاوية بلا نهاية... انحدار بشع لإنسانيتي وكرامتي وأنوثتي، يقودني نحو الهلاك... لابد من فعل ما، لا بد من ثورة، لا بد من تحرر وإلا انتهيت ذليلة راكعة بلا مبدأ أو هوية. حضرتني مقولة لأحد الكتاب " أن النمل بقي نملا طوال حياته لأنه لم يسع لتغيير ذلك، لم يثر ولم يرفض فاستمر نملاً إلى الأبد". وأنا لن أبقي نملة صغيرة تداس تحت الأقدام... إنني إنسانة أملك كل مقومات الحرية والشجاعة ولن أقف صامتة هكذا إلى الأبد، لا بد أن أفعل شيئا وسأفعل....
- أبله أحلام... متى سيكون الاختبار؟
تدافعت الأصوات الصغيرة إلى أذني لتزيح جبال الهموم التي أصمت أذني عن سماع أي صوت... نظرت لمن أمامي مباشرة... طفلة جميلة لم تتجاوز العاشرة من العمر...
- أبله... كل المعلمات قررن أن يكون أن تكون اختباراتنا غدا... نرجو أن ت}جلي اختبار القواعد قليلا...
سألتها بابتسامة انتزعتها من بحار الكابة التي تعج بها نفسي:
- لماذا يا صغيرتي؟
أطرقت قائلة بأسي:
- زوجة أبي لا تسمح لي بالمذاكرة سوى ساعتين فقط باليوم... وبقية الوقت أساعدها في أعمال المنزل...
خفق قلبي وأنا أقول:
- وأمك...؟
غشاء رقيق من الدموع غلف عينيها وهي تهمس:
- أمي ماتت... ماتت منذ زمن طويل... وقد كنت أحبها كثيراً.
ابتلعت دموعي التي تحشرجت داخلي، وقد فجرت مأساتها شظايا من الأحزان تؤلمني بلا حساب...
قلت بصوت عال أنكرته:
- سنؤجل الاختبار إلى يوم السبت القادم...
هللت الصغيرات فرحاً لتعكس بريقا من اللؤلؤ في عيني اليتيمة الصغيرة ثم تركض لتحضنني هامسة:
- شكرا يا أبله... أنا أحبك كثيراً...
رفعت ذقنها بيدي لأمسح لؤلؤتين من الدمع الحقيقي انحدرتا على خديها وقلت لها برقة:
- أنت ذكية وجميلة وستنجحين دائما بإذن الله...
عادت إلى مقعدها ترقبها عيناي... رأيت فيها صورتي القديمة، أحلام الطفلة اليتيمة المهيضة الجناح بلا أم أو أب أو سند، ريشة تتقاذفها الرياح في كل اتجاه وتمزقها أعاصير الشتاء وزمهريره... ما زلت في أولى خطوات العذاب صغيرتي، مازالت قدمك الطرية تلامس أول سلالم الموت البطيء... ستضربين وتهانين ثم تحملين جروحك داخلك وتسيرين داخل متاهات الحياة وتضيعك الدروب التي ضيعتني وتمزقك الأنياب التي مزقتني، ثم ستكبرين وتحبين، ينمو الحب داخلك قليلا لتزهر نفسك كثيرا ثم تتخاطفك المخالب والخناجر وتمزق قلبك إلى مئة قطعة وقطعة لتنسيك حبك ومن خفق له قلبك... ولا تنسيه... لتعاود الأقدام الشريرة تفتيت قلبك تحت ثقل خطواتها... ولا تنسيه... فيشعلون الدنيا حطبا ونيراناً ليحرقوا كل شئ ويتفحم جسدك عدا قلبك فلا تنسيه... فيكتشفوا متأخرين أن حيه قد استوطن ذاتك وجرى جريان الدم في العروق وغلف الشرايين والأوردة ولا مناص من انتزاعه إلا بانتزاع الروح ذاتها وهذا ما لا يريدونه... ستكبرين حبيبتي وسيكبر معك العذاب، فكأنما توأمان لا تفترقان وصنوان لا بد أن يجمعهما طريق واحد... ثم تلطمك الحياة اللطمة إثر اللطمة. تمتطين فجيعتك وترحلين في دروب الأسى حتى يدفنوك مع رجل، أي رجل، ليس مهما اسمه أو رسمه... المهم أنه ليس من اخترته وأحببته بكل كيانك فغدا محرما عليك حرمة المحارم والأشقاء ولن تلقيه سوى في الجنة...
ستبكين كثيرا وكثيرا ولن تكون لؤلؤتاك اللتان أهدرتهما توا سوى أول الغيث وليس نهايته...
- أحلام.... لقد انتهت حصتك منذ دقائق...
انتفضت بعنف وأنا أواجه زميلتي الجديدة عائشة... حييتها بارتباك ثم سرت على عجل دون أن أنظر إلى الماضي من خلفي... إلى أحلام الصغيرة البائسة التي عادت من الماضي لتذكرني بشوط كبير قطعته من الماسي ولم يعد في مقدوري تحمل المزيد... طريق طويل موحل وقذر لن يخلو من الحفر الصغيرة والسقطات رغم ما صادفته في الواحة الأخيرة من امال وأحلام داعبتني حد التصديق إلا أن عورة الطريق أعادتني مرة أخرى لتصطدم أحلامي بصخرة الواقع المرير فتتحطم ببشاعة وقسوة أقسى من قدرة أبي على تحطيمي وأبشع من تعمد زوجي إذلالي... وأفجع من تخلي أخوتي عني لدنياهم الخاصة...
سألتني إحدى زميلاتي باسمة:
- ما رأيك؟ هل أعجبتك المدرسة الجديدة... أعني مدرستنا؟
أحسست بهسيس الاحتراق داخلي وأنا أجيبها:
- نعم...
وللقصة بقية :
________________________________
الجزء السادس والعشرون
يا أحبائي
لماذا ترحلون
بين أدغال الليالي القاتمة
أحرق الشوق فؤادي والظنون
أيقظت كل الجراح النائمة
" بشير عباد"
كفراشة... كحمام... كيمام
غادرت عش تلك العاتية... في هدوء في سلام في وئام
امتطت صمتي ذيول الفاجعة
انتهيت... تاه عقلي... هل ألام... ذوب روحي في سماء سابعة
" سعد"
ورقة صفراء ممتقعة تحاكي شحوبي المائل أمامي في المراة... عينان سوداوان فارغتان، وجه جامد بملامح باردة كئيبة كوجوه الموتى... شفتان ذابلتان بلا روح أو حياة... الورقة مثبتة بإحكام في بطاقة دعوة... دعوة زواج سعد على ابنة عمه... هل تمزقت... تداعيت تبعثرت أجزائي في كل مكان؟ لكن مالي أنا وزواجه؟ فليتزوج أربعاً لو شاء، فقد تحدد مستقبلي وانتهيت ولن يجمعني وإياه طريق واحد إلى الأبد فلماذا تشتعل حرائقي ويمزقني الألم بنصله الحاد لأمضغ في فمي مرارات الدنيا بأسرها وأستعيد ذكريات ذهبت ولن تعود... ذكريات حبي وشجني وقطاري الذي يمضي مسرعاً ملتهماًً أحلامي وامالي موارياً قلبي التراب... تقوض عالمي الداخلي كزجاج هش، ولم يبق سوى هيكل يتحرك بلا شعور أو تطلعات... سعد حبي الوحيد... حب الماضي والمستقبل، فرحتي اليتيمة وومضة الضوء الوحيدة في حياتي القاتمة... لماذا أصبح لي هاجساً ملحاً؟ لماذا عاد حبة بقوة كاسحة مدمرة وكأنني لم أحبه أبداً سوى الان...
استسلمت للطوفان داخلي ليندفع محطما كل شراييني وتفيض عيناي بالدمع الغزير...
همست وضحي مشفقة:
- أتبكين يا أبله أحلام؟
وكأنها سكبت نقطاً على نيران جراحي فاندلعت ألسنة اللهب حارقة موجعة تئن هل من مزيد؟ احتضنتها ببؤس العالم كله وبيأسي وانهياري أزلزل دهوراً من الصمت على صدرها المشفق الحاني ونبضات قلبها تضخ الحياة في أوصالي المرتجفة...
قالت وكأنها تحكي لي قصة:
- لقد تعذب سعد... تعذب كثيراً وبقي طريح الفراش أسابيع طويلة لا يري خلالها سواك ولا يهذي سوى باسمك... اغتالته نوبات الحمي التي لا ترحم ولم يجد الطب له شفاء... حتى الشيوخ ومحترفو طب الأعشاب قرأنا في أعينهم ظلال النهاية ولم نملك له سوى الدعاء ثم دخل في نوبة نوم متواصل لمدة أسبوع كامل كان لا يفيق خلالها إلا لماما... وفي نهاية الأسبوع نهض فجأة من فراشه بين ذهولنا وفجيعتنا من أن تكون الصحوة الأخيرة قبل الموت...
بيد أن قلقنا تلاشى حينما رمقناه يصلي... يصلي صلاة طويلة، يبكي بحرقة وهو يدعو ثم يسجد مرة أخري... ومضى ليلة بطولها على هذه الحال... وفي الغداة استحال إلى كائن اخر ليس هو سعد المريض ولا الشاعر المرهف قبل أزمته بل رجل لا نعرفه... هادئ الطباع متزن تملؤه السكينة والثقة... عرف وقتها أن سعد أخي الذي كان قد انتهي، سحقته الأحزان، وقتله اليأس، وتوارى في رمال الاستحالة، وأن رجلاً جديداً بطباع جديدة قد سكن جلده وتقمص روحه وسرق دوره... سعد الجديد إنسان ساخر يحتقر الحياة بماديتها وجمودها ويشكك في كل القيم النبيلة على وجه الأرض... إنه لا يعرف سوى أن الدنيا قد سرقت منه روحه فليسرق هو من الدنيا روحها... أذهلني قبل أيام حينما عرض عليه والدي الزواج من ابنة عمي... وافق سعد بسرعة دون مماطلة أو نقاش كعادته دائماً... ومضى يستعد لشيء لا أدري كنهه لكنني أخافه. حينما ناقشته بضرورة إبلاغك بالأمر استلهمني قليلا ليعطيك هذه الورقة ملصقة ببطاقة الدعوة، فعرفت أنك مازلت تحتلين أعماقه وتتنفسين خلاياه...
همست لها وصدري يعلو ويهبط:
- أريد أن أراه...
انتزعت نفسها من بين أحضاني هاتفة بجزع:
- هل... أقصد... يمكن... أن يحدث... هذا؟
ابتلعت دموعي الكثيرة وأنا أقول بثقة:
- وضحى... يجب أن أرى " سعد" وبأسرع وقت ممكن...
اقتحمت بدرية جلستنا المنفردة وهتفت بصوت جزع:
- أحلام... لم تبكين؟
ثم قالت لوضحي مؤنبة:
- ألم أقل لك يا وضحى أنه من الأفضل ألا تلتقيها... لقد تحملت الصعاب من أجل لقائكما في بيتي، لكنني لم أتوقع أن يحدث هذا... هيا يا أحلام أزيلي اثار الدموع وأعيدي تجميل وجهك فزوجك ينتظرك في الخارج...
مضيت معه منقبضة النفس مكلومة الفؤاد بيد أن أحلاماً غافية نبضت في قلبي وأملا ساطعا كسهم مضيء ومض في طريقي المعتم بأنني سائرة إلى لقاء سعد شئت هذا أم أبيت فهو قدري الذي أتطلع إليه...
كان لقاؤنا قويا عاصفا محطما لكل السدود والعراقيل والحواجز... لقاء اختصر الزمان بلحظة واعتصر المكان بخطوة وألغى كل المسافات... التقت عينان ظامئتان، عينان محترقتان، عينان أضناهما البعد واللوعة والاشتياق... فتفجرت البراكين من حلولنا لتطلق حممها وشظاياها النارية تحت أقدامنا لنتوغل بخطوط زلزالية فنسقط في فوهة البركان... مرت شهور زواجي سريعة أمام ناظري لأنسي أنني زوجة موصومة بعار العبودية الأبدي، ونسي سعد أنه عريس في ليلة زفافه... جرفنا تيار الشوق حتى الثمالة لأفيق في اللحظة الأخيرة:
- كلا... إنني عذراء!!
التهمتني نظراته المتسائلة وملامحه التي استفاقت تواً على كابوس خيالي لا يصدق... طفقت أروي له كل شيء وكأنني أزيح أكواما من الجبال على عاتقي. قال بصدق وحبات من العرق تلتصق بجبينه:
- أحلام... أريد أن أتزوجك...
نظرت في عينيه وأنا ألهث:
- وزوجي... وعروستك التي تنتظرك...
اغرورقت عيناه بالدموع ليقول بثقة:
- لا مستقبل لك مع زوجك... يجب أن تنفصلي عنه بأسرع وقت ممكن أفهمت وبأية طريقة ممكنة، وأنا لن أتزوج... لن أعقد القران الليلة ولن أدخل على عروسي وليقولوا جن سعد أو فقد عقله فلا يهمني في الدنيا سواك...
رافقتني وضحى حتى باب قاعة الزفاف الرئيسية لأغادر المكان مع زوجي وكياني كله يرتجف... ترى ماذا سيحدث الليلة؟
لقد كان لقاؤنا من الصعوبة بمكان بحيث لم يكن هناك أكثر أماناً من قاعة الزفاف المحجوزة لسعد... وفي ليلة زفافه بالتحديد... قبل موعد الزفاف بساعتين على وجه الدقة... أقنعت زوجي بأنه زفاف صديقتي المقربة. رفض، وإمعانا في إذلالي أغلق باب حجرتي من الخارج لأبقي محبوسة فترات طويلة. انتظرت حتى عاد... ألقيت بنفسي تحت قدميه باكية وأنا أعده أنه هذه اخر مرة أطلب منه هذا الطلب، وأنني لن أخرج من البيت مطلقاً... حدجني بنظرة متفحصة ثم وافق على مضض بشروط غير مكتوبة ولا تقرأ سوى في الأعين الصدئة المغلفة بغبار الشيخوخة... أرهبني الفارق الشايع بين حنان سعد وعاطفته المتدفقة المشبوبة وبين الجيف المتعفنة التي تمزقني ليلا ونهارا بمخالبها النتنة وتلون أمسياتي بلون الحداد، أذهلني الفارق بين الحياة والموت، الحيوية المتقدة سحراً وجمالاً... والعجز المتفتق عن برودة وخواء، الاحتواء الرقيق المباغت وعنف الانكسار وفقدان الرجولة... تساءلت بكل مرارة الدنيا كيف أعود إلى الصقيع البائت بعد أن عرفت نفسي حرائق العشق ومتعه البوح... كيف أستسلم وأنسي كعادتي... كيف أنظر إلى السقف أرقب عش العنكبوت الذي اكتمل وأعدو خلف الثواني البطيئة لتسير بسرعة:
سألني بصوت أجش بارد:
- لماذا هاتفتني بسرعة لتعودي باكرة... الزفاف لم يبدأ بعد؟
قلت بمرارة:
- ربما لن يحدث زفاف أبداً... صديقتي قد تغير رأيها...
ضحك بصوت محشرج مختلط بالسعال ليبدو فمه الخالي من الأسنان ثم قال:
- ربما هي خائفة من ليلة الزفاف...
استمر يضحك وكأنه يسخر مني ومن جمودي وصمتي الغبي... نز جسدي عرقاً غزيراً حتى كدت أغرق... يا إلهي ألهذا الحد يستضعفني وينكر وجودي ويسخر من عجزه وصمتي، انعدام رجولته وفقدان أهليتي، ظلمه وذهولي، وغربان سوداء تنعق فوق عشنا المتهالك اذنة بالخراب... ويحي، خاضعة ذليلة، ويحي خائفة متهاوية لا أملك جرأة سجين ثار على سبحانه ، ولا أتمسك بذرة كرامة تعينني على الهروب... أبي هل هو كلمة السر أم كلمة الظلم والأنانية والجبروت والقسوة؟ ماذا يفيدني أبي عندما أموت مظلومة مسحوقة كنخلة سامقة يقطع عنها إمدادات المياه... لن يقلدني نيشان الشجاعة أو وسام البطولة المستحقة بل سيركلني بعيداً عنه في قبر بالكاد يحتويني ثم يعود إلى بيته متنهداً في راحة " لقد سترنا البنت" هكذا أنا في عقيدته شئت أم أبيت... ولادتي عار وزواجي خلاص وموتي سترة، أقفز على الحدود الموجعة وأستخلص حياة رفضتني في البدء وكرهتني في المنتهي... أعيش في مثلث خطر يهون أمامه مثلث برمودا الشهير وينحني له إجلالا وهيبة، ليس هناك حدود متعارف عليها للممنوع والمباح... كل شئ ممنوع ولا شئ مباح... أشعر بأيد خفية تتسلل إلى عنقي لتخنقني... أجاهد لأتنفس... أجاهد لأستجلب نسمة هواء لرئتي المنهكتين، وتبدت لي الحرية فجأة غامضة مغرية... لماذا لا أعود حرة أبية من جديد؟ لم لا أتخلص من هذا القيد الذي يخنقني ويسرق الهواء من محيطي؟ لم لا أهرب بعيداً حتى لو ذهبت إلي الجحيم... لماذا أسلم نفسي وشبابي وحياتي مطية لمن لا يرحم ولا يقدر ولا يفهم؟ وحتى متى... حتى أصحو ذات يوم وقد فقدت كل شئ وأعود بيدين خاويتين ونفس ممزقة وجسد متهاو ولن يرحمني أحد...
كلا... دبت بي قوة مفاجئة وعاصفة من الرفض لم أعرفها قبلا تدوي داخل أعماقي ورنين كلماته الأخيرة يبتر أي موجة استسلام تخضع لها نفسي من جديد. سأكون كما كنت دائماً حرة أبية ولن أستجدي تراثي من أحد فجداتي كن دوما نساء عظيمات لا يخضعن لأحد ولا يسمحن لكائن من كان أن يسيطر أمجاده المقدسة على حساب ضعفهن واحتياجهن... سواك يا أمي... واعذريني يا أماه، فضعفك كان يسري في شراييني ورئتي كما أورثته أخواتي من قبلي رجالاً أم فتيات، أورثتنا ربما رغما عنك... الذل والاستجداء ونكس بيتنا من زجاج يرانا الناس ونحن لا نراهم لذلك نعمل لهم حساباً في كل ما نقوم به ضاربين باحتياجاتنا عرض الحائط... لقد تركتنا يا أمي ضعافا كقش تذروه الرياح.... أدوات... لعب في يد أبي يحركها كيفما يشاء وأينما حطت مصالحه ونزواته. تركتنا نتخبط دون أن نعرف خيوط اللعبة... دون أن نعرف أن لنا حقوقا كما أن علينا واجبات وأن لنا لسانا يجب أن نستخدمه وأيديا لم تخلق عبثاً... وأقداماً لن تعرف سوى الهروب... سامحك الله يا أمي وغفر لك فما أورثتنا إياه لم يكن سوى إرثك الذي حصلت عليه من أجدادك وسنورثه نحن أيضا لأحفادنا إذا لم أقم بثورة ضد سجاني وجلادي...
احتوتنا حجرتنا الكئيبة وأجوائي تضطرم بنيران صاخبة تعكس لهيبها على وجهي الصامت... اقترب مني ملاطفا لم أر منه سوى حيوان متوحش بأنياب بارزة ومخالب حادة توشك تمزيقي... طفحت رائحته الكريهة لتزيد من لهيب النار التي تفوح داخلي وتوشك على الانفجار... انقلبت أمعائي وأنا أسعر بغثيان شديد... دفعته بيدي وأنا أهتف لا... برزت عيناه من محجريهما وكأنني قد كفرت بالله وأعلنت إلحادي.... صرخ قائلاً بصوت جريح:
- هل جننت يا امرأة؟
أعاد الكرة فدفعته بشدة أكبر وبحقد أعظم وبكراهية أشد... أشهر سلاح الضعيف سلاحه الذي لا يملك غيره... انهال علي بالصفعات والركلات والضرب المبرح... وغلياني يزداد والحرارة اللافحة في جوفي تطلق حممها حتى نسيت نفسي وخرج المارد الحبيس داخلي ليعلن عن انتهاء فترة صمته... دفعته بكلتا يديّ... ازداد جنونه وهو يرى تمردي وجسارتي، فأمعن في ضربي، ولم أشعر إلا ويداي تمتدان إلى عصاه الغليظة الملقاة على الأرض وأهوي بها بكل قواي على رأسه الفارغة فأحطهما بضربة واحدة... ليتهاوى إلى جواري فاقداً الوعي... وفاقداً الحياة كذلك...
- ماذا تريدين، تكلمي... ماذا تريدين؟ سأعطيك كل شئ مجوهرات وأموالاً... ماذا تريدين؟
وماذا فعلت؟ حقا ماذا فعلت ليسألني ذاك السؤال... لقد أتيته مسلوبة الإرادة ذليلة خاضعة ليفعل بي ما يشاء... لم أرفض شيئا ولم أعارض أو أمنع... بل على العكس كنت له مورداً وماء عذباً ملقي تحت أقدامه ليغترف منه كيفما شاء، لعبة خالية من الروح والحركة... تمثالاً من خزف أو معدن ثمين أو ذهبي حتى يضعه حيث يريد ويكسره إن شاء أن يكسره ويلقيه في البحر إن شاء أن يلقيه لكن العيب يكمن داخله... عجزت بقايا الرجولة الكامنة في أعماقه أن تتواءم مع جسد مسجى بلا روح كجثة باردة تبحث عن كفن يضمها، أو ربما هي الشيخوخة التي عجزت إلا أن تطلق عنانها أمام الشباب الحي والأمل المتجدد، وربما هو عجز المالك عن احتواء البضاعة الجديدة بعد أن اعتاد على البضائع القديمة وتعامل معها طويلاً...
صرخ بصوت أكثر حدة:
- ردي... أجيبي على سؤالي... ماذا تريدين؟
الحب... هل أقول له أريد الحب... أريد من أهفو له نفسا وقلبا لتتداعى أمامه حصون جسدي وترفع قلاعي راياتها البيضاء... أريد من أري نفسي بين عينيه ويراني روحا قبل أن أكون جسداً يري السعادة في وجودي وأري الدنيا ملك كفيه، من ينبض قلبي له حبا وشوقاً... من تهتف أعماقي باسمه ليل نهار... من يستعبد تفكيري ويأسر روحي ويملك قلبي بكل زواياه وأركانه... من يحيلني كتلة نار بنظرة أو بكلمة وأغدو قطعة ثلج لا تذوب حينما يلمسني غيره... من أشرقت دنياي لوجوده وازدان عالمي بحضوره وعدت منه وإليه...
صرخ كثور جريح...
ماذا تريدين؟؟
الطلاق... هل هو أملي ومناي، هل فيه راحتي وسعادتي، هل أستعيد بعده حبي وحريتي أم أنه بعيد المنال كبعد شطحات أحلامي عن واقعي التعيس... الطلاق في عائلتنا مرفوض فهي ترفض النعمة وتثور على المجتمع وتتحدي التقاليد والعادات وتقف أمام الجميع كريشة في مهب الريح... ومن تطلق على الرغم منها فهي وضيعة منحرفة بلا أخلاق أو ضمير... وهو؟ هل سيطلقني؟ هل يتنازل بسهولة عمن بذل في سبيلها الغالي والنفيس ولم يجن منها سوى الذل والانكسار... هل يعيدها كما هي ليكتشف عجزه رجل اخر ويمضي بقية حياته سخرية الاخرين وشماتتهم... كلا إنه لن يطلقني ولو كان الثمن هو حياته... فأنا حصيلة عجزه وفشله وشرخ رجولته، لذلك فلن يفرط بي أبداً، ولن يفرقنا سوى الموت!
جذبني من شعري بكل قواه حتى خلت خصلاتي تتساقط بين أصابعه... صرخت من شدة الألم فضرب رأسي الحائط مرات ومرات حتى رأى الدماء تسيل على وجهي بغزارة فركلني وخرج...
تحسست موضع الألم بينما قالت إحدى الزميلات ضاحكة:
- من منكما الغالب ومن هو المغلوب؟
احمر وجهي بشدة لتقول الأخرى مشفقة:
- إن وفاء كثيرة المزاح والسخرية فلا يعرف أحد جدها من هزلها فاعذريها...
ثم تابعت وهي تنظر إلى رباط رأسي بحذر:
- هل سقطت على رأسك... أم؟
قاطعتها مضطربة:
- لقد اصطدمت بدولاب المطبخ عفواً...
كانت هذه إجابتي النموذجية التي سهرت طويلاً لأطلقها في وجه من يسألني عن ضمادتي، وقد كنت أعرف أنني سأسأل، ولن يدعني أحد في حالي، أعانق جروحي الكثيرة بلا أمل في الشفاء... نحن نعيش في الشرق حيث لا حوائط وأقبية... الأسرار مشاعة للكل والحرية الشخصية جماعية والمرأة مهشمة ذليلة والإنسان يعيش في بيت من زجاج حيث باستطاعة كل البشر أن يقذفوه بالحجارة...
- تفضلي هذه حلوى جديدة اخترعتها وأسميتها باسمي... اسمها " فياجرا ليلى" لا تنسي... احفظي هذا الاسم جيداً وأذكريه لي كلما أعددتها لزوجك...
تابعت بضحكة ذات مغزى...
- سيعجبه طعمها بالتأكيد...
دسست القطعة في فمي ليسري مذاقها الحلو وينعش خلاياي، إنها حلوى مصنوعة من التمر وبعض المكسرات المعروفة، ليس فيها أي جديد سوى اسمها المبتكر والذي يشكل جزءا لا يتجزأ من ليالي البيضاء التي يحيطها ضباب أزرق بلون السماء... ابتدأت الأحاديث النسوية تأخذ منحي اخر وتعالت الضحكات الخافتة والكلمات المغلقة، كرهت أن أبدو كتلميذة بليدة تخطو أولى خطواتها على سلم الحياة، ابتلعت خجلي وترددي واحمرار وجهي المعبر، لأغادر في أول فرصة متحججة بدرس إضافي سأعطيه لطالباتي... ويتوه عقلي بين عيون طالباتي المحدقة في وجهي كأسراب من الخفافيش تطاردني حيثما كنت وحللت... ويبدأ القلب ينفض أوجاعه في سراديب الظلام... يتراءى لي وجه حبيب يحجبني عن العالم ويسدل أستارا من النسيان على واقعي الكئيب... حينما كدنا نقترن بزواج أبدي همس لي ضاحكا:
- هل ستبقين تحبينني طوال العمر يا أحلام... أم سينتهي حبك شيئا فشيئا مع قدوم الأطفال وضجيجهم...؟
قلت بخجل:
- لن أنجب لك سوى دستة أطفال فقط لا غير...
ويضيع صدى ضحكاتنا في غياهب الصمت والألم لينبع صوت جديد يمزق شراييني بأنني لن أحمل ولن ألد أبدا وسأخرج من الدنيا بقصة حب لم تتم، بيد أنها ملأت حياتي طولا وعرضا وأكسبتها مذاقا أقتات منه سنوات طويلة مترعة بالجفاف والتصحر...
- أبله... كلمة منفي هل هي مذكر أم مؤنث؟
انتشلت نفسي بصعوبة من براثن تفكيري... مشيت إلى السبورة ببطء لأكتب الكلمة وإعرابها، ثم أطلب منهم تدوينها في دفاترهم رغم أنها ليست في المنهج. منفي... نعم أنا أقبع في المنفي، زنزانة انفرادية تفصلني عن أهلي وأشقائي وأحبائي، يزورني السجان كل مساء لأذوق على يديه ألوانا من الإذلال والمهانة والسقوط البشع... أشعر بأنني أتردي في هاوية بلا نهاية... انحدار بشع لإنسانيتي وكرامتي وأنوثتي، يقودني نحو الهلاك... لابد من فعل ما، لا بد من ثورة، لا بد من تحرر وإلا انتهيت ذليلة راكعة بلا مبدأ أو هوية. حضرتني مقولة لأحد الكتاب " أن النمل بقي نملا طوال حياته لأنه لم يسع لتغيير ذلك، لم يثر ولم يرفض فاستمر نملاً إلى الأبد". وأنا لن أبقي نملة صغيرة تداس تحت الأقدام... إنني إنسانة أملك كل مقومات الحرية والشجاعة ولن أقف صامتة هكذا إلى الأبد، لا بد أن أفعل شيئا وسأفعل....
- أبله أحلام... متى سيكون الاختبار؟
تدافعت الأصوات الصغيرة إلى أذني لتزيح جبال الهموم التي أصمت أذني عن سماع أي صوت... نظرت لمن أمامي مباشرة... طفلة جميلة لم تتجاوز العاشرة من العمر...
- أبله... كل المعلمات قررن أن يكون أن تكون اختباراتنا غدا... نرجو أن ت}جلي اختبار القواعد قليلا...
سألتها بابتسامة انتزعتها من بحار الكابة التي تعج بها نفسي:
- لماذا يا صغيرتي؟
أطرقت قائلة بأسي:
- زوجة أبي لا تسمح لي بالمذاكرة سوى ساعتين فقط باليوم... وبقية الوقت أساعدها في أعمال المنزل...
خفق قلبي وأنا أقول:
- وأمك...؟
غشاء رقيق من الدموع غلف عينيها وهي تهمس:
- أمي ماتت... ماتت منذ زمن طويل... وقد كنت أحبها كثيراً.
ابتلعت دموعي التي تحشرجت داخلي، وقد فجرت مأساتها شظايا من الأحزان تؤلمني بلا حساب...
قلت بصوت عال أنكرته:
- سنؤجل الاختبار إلى يوم السبت القادم...
هللت الصغيرات فرحاً لتعكس بريقا من اللؤلؤ في عيني اليتيمة الصغيرة ثم تركض لتحضنني هامسة:
- شكرا يا أبله... أنا أحبك كثيراً...
رفعت ذقنها بيدي لأمسح لؤلؤتين من الدمع الحقيقي انحدرتا على خديها وقلت لها برقة:
- أنت ذكية وجميلة وستنجحين دائما بإذن الله...
عادت إلى مقعدها ترقبها عيناي... رأيت فيها صورتي القديمة، أحلام الطفلة اليتيمة المهيضة الجناح بلا أم أو أب أو سند، ريشة تتقاذفها الرياح في كل اتجاه وتمزقها أعاصير الشتاء وزمهريره... ما زلت في أولى خطوات العذاب صغيرتي، مازالت قدمك الطرية تلامس أول سلالم الموت البطيء... ستضربين وتهانين ثم تحملين جروحك داخلك وتسيرين داخل متاهات الحياة وتضيعك الدروب التي ضيعتني وتمزقك الأنياب التي مزقتني، ثم ستكبرين وتحبين، ينمو الحب داخلك قليلا لتزهر نفسك كثيرا ثم تتخاطفك المخالب والخناجر وتمزق قلبك إلى مئة قطعة وقطعة لتنسيك حبك ومن خفق له قلبك... ولا تنسيه... لتعاود الأقدام الشريرة تفتيت قلبك تحت ثقل خطواتها... ولا تنسيه... فيشعلون الدنيا حطبا ونيراناً ليحرقوا كل شئ ويتفحم جسدك عدا قلبك فلا تنسيه... فيكتشفوا متأخرين أن حيه قد استوطن ذاتك وجرى جريان الدم في العروق وغلف الشرايين والأوردة ولا مناص من انتزاعه إلا بانتزاع الروح ذاتها وهذا ما لا يريدونه... ستكبرين حبيبتي وسيكبر معك العذاب، فكأنما توأمان لا تفترقان وصنوان لا بد أن يجمعهما طريق واحد... ثم تلطمك الحياة اللطمة إثر اللطمة. تمتطين فجيعتك وترحلين في دروب الأسى حتى يدفنوك مع رجل، أي رجل، ليس مهما اسمه أو رسمه... المهم أنه ليس من اخترته وأحببته بكل كيانك فغدا محرما عليك حرمة المحارم والأشقاء ولن تلقيه سوى في الجنة...
ستبكين كثيرا وكثيرا ولن تكون لؤلؤتاك اللتان أهدرتهما توا سوى أول الغيث وليس نهايته...
- أحلام.... لقد انتهت حصتك منذ دقائق...
انتفضت بعنف وأنا أواجه زميلتي الجديدة عائشة... حييتها بارتباك ثم سرت على عجل دون أن أنظر إلى الماضي من خلفي... إلى أحلام الصغيرة البائسة التي عادت من الماضي لتذكرني بشوط كبير قطعته من الماسي ولم يعد في مقدوري تحمل المزيد... طريق طويل موحل وقذر لن يخلو من الحفر الصغيرة والسقطات رغم ما صادفته في الواحة الأخيرة من امال وأحلام داعبتني حد التصديق إلا أن عورة الطريق أعادتني مرة أخرى لتصطدم أحلامي بصخرة الواقع المرير فتتحطم ببشاعة وقسوة أقسى من قدرة أبي على تحطيمي وأبشع من تعمد زوجي إذلالي... وأفجع من تخلي أخوتي عني لدنياهم الخاصة...
سألتني إحدى زميلاتي باسمة:
- ما رأيك؟ هل أعجبتك المدرسة الجديدة... أعني مدرستنا؟
أحسست بهسيس الاحتراق داخلي وأنا أجيبها:
- نعم...
وللقصة بقية :
________________________________
الجزء السادس والعشرون
يا أحبائي
لماذا ترحلون
بين أدغال الليالي القاتمة
أحرق الشوق فؤادي والظنون
أيقظت كل الجراح النائمة
" بشير عباد"
كفراشة... كحمام... كيمام
غادرت عش تلك العاتية... في هدوء في سلام في وئام
امتطت صمتي ذيول الفاجعة
انتهيت... تاه عقلي... هل ألام... ذوب روحي في سماء سابعة
" سعد"
ورقة صفراء ممتقعة تحاكي شحوبي المائل أمامي في المراة... عينان سوداوان فارغتان، وجه جامد بملامح باردة كئيبة كوجوه الموتى... شفتان ذابلتان بلا روح أو حياة... الورقة مثبتة بإحكام في بطاقة دعوة... دعوة زواج سعد على ابنة عمه... هل تمزقت... تداعيت تبعثرت أجزائي في كل مكان؟ لكن مالي أنا وزواجه؟ فليتزوج أربعاً لو شاء، فقد تحدد مستقبلي وانتهيت ولن يجمعني وإياه طريق واحد إلى الأبد فلماذا تشتعل حرائقي ويمزقني الألم بنصله الحاد لأمضغ في فمي مرارات الدنيا بأسرها وأستعيد ذكريات ذهبت ولن تعود... ذكريات حبي وشجني وقطاري الذي يمضي مسرعاً ملتهماًً أحلامي وامالي موارياً قلبي التراب... تقوض عالمي الداخلي كزجاج هش، ولم يبق سوى هيكل يتحرك بلا شعور أو تطلعات... سعد حبي الوحيد... حب الماضي والمستقبل، فرحتي اليتيمة وومضة الضوء الوحيدة في حياتي القاتمة... لماذا أصبح لي هاجساً ملحاً؟ لماذا عاد حبة بقوة كاسحة مدمرة وكأنني لم أحبه أبداً سوى الان...
استسلمت للطوفان داخلي ليندفع محطما كل شراييني وتفيض عيناي بالدمع الغزير...
همست وضحي مشفقة:
- أتبكين يا أبله أحلام؟
وكأنها سكبت نقطاً على نيران جراحي فاندلعت ألسنة اللهب حارقة موجعة تئن هل من مزيد؟ احتضنتها ببؤس العالم كله وبيأسي وانهياري أزلزل دهوراً من الصمت على صدرها المشفق الحاني ونبضات قلبها تضخ الحياة في أوصالي المرتجفة...
قالت وكأنها تحكي لي قصة:
- لقد تعذب سعد... تعذب كثيراً وبقي طريح الفراش أسابيع طويلة لا يري خلالها سواك ولا يهذي سوى باسمك... اغتالته نوبات الحمي التي لا ترحم ولم يجد الطب له شفاء... حتى الشيوخ ومحترفو طب الأعشاب قرأنا في أعينهم ظلال النهاية ولم نملك له سوى الدعاء ثم دخل في نوبة نوم متواصل لمدة أسبوع كامل كان لا يفيق خلالها إلا لماما... وفي نهاية الأسبوع نهض فجأة من فراشه بين ذهولنا وفجيعتنا من أن تكون الصحوة الأخيرة قبل الموت...
بيد أن قلقنا تلاشى حينما رمقناه يصلي... يصلي صلاة طويلة، يبكي بحرقة وهو يدعو ثم يسجد مرة أخري... ومضى ليلة بطولها على هذه الحال... وفي الغداة استحال إلى كائن اخر ليس هو سعد المريض ولا الشاعر المرهف قبل أزمته بل رجل لا نعرفه... هادئ الطباع متزن تملؤه السكينة والثقة... عرف وقتها أن سعد أخي الذي كان قد انتهي، سحقته الأحزان، وقتله اليأس، وتوارى في رمال الاستحالة، وأن رجلاً جديداً بطباع جديدة قد سكن جلده وتقمص روحه وسرق دوره... سعد الجديد إنسان ساخر يحتقر الحياة بماديتها وجمودها ويشكك في كل القيم النبيلة على وجه الأرض... إنه لا يعرف سوى أن الدنيا قد سرقت منه روحه فليسرق هو من الدنيا روحها... أذهلني قبل أيام حينما عرض عليه والدي الزواج من ابنة عمي... وافق سعد بسرعة دون مماطلة أو نقاش كعادته دائماً... ومضى يستعد لشيء لا أدري كنهه لكنني أخافه. حينما ناقشته بضرورة إبلاغك بالأمر استلهمني قليلا ليعطيك هذه الورقة ملصقة ببطاقة الدعوة، فعرفت أنك مازلت تحتلين أعماقه وتتنفسين خلاياه...
همست لها وصدري يعلو ويهبط:
- أريد أن أراه...
انتزعت نفسها من بين أحضاني هاتفة بجزع:
- هل... أقصد... يمكن... أن يحدث... هذا؟
ابتلعت دموعي الكثيرة وأنا أقول بثقة:
- وضحى... يجب أن أرى " سعد" وبأسرع وقت ممكن...
اقتحمت بدرية جلستنا المنفردة وهتفت بصوت جزع:
- أحلام... لم تبكين؟
ثم قالت لوضحي مؤنبة:
- ألم أقل لك يا وضحى أنه من الأفضل ألا تلتقيها... لقد تحملت الصعاب من أجل لقائكما في بيتي، لكنني لم أتوقع أن يحدث هذا... هيا يا أحلام أزيلي اثار الدموع وأعيدي تجميل وجهك فزوجك ينتظرك في الخارج...
مضيت معه منقبضة النفس مكلومة الفؤاد بيد أن أحلاماً غافية نبضت في قلبي وأملا ساطعا كسهم مضيء ومض في طريقي المعتم بأنني سائرة إلى لقاء سعد شئت هذا أم أبيت فهو قدري الذي أتطلع إليه...
كان لقاؤنا قويا عاصفا محطما لكل السدود والعراقيل والحواجز... لقاء اختصر الزمان بلحظة واعتصر المكان بخطوة وألغى كل المسافات... التقت عينان ظامئتان، عينان محترقتان، عينان أضناهما البعد واللوعة والاشتياق... فتفجرت البراكين من حلولنا لتطلق حممها وشظاياها النارية تحت أقدامنا لنتوغل بخطوط زلزالية فنسقط في فوهة البركان... مرت شهور زواجي سريعة أمام ناظري لأنسي أنني زوجة موصومة بعار العبودية الأبدي، ونسي سعد أنه عريس في ليلة زفافه... جرفنا تيار الشوق حتى الثمالة لأفيق في اللحظة الأخيرة:
- كلا... إنني عذراء!!
التهمتني نظراته المتسائلة وملامحه التي استفاقت تواً على كابوس خيالي لا يصدق... طفقت أروي له كل شيء وكأنني أزيح أكواما من الجبال على عاتقي. قال بصدق وحبات من العرق تلتصق بجبينه:
- أحلام... أريد أن أتزوجك...
نظرت في عينيه وأنا ألهث:
- وزوجي... وعروستك التي تنتظرك...
اغرورقت عيناه بالدموع ليقول بثقة:
- لا مستقبل لك مع زوجك... يجب أن تنفصلي عنه بأسرع وقت ممكن أفهمت وبأية طريقة ممكنة، وأنا لن أتزوج... لن أعقد القران الليلة ولن أدخل على عروسي وليقولوا جن سعد أو فقد عقله فلا يهمني في الدنيا سواك...
رافقتني وضحى حتى باب قاعة الزفاف الرئيسية لأغادر المكان مع زوجي وكياني كله يرتجف... ترى ماذا سيحدث الليلة؟
لقد كان لقاؤنا من الصعوبة بمكان بحيث لم يكن هناك أكثر أماناً من قاعة الزفاف المحجوزة لسعد... وفي ليلة زفافه بالتحديد... قبل موعد الزفاف بساعتين على وجه الدقة... أقنعت زوجي بأنه زفاف صديقتي المقربة. رفض، وإمعانا في إذلالي أغلق باب حجرتي من الخارج لأبقي محبوسة فترات طويلة. انتظرت حتى عاد... ألقيت بنفسي تحت قدميه باكية وأنا أعده أنه هذه اخر مرة أطلب منه هذا الطلب، وأنني لن أخرج من البيت مطلقاً... حدجني بنظرة متفحصة ثم وافق على مضض بشروط غير مكتوبة ولا تقرأ سوى في الأعين الصدئة المغلفة بغبار الشيخوخة... أرهبني الفارق الشايع بين حنان سعد وعاطفته المتدفقة المشبوبة وبين الجيف المتعفنة التي تمزقني ليلا ونهارا بمخالبها النتنة وتلون أمسياتي بلون الحداد، أذهلني الفارق بين الحياة والموت، الحيوية المتقدة سحراً وجمالاً... والعجز المتفتق عن برودة وخواء، الاحتواء الرقيق المباغت وعنف الانكسار وفقدان الرجولة... تساءلت بكل مرارة الدنيا كيف أعود إلى الصقيع البائت بعد أن عرفت نفسي حرائق العشق ومتعه البوح... كيف أستسلم وأنسي كعادتي... كيف أنظر إلى السقف أرقب عش العنكبوت الذي اكتمل وأعدو خلف الثواني البطيئة لتسير بسرعة:
سألني بصوت أجش بارد:
- لماذا هاتفتني بسرعة لتعودي باكرة... الزفاف لم يبدأ بعد؟
قلت بمرارة:
- ربما لن يحدث زفاف أبداً... صديقتي قد تغير رأيها...
ضحك بصوت محشرج مختلط بالسعال ليبدو فمه الخالي من الأسنان ثم قال:
- ربما هي خائفة من ليلة الزفاف...
استمر يضحك وكأنه يسخر مني ومن جمودي وصمتي الغبي... نز جسدي عرقاً غزيراً حتى كدت أغرق... يا إلهي ألهذا الحد يستضعفني وينكر وجودي ويسخر من عجزه وصمتي، انعدام رجولته وفقدان أهليتي، ظلمه وذهولي، وغربان سوداء تنعق فوق عشنا المتهالك اذنة بالخراب... ويحي، خاضعة ذليلة، ويحي خائفة متهاوية لا أملك جرأة سجين ثار على سبحانه ، ولا أتمسك بذرة كرامة تعينني على الهروب... أبي هل هو كلمة السر أم كلمة الظلم والأنانية والجبروت والقسوة؟ ماذا يفيدني أبي عندما أموت مظلومة مسحوقة كنخلة سامقة يقطع عنها إمدادات المياه... لن يقلدني نيشان الشجاعة أو وسام البطولة المستحقة بل سيركلني بعيداً عنه في قبر بالكاد يحتويني ثم يعود إلى بيته متنهداً في راحة " لقد سترنا البنت" هكذا أنا في عقيدته شئت أم أبيت... ولادتي عار وزواجي خلاص وموتي سترة، أقفز على الحدود الموجعة وأستخلص حياة رفضتني في البدء وكرهتني في المنتهي... أعيش في مثلث خطر يهون أمامه مثلث برمودا الشهير وينحني له إجلالا وهيبة، ليس هناك حدود متعارف عليها للممنوع والمباح... كل شئ ممنوع ولا شئ مباح... أشعر بأيد خفية تتسلل إلى عنقي لتخنقني... أجاهد لأتنفس... أجاهد لأستجلب نسمة هواء لرئتي المنهكتين، وتبدت لي الحرية فجأة غامضة مغرية... لماذا لا أعود حرة أبية من جديد؟ لم لا أتخلص من هذا القيد الذي يخنقني ويسرق الهواء من محيطي؟ لم لا أهرب بعيداً حتى لو ذهبت إلي الجحيم... لماذا أسلم نفسي وشبابي وحياتي مطية لمن لا يرحم ولا يقدر ولا يفهم؟ وحتى متى... حتى أصحو ذات يوم وقد فقدت كل شئ وأعود بيدين خاويتين ونفس ممزقة وجسد متهاو ولن يرحمني أحد...
كلا... دبت بي قوة مفاجئة وعاصفة من الرفض لم أعرفها قبلا تدوي داخل أعماقي ورنين كلماته الأخيرة يبتر أي موجة استسلام تخضع لها نفسي من جديد. سأكون كما كنت دائماً حرة أبية ولن أستجدي تراثي من أحد فجداتي كن دوما نساء عظيمات لا يخضعن لأحد ولا يسمحن لكائن من كان أن يسيطر أمجاده المقدسة على حساب ضعفهن واحتياجهن... سواك يا أمي... واعذريني يا أماه، فضعفك كان يسري في شراييني ورئتي كما أورثته أخواتي من قبلي رجالاً أم فتيات، أورثتنا ربما رغما عنك... الذل والاستجداء ونكس بيتنا من زجاج يرانا الناس ونحن لا نراهم لذلك نعمل لهم حساباً في كل ما نقوم به ضاربين باحتياجاتنا عرض الحائط... لقد تركتنا يا أمي ضعافا كقش تذروه الرياح.... أدوات... لعب في يد أبي يحركها كيفما يشاء وأينما حطت مصالحه ونزواته. تركتنا نتخبط دون أن نعرف خيوط اللعبة... دون أن نعرف أن لنا حقوقا كما أن علينا واجبات وأن لنا لسانا يجب أن نستخدمه وأيديا لم تخلق عبثاً... وأقداماً لن تعرف سوى الهروب... سامحك الله يا أمي وغفر لك فما أورثتنا إياه لم يكن سوى إرثك الذي حصلت عليه من أجدادك وسنورثه نحن أيضا لأحفادنا إذا لم أقم بثورة ضد سجاني وجلادي...
احتوتنا حجرتنا الكئيبة وأجوائي تضطرم بنيران صاخبة تعكس لهيبها على وجهي الصامت... اقترب مني ملاطفا لم أر منه سوى حيوان متوحش بأنياب بارزة ومخالب حادة توشك تمزيقي... طفحت رائحته الكريهة لتزيد من لهيب النار التي تفوح داخلي وتوشك على الانفجار... انقلبت أمعائي وأنا أسعر بغثيان شديد... دفعته بيدي وأنا أهتف لا... برزت عيناه من محجريهما وكأنني قد كفرت بالله وأعلنت إلحادي.... صرخ قائلاً بصوت جريح:
- هل جننت يا امرأة؟
أعاد الكرة فدفعته بشدة أكبر وبحقد أعظم وبكراهية أشد... أشهر سلاح الضعيف سلاحه الذي لا يملك غيره... انهال علي بالصفعات والركلات والضرب المبرح... وغلياني يزداد والحرارة اللافحة في جوفي تطلق حممها حتى نسيت نفسي وخرج المارد الحبيس داخلي ليعلن عن انتهاء فترة صمته... دفعته بكلتا يديّ... ازداد جنونه وهو يرى تمردي وجسارتي، فأمعن في ضربي، ولم أشعر إلا ويداي تمتدان إلى عصاه الغليظة الملقاة على الأرض وأهوي بها بكل قواي على رأسه الفارغة فأحطهما بضربة واحدة... ليتهاوى إلى جواري فاقداً الوعي... وفاقداً الحياة كذلك...
وللقصة بقية:
_____________________________________________
الجزء السابع والعشرون
_____________________________________________
الجزء السابع والعشرون
تغيم الحياة في نظري من جديد وتبدو الأشياء من حولي ضبابية سرمدية لا شيء حقيقي أو واضح، ارتدت الوجوه من حولي أقنعة كابية ترابية كالحة، فلم أعد أميز الوجوه... يقترب وجه أمي رويداً رويداً حتى ليكاد يلتصق بوجهي، أبتعد قليلاً، لأتمكن من رؤيتها بوضوح... تخرج كلمتها المأثورة بسرعة واندفاع وكأنها تبصقها في وجهي " لا حول ولا قوة إلا بالله" أرفع يدي... أتحسس وجهي لأمسح البصقة فلا أجد سوى دموعي... دموع غزيرة كاسحة لا أدري أمن نهر اندفعت! أو من محيط غادر هادر انسكبت، شلال عاصف الأمواج يتلاعب بروحي المنكمشة فغدوت كقارب أضاع مرساه فتاه في لجج لا يملك له دفعاً... أمي... أماه لا تغادريني ولا تحتقريني... ولمن تتركينني؟
ألأب أضاعني ولم يصن الأمانة، أم لأخوة نسوني في متاهات حياتهم ووضعوني في خانة المهملات... أم لزوج ظالم قاس قتلني مئات المرات قبل أن أقتله!! ثم كيف تحتقرين من هي أفضل منك... نعم... أنا أفضل منك بكثير يا أمي، أنت صمت وصمت وصمت... اغتالتك المهانة والمذلة وسبقت اغتيال أبي لك. أهانك وسحقك وظلمك... ضربك حتى أدماك، ظلمك، نهبك، أبكاك، ثم ابتدأ السلب... سلبك نقودك ومجوهراتك ثم سلبك حقوقك وأحلامك وانتهي بأن سلبك عقلك حتى جننت على يديه، اتخذك مطية له والة لتفريخ أولاده ثم خادمة تحت أقدامهم جميعاً... ولضعفك وقوته، وهشاشتك وعظمته، ومهانتك وجبروته قبلت أكثر من ذلك... بدأ بعجرفة لا يعرفها سوى الجبابرة يسحق عظامك يسحق عظامك بقدميه الغليظتين ويجرف ما تبقي من كرامتك في بالوعة ليس لها بداية أو نهاية... تزوج عليك ولم تحركي ساكناً وكأنه لم يوجه طعنه غادرة لأنوثتك السلبية وجرحاً نافذاً لقدراتك كامرأة وأم وزوجة... لم تثوري ثورة النساء ولم تفعلي ما تفعله النساء الواثقات من أنفسهن وأزواجهن، ثورتك يا أمي كانت ضعيفة مثلك ورد فعلك كان واهياً كذاتك... ضعفك كان وقوداً لنار غضبي الذي ما يفتأ يزداد أواره يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، حتى انتقمت لكيلينا من أقدار لم نخترها وإنما فرضت علينا فرضاً وأجبرنا على أن نخوضها خانعين... لكنني كنت أشجع منك يا أمي يا أمي فلا تغضبي أو تبصقي علي... أماه إني بحاجة إلى مساندتك، إلى أحضانك الدافئة ولو من خلال الأثير...
- هل قتلت زوجك...؟
نعم ... نعم قتلته... قتلته مع سبق الإصرار والترصد ولو عاد إلى الحياة مرة أخرى سأقتله ولست نادمة على ذلك أبداً... لقد قتلته وقتلت الشر والأنانية والطمع معه... وقتلت أبي فيه... قتلت ذلك الرجل الذي لا يربطني به سوى رباط واه من الأبوة المزعومة... الرجل الذي ملأني أحقاداً على كل الرجال وطبع صورته في وجه كل رجل أعرفه واغتصب مني حريتي وسعادتي ومستقبلي... وحقي في أن أعيش كأية فتاة أخرى في مثل سني... قتلت فيه أباً مجرداً من كل معاني الأبوة، تفتحت عيناي على ظلمة وأنانيته، نشأت أجاهد بذرة الحقد التي زرعها بيديه داخل أعماقي، أقسر نفسي على حبه أو عدم كرهه على الأقل، أرهب نفسي بعقاب الله والنبذ من رحمته إذا استمرأت هذا الشعور... بيد أن البذرة تنمو وتترعرع وكأنني بكبتي لها قد دفعتها أكثر نحو النضوج والطغيان حتى لم يتبق في قلبي ذرة حب له ولا حتى شفقة...
- أجيبي... هل قتلت زوجك؟
تتصاعد الشهقات في أعماقي لتزدحم في حلقي، فلا أقوى على الكلام ولا البكاء... إن هي إلا نظرات هاوية خاوية تدور بلا معنى في فضاء لا أعرفه ولا يمت لي يوماً بصلة... صوت دافئ حبيب يخترقني:
- تكلمي يا أحلام ولا تخشي شيئاً أنا معك... هل قتلت زوجك حقاً؟؟
أهي بدرية من يتكلم... أهي أنت أيتها الحبيبة... وهل قتلت زوجك أنت أيضاً؟ أما كان من الواجب أن تقتليه أن تمزقيه بألف طعنة ثم تمثلي بجثته ليراها القاضي والجاني ويعرف كم كنت مظلومة وشهيدة...؟ ألم تكن لك جرأة كجرأتي أم أن عذابك لا يوازي عذابي، بلي يا بدرية... بلي لقد ذقت على يديه ألواناً شتى من العذاب وأسقاك المر قطرة قطرة حتى لم تعودي تعرفين هل أنت تعيشين في جحيم الاخرة أم أن هذا جزء لا ينفصل عنها... أتذكرين يا بدرية أم قد نسيت... إنني لم أنس أبدا ذلك اليوم السوداوي البغيض حينما كنت في زيارتك في لحظة مسروقة من عمر الزمن. كنا نأكل ونضحك أنا وأنت والأطفال حينما علا صوته يطلبك و يعلن قدومه ... اختبأ الأطفال على الفور، وكأن القادم هو وحش مفترس لا أبوهم رمز الحنان و التضحية ... اصفر وجهك على الفور وزاغت عيناك الطيبتان ثم نهضت من فورك لتلبية النداء ... سألك كسيد يسأل خادمة أين عشائي يا ... أسرعت تجيبين طلبه .. ارتجت جدران البيت لصوته أهذا فقط عشائي ؟؟ تأكلين أنت وأولادك و تستبقين لي الفضلات ؛ لم يعطك فرصة لأفهامه أنه على خطأ وأنك احتفظت له بنصيب الأسد وحرمت أولادك منه ... فسكب الطعام على وجهك وثيابك ثم بدأ ينهال عليك بالضرب والكلمات البذيئة القبيحة التي لا تخرج من فم إنسان سوي .. كنت تكتمين الامك وصراخك باستماتة لا أدري أكان من أجلي أم من أجل أولادك !! ثم جئت تتحاشين النظر في وجهي ... جئت ( وبأي حال عدت يا عيد) ... جئت ممزقة مشتتة في عينيك كرامة شعب مسلوب وعلى شفتيك فضيلة مرغت في الأوحال ... جروح هنا وهناك وجروح غائرة لا ترى ونفس صدئة حرى ... كنت جثة تتحرك على قدمين يملأك الخزي والخجل والعار... أصدقيني القول أخيّة... ألم تتمني لحظتها أن تقتليه، أن تواتيك الجرأة لتحطمي رأسه كما أحال كل شيء فيك إلى حطام ثم سجنك بين قضبان الترمل إلى أبد الابدين...
أجيبيني صادقة مخلصة ألم تقتليه فعلاً كما تمنيت قتله مراراً؟ أرجوك يا أحب الناس أن تغفري لي وتسامحيني ، فلم أقبل حياة الذل مثلك ولم أرغب أن تمتد مهانتي أعواماً طويلة، فليس في جعبتي المزيد من الصمت وليس لي طاقة على الصبر والتحمل...
- أحلام... أرجوك يا حبيبتي تكلمي فالتهمة سوف تثبت عليك إذا صمتّ...
وما يهمني يا بدرية إن ثبت أم لم تثبت... في كلتا الحالتين لن أخرج من سجني، ولن أختار الحياة التي أهفو إليها من كل قلبي، ولن أتزوج بمن اخترته بملء إرادتي...
القضبان تتشابه يا بدرية في كل مكان، منذ وعيت على الدنيا وأنا أشعر بالقضبان تحوطني من كل الجهات... قضبان سوداء وبيضاء ومن مختلف الألوان، لذلك فلن يكون هناك فرق كبير إذا احتوتني قضبان مرئية...
- تحول إلى مستشفي الأمراض يا أماه أخيراً... أهذه هي نهاية المطاف لكل امرأة واعية عاقلة رفضت الظلم وتصدت للمهانة والإذلال وقررت أن تختار مصيرها بنفسها بدلاً أن يختاره لها الاخرين... على طريقك يا أماه... ذات الطريق الذي اختاره لك أبي وسارت فيه شقيقتي ندى دون ذنب أو جريرة... ضباب يغشي عيني فلا أرى ماذا يحدث أمامي... وجوه كثيره تحيط بي، أفواه تفتح وتغلق... عيون لامعة وأخرى كابية خابية بلا لمعان، غضب وسخرية وألم تلون الوجوه تفصلها عني غلالة سحرية لا أري منها سوى ذاتي... أدوية كثيرة ابتلعتها، إبر طويلة تغرس في ذراعي على امتداد الليل والنهار، أقطاب كهربائية تشل عقلي وتدمر حواسي وتعطل قدراتي... ولا يصدر مني في النهاية سوى صراخ... صراخ متقطع كعواء الذئاب... ثم تنتابني إغماءه طويلة لا أفيق منها إلا على سراب...
شممت رائحة أحببتها ذات يوم... تلونت عيناي بألوان الفرح ورقصت الجراح على حافة الألم... وضحى... همست باسمها على الرغم مني... أعلنت بنفسي انتهاء الحداد فانطلق لساني باسم سعد...
- هل عرفتني... الحمد لله... شكرا لله... أحلام من أجلي ومن أجل سعد تكلمي... قولى بأنك لم تقتلي زوجك... ارفضي التهمة وأعلني احتجاجك، لا تصمتي زوجك هكذا فالصمت ليس في صالحك... لقد حاول سعد بشتي الطرق أن يكلمك لكن الدروب كلها مغلقة كما تعلمين يا أحلام من أجل سعد تكلمي...
سعد ... نعم إنه حبي الوحيد وذوب قلبي وواحتي التي أختبئ فيها من غدر البشر... لكنني لن أكون له يا وضحي ولن يكون لي... مهما فعلت وكافحت وسعيت لن يتحقق أملنا سوى في الجنة. وحتى الجنة لا أضمنها بعد أن قتلت زوجي... أتدرين لماذا قتلته يا وضحى ولأي سبب أنهيت حياته... ربما لأنه ظلمني كثيراً وأهانني مراراً وقتلني مرات ومرات، بيد أن السبب الحقيقي الكامن داخل نفسي هو أنني لن أتحرر منه سوى بالموت... فلا أمل الطلاق كان يداعبني ولا ضوء الفرار كان يلامس أفقي... فكان لا بد مما ليس له بد أن أعيش حرة أبية داخل نفسي حتى ولو كنت مقيدة فعلياً، أن أتنسم الحرية التي لم أذق لها طعماً، أن يحلم بي سعد كما شاءت له أحلامه أن تصورني، وحيدة بلا قيود، بلا رجل يستنزفني، أو أغلال زوج تقيدني... أن تكون فتاة أحلامه شجاعة انتصرت على الظلم والاستبداد والأنانية... إنني أثق به وأعرف تماما أنه لن يخلني حتى لو خذلني الناس جميعاً. أتدرين لماذا؟ لأن حينا ليس كأي حب اخر في الوجود، إنه حب مختلف امتزج بدمائنا وسرى فيها كسريان النار في الهشيم... لن أنساه يا وضحى أبد الدهر...
أحلام ... أستحلفك بالله أن تتكلمي... قولي أى شيء... أي شيء ولا تصمتي هكذا...
أعذريني يا وضحى، وليعذرني سعد وكل أحبائي، فما عادت لي لغة سوى الصمت، في حروفها أستكين وفي جملها الباردة المقتولة أجد ذاتي الهاربة... تبتعدين... تغادرين... تسير خطاك النائية على قلبي فتترك بصماتها الدامية عليه... ترتجف الورقة التي دسستها في يدي ربما هلعاً أو أملا أو استسلاما، أفردها بأصابع محترقة، تخترقني الكلمات الموجعة فأتأوه لألم الطعنات.
أبداً تحن إليكم الأرواح *** ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشاقكم ***وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تكلفوا *** ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم*** وكذا دماء البائحين تباح
تدمع عيناي ثم تغرق فتسيل الدموع بغزارة كاسحة وأنا أرقب طيف وضحى وهي تغادر عبر زجاج النافذة، فأشعر أن روحي تغادر معها ولم يبق إثرها سوى جسد ممزق مبتور بلا أية هوية... تسقط عيناي على شجرة قريبة أرقب عصفوراً يصارع جلاديه، يحاول أن يحمي عشه من عبث الصغار، يختبئ ثم يقفز... يحني رأسه، يحتمي بغصن ضخم...
تعود نظراتي خائبة كسيرة إلى ذاتي المضعضعة ونفسي المضعضعة بالأحزان وإلى تلك الورقة المبللة بالدموع... ويحي... سعد ألم تنس؟ ألم تسل؟ ألم تفقد الأمل؟ وحتى متى؟ وهل بعد جريمة القتل منفذ أو مخرج أو حتى حلم، إنها النهاية سا سعد فحاول أن تبتعد وتسهو وتجد لك ملاذاً اخر، وسكناً ليس محكوماً بعادات وتقاليد وقائمة طويلة من المحاذير والعقبات... حاول فأنت تستحق كل خير وكل سعادة...
- ويحك يا أحلام أهذه هي النهاية؟ تفضحيننا أمام الناس وتغمرين رؤوسنا في الأوحال...
أبي قادم أنت من واقع أم من خيال... اختلطت المرئيات بناظري فلم أميز الحقيقة من السراب... تأتيني صورته من وراء غلالة غليظاً قاسياً جافاً كما عهدته دائماً...
- أنت تستحقين القتل غسلاً للعار وانتقاماً لشرفنا المهدر على يديك...
عار... شرف... ألا زلت تتشدق بالمثاليات يا أبي وأنت أبعد الناس عنها، ألا زلت تتباهي بالقيم والمثل التي لا تعرفها؟ ألا زلت ترتدي رداء القديسين وتتمسح بمسوح الرهبان وتتخفى خلف قناع الملائكة، ألا تدرك أن الحقيقة ظهرت وأننا لم نعد كما كنا ولا عاد الزمان هو الزمان... أمي ليست هنا لتركع تحت قدميك ولا أخوتي سيرضخون لك بعد الان ولا حتى زوجتك ستحني رأسها لك... لقد حطمت أسطورتك بيدي، وخلعت النقاب عن وجهك المزيف، لتتبدى كل الحقائق القابعة خلفه وبأنه لا يصح إلا الصحيح والحقيقة لا بد ظاهرة في النهاية... لم أحنك يا أبي أو أمرغ شرفك في الأوحال. كل ما فعلته أنني كسرت أغلالي وعدت حرة من جديد... هل فهمت يا أبي؟
- لماذا فعلت هذا يا أحلام؟
دموع حقيقة على وجه أبي... دموع يعتصرها وجدانه قطرة قطرة لتحلق في سماء الوجع والأنين وتتحدر على وجه شاحب كئيب صافية متبلورة شفافة... حانت منى التفاته إلى حيث العصفور البائس على الشجرة وقد أصابته الضربات الطائشة ثم حملته يد قوية إلى قفصه الجديد جريحاً لا يقوى على الطيران... صرخت بكل ما أملك من قوة:
- أبي أنا لم أقتل زوجي... أنا قتلتك أنت...
وللقصة بقية
________________________________
وتصرمت خيوط العنكبوت
الجزء الأخير
أكان حلماً أم حقيقة أم هذياناً... أيا أحلام حبيبتي الصغيرة وزهرة الحزن الجميلة، كيف يثمر الحزن، لا أدري؟ بيد أنها بذرة تشبعت برطوبة اليأس وانطمرت تحت تربة التعاسة تغذيها دموع الندم واهات الحسرة لتنبثق عن زهرة معطرة برياح الأسى... ماذا يربطني بك أو ماذا يربطك بي أو ما الذي يربطنا معاً؟ هل هو حبل سري ممتد من الخيبات المتلاحقة أم هو مخاض واحد قذف بك كما قذف بي، لتتلقفنا أرض جرداء ويكون الصدى وقعاً لارتطامنا... ربما توارينا خلف الظنون معاً، أو حكنا من ظلام الليل وشاحاً يسعنا معا، أو دثرتنا خيمتنا المتوارثة عن الأجداد في خباء لا يرى منا سوى عينين خابيتين مدججتين بالوحشة والألم... معلقتين بسؤال لا إجابة له...
أختاه لست وحدك غزالة جانحة بين أسوار الألم، ففي موسم اصطياد الغزلان تنحنى كثير منها نحو أقدام جلاديها... وجلادنا شخص واحد يا أحلام رغم تعدد الأقنعة. فالوجوه تتلون... زوجي وزوجك لكن الأب واحد والمصاب واحد... أمتطي فجيعتي يوم ميلادك ينفتح فوك الصغير كلما ضممتك إلى صدري تبحثين عن نبع أمومة لا ينضب ويذبحني سؤال: هل تلك القطعة الحية تنبع من ذاتي؟ تنتمي إلىّ؟ تحمل دمي وأحشائي وذوب قلبي؟ حملتها داخلي شهوراً مرت دهوراً، ثم خرجت لتبقي شقيقتي. هل انتهكت براءتي يوماً وقطفت الثمرة قبل نضجها لتنتج حصاداً يانعاً يضم إلى الشجرة الأصل كفرع صغير... لم تعد التساؤلات تجدي لم تعد الدموع دواء للأحزان... أرقبك من طرف خفي... كنت متفردة كشعاع نور انبجس من ظلام. لا تمتين لنا بصلة، لا نملك جرأتك وتنبذين استكانتنا، يرهبنا إقدامك ولا تملكين خنوعنا، قوتك وضعفنا، أمالك ويأسنا... أحلام طويلة عريضة بحجم شفافية قلبك الملائكي عجزت أن تدرك ذبول الأزهار على بابنا وأفول الشمس وانتحار القمر. كنت نسيجا خاصا لا يماثلك أحد، نسيجك إبداع الخالق أودعتك فيها خلاصة حبي وذوب قلبي... كبرت وتعالت أحلامك حتى تعلقت بهدب السماء... امال لا تقر بالممنوع ولا تعترف بالعيب ولا تذعن للمستحيل. أناف عليها الحب وعباءته الفضفاضة فانطلقت تباري طواحين الهواء... اه يا حبيبتي... كنت أخشي عليك رغفم عذابي وكنت تعين عذابي... تدركين أية امرأة كنت وعلى أي شاطئ منبوذ ألقيت مرساتي بدون أن يسكنني حلم الباخرة القادمة من الشاطئ الاخر...
أتعرفين يا أحلام... لقد كان الأمل يلعب معي لعبة الاختباء.... يزورني وأنا منصرفة عنة، وما أن أقبل علية حتى يلملم ثيابه ويرحل... هكذا كان يداعبني وحينما سئمت المماطلة هجرته إلى غير رجعة، هجرته لعله يدركني ذات يوم قبل أن يفوت الأوان... وقد فات الأوان يا أحلام... فات الأوان لكل شئ. تبددت الأحلام على أرصفة الظلم والتعسف ولم يبق سوى الأوهام وجروح لن تندمل... أوصد الأبواب والنوافذ فتقتحمني أهازيج الكون، تجردني وتغويني، فأشرع ألف باب وباب أسكب على عتباتها دموعي العصية...
جرني موج إلى بحر البجع
كيف صفو الماء لم يبد اهتماما؟
جرني الموج
إلى صفو الوجع
فانسكبنا
في أناشيد الختام
وقد جرفتنا أمواج وأمواج وسقطنا في دوامة العاصفة... اه يا أحلام كيف لم تدركين سر الحياة رغم علمك وثقافتك... كيف لم تفهمي بأن الحياة أخذ وعطاء، ومقايضة للأبد... إذا أردت أن تسلم أو تنجو فأحن رأسك للعاصفة... أعرف أنه منطق الضعفاء البائسين، لكنه مفتاح الأمان فى عالم يخلو منه... كلتانا وقف ضد التيار بيد أن الفرق بيني وبينك أنني سقطت بإرادتي وطفقت أحنى رأسي حتى امتهنته... أنت سرت ضده بكل قواك وجاهدته حتى أسقطك هو... المرارة هى النتيجة الحتمية في النهاية، لكن الإرادة لا يملكها سوى الأقوياء... أنت ضعيفة يا أحلام واهية... مستكينة... من خدعك بوهم القوة؟ من أومض في ذاتك المضعضعة معني الأقدام؟ من ولغ في دماغك ليسرى فيها شبح التمرد؟ القوة هى ما يراه الاخرون بك لا ما ترينه في نفسك... وقد كنت ضعيفة ... ضعيفة حد الشفقة، شهدت تمزقاتنا بدموع صلدة وأيد موثقة مغلولة بالعجز والانكسار... حظر عليك أبي كل شئ وأقسرك على وأد حبك دون أن تحركي ساكناً... أجبرك على الزواج بمن لا يناسبك ولا ترغبينه، ولم تعترضي بل ألقيت رأسك بين جنبيك استسلاماً، وأحلام المتمردة تعربد داخلك... حتى طغي صوت الداخل على كل ما عداه فارتكبت أجبن عمل يقوم به أي أنسان... اخترت الأسهل والأسرع...
أرهبتك المواجهة... لم تستطيعي أن تعبري عن حقوقك وأحلامك ومتطلباتك كأية إنسانة شجاعة... بل غافلت العالم وغدرت ذاتك و أزحت العقبة من طريقك بأبشع الوسائل وأرخصها... أنت جبانة فزعة يا أحلام، أقولها من قلب مخلص محب ومن يقول لك غير هذا فهو كاذب....
الحرية يا أحلام هي وهم سكن عقولنا، ولا أساس له في أرض الواقع فالإنسان مكبل بالأغلال منذ ولادته... قيود حديدية تشده للأرض ومئات للسماء... الإنسان هو الذي يصنع الحرية ويجملها ويعيشها لكنها لا تصنع الإنسان ولا تحميه...
هذه يا أحلام الحرية التي بحثت عنها طويلاً، وضللت الطريق إليها لتنتهي من حيث بدأت... بل من حيث بدأنا جميعاً ولا خيار اخر...
" بنتم وبنا" صرخها " ابن زيدون" في وجه " ولادة" لأصرخ بوجهك " وضعت وضعنا" ضعت يا أحلام وضيعتنا من خلفك، فلم نجن حرية لهثنا وراءها طويلاً، ولم يعد في الأمكان العودة إلى ما كان... فبتنا معلقتين في الهواء نتوجس النزول إلى الأرض ونهاب التطلع للسماء، ولا نستطيع البقاء حيث نحن...
دموعي كطوفان هادر يجرف في طريقه كل شئ عدا غضبي منك، فهو عصي على الانقشاع، متشبث بتلابيب القلب قبل العقل وبقدر حبي لك كان غضبي منك... أفهم حبك وحيرتك وغذابك وضياعك، فهي قواسم مشتركة لنا معاً، لكنني عجزت عن فهم تهورك واندفاعك وتدمير ذاتك دون جدوى...
سامحك الله يا أختاه... وأسبغ علينا مزيداً من الصبر والجلد " ولا حول ولا قوة إلا بالله" .
أختاه لست وحدك غزالة جانحة بين أسوار الألم، ففي موسم اصطياد الغزلان تنحنى كثير منها نحو أقدام جلاديها... وجلادنا شخص واحد يا أحلام رغم تعدد الأقنعة. فالوجوه تتلون... زوجي وزوجك لكن الأب واحد والمصاب واحد... أمتطي فجيعتي يوم ميلادك ينفتح فوك الصغير كلما ضممتك إلى صدري تبحثين عن نبع أمومة لا ينضب ويذبحني سؤال: هل تلك القطعة الحية تنبع من ذاتي؟ تنتمي إلىّ؟ تحمل دمي وأحشائي وذوب قلبي؟ حملتها داخلي شهوراً مرت دهوراً، ثم خرجت لتبقي شقيقتي. هل انتهكت براءتي يوماً وقطفت الثمرة قبل نضجها لتنتج حصاداً يانعاً يضم إلى الشجرة الأصل كفرع صغير... لم تعد التساؤلات تجدي لم تعد الدموع دواء للأحزان... أرقبك من طرف خفي... كنت متفردة كشعاع نور انبجس من ظلام. لا تمتين لنا بصلة، لا نملك جرأتك وتنبذين استكانتنا، يرهبنا إقدامك ولا تملكين خنوعنا، قوتك وضعفنا، أمالك ويأسنا... أحلام طويلة عريضة بحجم شفافية قلبك الملائكي عجزت أن تدرك ذبول الأزهار على بابنا وأفول الشمس وانتحار القمر. كنت نسيجا خاصا لا يماثلك أحد، نسيجك إبداع الخالق أودعتك فيها خلاصة حبي وذوب قلبي... كبرت وتعالت أحلامك حتى تعلقت بهدب السماء... امال لا تقر بالممنوع ولا تعترف بالعيب ولا تذعن للمستحيل. أناف عليها الحب وعباءته الفضفاضة فانطلقت تباري طواحين الهواء... اه يا حبيبتي... كنت أخشي عليك رغفم عذابي وكنت تعين عذابي... تدركين أية امرأة كنت وعلى أي شاطئ منبوذ ألقيت مرساتي بدون أن يسكنني حلم الباخرة القادمة من الشاطئ الاخر...
أتعرفين يا أحلام... لقد كان الأمل يلعب معي لعبة الاختباء.... يزورني وأنا منصرفة عنة، وما أن أقبل علية حتى يلملم ثيابه ويرحل... هكذا كان يداعبني وحينما سئمت المماطلة هجرته إلى غير رجعة، هجرته لعله يدركني ذات يوم قبل أن يفوت الأوان... وقد فات الأوان يا أحلام... فات الأوان لكل شئ. تبددت الأحلام على أرصفة الظلم والتعسف ولم يبق سوى الأوهام وجروح لن تندمل... أوصد الأبواب والنوافذ فتقتحمني أهازيج الكون، تجردني وتغويني، فأشرع ألف باب وباب أسكب على عتباتها دموعي العصية...
جرني موج إلى بحر البجع
كيف صفو الماء لم يبد اهتماما؟
جرني الموج
إلى صفو الوجع
فانسكبنا
في أناشيد الختام
وقد جرفتنا أمواج وأمواج وسقطنا في دوامة العاصفة... اه يا أحلام كيف لم تدركين سر الحياة رغم علمك وثقافتك... كيف لم تفهمي بأن الحياة أخذ وعطاء، ومقايضة للأبد... إذا أردت أن تسلم أو تنجو فأحن رأسك للعاصفة... أعرف أنه منطق الضعفاء البائسين، لكنه مفتاح الأمان فى عالم يخلو منه... كلتانا وقف ضد التيار بيد أن الفرق بيني وبينك أنني سقطت بإرادتي وطفقت أحنى رأسي حتى امتهنته... أنت سرت ضده بكل قواك وجاهدته حتى أسقطك هو... المرارة هى النتيجة الحتمية في النهاية، لكن الإرادة لا يملكها سوى الأقوياء... أنت ضعيفة يا أحلام واهية... مستكينة... من خدعك بوهم القوة؟ من أومض في ذاتك المضعضعة معني الأقدام؟ من ولغ في دماغك ليسرى فيها شبح التمرد؟ القوة هى ما يراه الاخرون بك لا ما ترينه في نفسك... وقد كنت ضعيفة ... ضعيفة حد الشفقة، شهدت تمزقاتنا بدموع صلدة وأيد موثقة مغلولة بالعجز والانكسار... حظر عليك أبي كل شئ وأقسرك على وأد حبك دون أن تحركي ساكناً... أجبرك على الزواج بمن لا يناسبك ولا ترغبينه، ولم تعترضي بل ألقيت رأسك بين جنبيك استسلاماً، وأحلام المتمردة تعربد داخلك... حتى طغي صوت الداخل على كل ما عداه فارتكبت أجبن عمل يقوم به أي أنسان... اخترت الأسهل والأسرع...
أرهبتك المواجهة... لم تستطيعي أن تعبري عن حقوقك وأحلامك ومتطلباتك كأية إنسانة شجاعة... بل غافلت العالم وغدرت ذاتك و أزحت العقبة من طريقك بأبشع الوسائل وأرخصها... أنت جبانة فزعة يا أحلام، أقولها من قلب مخلص محب ومن يقول لك غير هذا فهو كاذب....
الحرية يا أحلام هي وهم سكن عقولنا، ولا أساس له في أرض الواقع فالإنسان مكبل بالأغلال منذ ولادته... قيود حديدية تشده للأرض ومئات للسماء... الإنسان هو الذي يصنع الحرية ويجملها ويعيشها لكنها لا تصنع الإنسان ولا تحميه...
هذه يا أحلام الحرية التي بحثت عنها طويلاً، وضللت الطريق إليها لتنتهي من حيث بدأت... بل من حيث بدأنا جميعاً ولا خيار اخر...
" بنتم وبنا" صرخها " ابن زيدون" في وجه " ولادة" لأصرخ بوجهك " وضعت وضعنا" ضعت يا أحلام وضيعتنا من خلفك، فلم نجن حرية لهثنا وراءها طويلاً، ولم يعد في الأمكان العودة إلى ما كان... فبتنا معلقتين في الهواء نتوجس النزول إلى الأرض ونهاب التطلع للسماء، ولا نستطيع البقاء حيث نحن...
دموعي كطوفان هادر يجرف في طريقه كل شئ عدا غضبي منك، فهو عصي على الانقشاع، متشبث بتلابيب القلب قبل العقل وبقدر حبي لك كان غضبي منك... أفهم حبك وحيرتك وغذابك وضياعك، فهي قواسم مشتركة لنا معاً، لكنني عجزت عن فهم تهورك واندفاعك وتدمير ذاتك دون جدوى...
سامحك الله يا أختاه... وأسبغ علينا مزيداً من الصبر والجلد " ولا حول ولا قوة إلا بالله" .
النهاية
تعليق