يسيران بثقة رغم العيون التي تلاحقهما. لا يباليان بنظرات الأطفال و هما يشتريان من سيارة الايسكريم. يعلمان أنهما-بالنسبة للاخرين- مسخٌ برأسين, ثمانية أطراف, و جذعٍ عريض يبدو مثل نواة التمر, لم يكتمل انفلاقها.
إنهما أحمد و محمد, التوأم السيامي. أو (محمدين) كما يناديهما أصدقائهما تندّرا. و هذه هي خلوتهم الأسبوعية, حيث يجلسان فيصفيّان قلوبهما من الكدر و الغضب الذي يحملانه تجاه بعضهما, تجاه الناس, و تجاه الشرايين و العظام التي تلصقهما ببعض, فتقيد حريتهما.
و قد انتخبا (وادي لبن) لخلوة هذا الأسبوع, و افترشا قريبا من جرف الوادي العميق سجادتهما, ثم تناوب لسانيهما على الحديث و لعق الايسكريم.
نظر أحمد إلى توأمه:
- (لماذا يتعجبون عندما نختلف؟! أقصد لم يتعجب الناس من اختلافنا, و لم يتوقعون أننا سنتشابه في كل شيء حتى العقل و الذائقة؟ لماذا يدهشون حينما يعرفون أنني أدرس الرياضيات في الجامعة, بينما تدرس أنت اللغة العربية؟! و لم صُدم أصدقاؤنا عندما لبست أنا قميصا, بينما لبست أنت ثوبا؟! بل لم تفاجأ بائع الايسكريم إذ طلبتُ أنا نكهة الفانيليا و طلبتَ أنت نكهة الشوكولاتة؟!)
- (الناس تكره الاختلاف, ليس فقط بيننا نحن التوائم السيامية, بل حتى بين بعضهم البعض. الاختلاف يعقّد خياراتهم, يصعّب عليهم التكهن بردود فعل الاخرين. من السهل عليك أن ترضخ لرغبة الناس في أن تكون مثلهم, و لكن الأصعب أن تقنعهم بحقك في الاختلاف أو التفرّد.
دعني أقول لك أننا أحسن بكثير من غيرنا, و أننا نقاوم- بجلدٍ لا بأس به- أن نكون مثل بعضنا, أو حتى مثل الاخرين. انظر إلى صديقنا عبد الله, ألم يختار (العسكرية) لأن جميع إخوته فيها؟ بل ألم يختاروها لأن أباهم
اختارها؟ أليسوا توائم سيامية و إن فصل بينهم الفراغ؟ ألم يقبلوا أن يصبّهم والدهم في قالبٍ واحدٍ من صنعه؟
حسنا, انظر إلى الرجال من حولنا, انظر لهم يجلسون معنا في الوادي و كلهم لابسٌ نفس الزي, نفس الثياب, نفس الأشمغة. ألم يرضوا بأن يكونوا توائم في اللباس؟! إن كانوا توائم في هذا المستوى, فأي اختلاف ترجوه على مستوى الأفكار و الاراء؟!
يا أخي التوأم – الذي لا يريد أن يشبهني إلا في الشكل- هكذا الناس, تكره الاختلاف. هكذا المجتمعات, تمقت التفرّد. فمن السهل على القطيع أن يقود نفسه إن كان مكونا من توائم سيامية , ملتصقة ببعضها, متشابهة مع بعضها.)
صمت أحمد, كان صمته يوحي بالاقتناع, و إن لم يوحي بالرضا.
نظر محمد إلى توأمه ضاحكا:
-( أتذكر تلك الفتاة التي ابتسمت نحونا, أتذكر كيف تلفّتنا تجاه بعضنا متسائلين أيّنا تقصد, أتذكر إجابتها حينما تجرّأنا فسألناها لمن تبتسم؟)
-( لا تذكّرني. الساذجة! أرادت أن ترضينا جميعا و لا تجرح أحدنا فقالت : ابتسمت لكليكما.
ما علمت أنها قد جرحتنا جميعا. و أنها لو قصدت بابتسامتها أحدنا, لزرعت الأمل في الاخر.
حسنا, هل تعتقد أننا قد نُحِب؟!
لا تجب, إنه سؤال بديهي. طبعا نستطيع أن نُحِب, و لكن هل هناك من تستطيع أن تحب أحدنا؟!
قبل أن تجيبني, قم بنا. فلقد مللت الجلوس, دعنا نسير قليلا على أقدامنا)
قام التوأم و بدا يسيران على ضفة الوادي العميق. استغل محمد لحظات المسير الصامت في التفكير بإجابة ترضي أخاه أحمد, فلقد كان متوترا. أو بالأحرى, إجابة ترضيه هو.
-( الحب – يا أحمد- قيمة مبالغ في حجمها. الناس تتوهم الحب, أو تتصنعه أكثر مما تعشق فعلا)
-( و لكنه وهمٌ يغذيه الأمل. أما أنا و أنت فهل لنا أملٌ بالحب؟ أو حتى بالزواج؟
هل تصدّق ما تقوله أمنا: أنها ستزوجنا توأمتان أو على الأقل أختان؟)
-( و لم لا؟!)
ارتسمت علامات الاستنكار على وجه أحمد:
-( أين ذهبت عقلانيتك يا محمد؟!
كن واقعيا, إنها كذبة بيضاء نطق بها لسان أمي اليائس. لا تصدّق رغباتك يا محمد. ليس من أملٍ بأن نتزوج, و ليس من أملٍ بأن ننفصل)
-( حسنا, و ما المشكلة في ذلك؟ فلنحاول التكيف مع هذا الوضع)
- ( لا أستطيع التكيف مع هذا الوضع. لا تسئ فهمي, أنا لا أتمنى كثيرا الانفصال عنك, و لكن مسألة الزواج تهمني كثيرا, فأنا شابٌ و لدي رغبات)
أراد محمد أن يمازح أخاه الذي بدا يائسا أكثر من أي وقتٍ مضى:
-( دعني أقول أنك لست بارعا في إخفاء رغباتك)
- ( لا تقنعني أنك لا تمارس رغباتك)
ضحك محمد, أما أحمد فظل متجهما صامتا, ثم واصل الكلام و كأنه يحدث نفسه:
- ( ألا تتسائل كيف نشعر بالوحدة رغم أننا لا نفارق بعضنا؟ كيف نشعر بالعزلة رغم أننا نعجز عنها؟! كيف نطلب القرب من الاخرين, رغم أن الاخر ملتصقٌ بنا؟!)
ما كاد أحمدٌ ينهي تساؤلاته حتى وجدا نفسيهما على حافة الوادي.
و بنظرةٍ عميقة, تأمل السيارات المتكدسة في قعر الوادي, ثم تبسّم قائلا:
- ما أجمل القاع و ما أبعده!
نظر إليه محمد مرتابا:
- لا تفعلها يا أخي. اتق الله! إنه انتحار
- بلى سأفعلها.
- لا تفعلها, أمامك الحياة بأكملها.
- أي حياةٍ تلك بلا أمل؟!
- أرجوك لا تقفز!
و عندما قفز أحمد..سقط محمد.
اكتشفا أنهما قد وصلا قمة الانفصال عند قمة الوادي. لم يفكر أحمد في أخيه محمد عندما قرر الانتحار. و لم يخف محمد على نفسه حينما كان يقنع أحمد بالعدول عن قراره.
استغرق السقوط في الهاوية دهرا. و في طريقهما إلى القاع, كان شعورٌ واحد يسيطر على أحمد, و تساؤلٌ واحد يشغل بال محمد.
أحمد قتله الشعور بالذنب قبل موته, لأنه لن يغادر هذه الدنيا منتحرا فقط, بل و قاتلا. أما محمد فقد قتله التساؤل قبل موته: هل سيقول أصدقاءهم غدا إن أحمدا انتحر و إن محمدا مات؟ أم سيقولون أن (محمدين) انتحر؟!
منقووووووووووووووووووووووووووووووول
إنهما أحمد و محمد, التوأم السيامي. أو (محمدين) كما يناديهما أصدقائهما تندّرا. و هذه هي خلوتهم الأسبوعية, حيث يجلسان فيصفيّان قلوبهما من الكدر و الغضب الذي يحملانه تجاه بعضهما, تجاه الناس, و تجاه الشرايين و العظام التي تلصقهما ببعض, فتقيد حريتهما.
و قد انتخبا (وادي لبن) لخلوة هذا الأسبوع, و افترشا قريبا من جرف الوادي العميق سجادتهما, ثم تناوب لسانيهما على الحديث و لعق الايسكريم.
نظر أحمد إلى توأمه:
- (لماذا يتعجبون عندما نختلف؟! أقصد لم يتعجب الناس من اختلافنا, و لم يتوقعون أننا سنتشابه في كل شيء حتى العقل و الذائقة؟ لماذا يدهشون حينما يعرفون أنني أدرس الرياضيات في الجامعة, بينما تدرس أنت اللغة العربية؟! و لم صُدم أصدقاؤنا عندما لبست أنا قميصا, بينما لبست أنت ثوبا؟! بل لم تفاجأ بائع الايسكريم إذ طلبتُ أنا نكهة الفانيليا و طلبتَ أنت نكهة الشوكولاتة؟!)
- (الناس تكره الاختلاف, ليس فقط بيننا نحن التوائم السيامية, بل حتى بين بعضهم البعض. الاختلاف يعقّد خياراتهم, يصعّب عليهم التكهن بردود فعل الاخرين. من السهل عليك أن ترضخ لرغبة الناس في أن تكون مثلهم, و لكن الأصعب أن تقنعهم بحقك في الاختلاف أو التفرّد.
دعني أقول لك أننا أحسن بكثير من غيرنا, و أننا نقاوم- بجلدٍ لا بأس به- أن نكون مثل بعضنا, أو حتى مثل الاخرين. انظر إلى صديقنا عبد الله, ألم يختار (العسكرية) لأن جميع إخوته فيها؟ بل ألم يختاروها لأن أباهم
اختارها؟ أليسوا توائم سيامية و إن فصل بينهم الفراغ؟ ألم يقبلوا أن يصبّهم والدهم في قالبٍ واحدٍ من صنعه؟
حسنا, انظر إلى الرجال من حولنا, انظر لهم يجلسون معنا في الوادي و كلهم لابسٌ نفس الزي, نفس الثياب, نفس الأشمغة. ألم يرضوا بأن يكونوا توائم في اللباس؟! إن كانوا توائم في هذا المستوى, فأي اختلاف ترجوه على مستوى الأفكار و الاراء؟!
يا أخي التوأم – الذي لا يريد أن يشبهني إلا في الشكل- هكذا الناس, تكره الاختلاف. هكذا المجتمعات, تمقت التفرّد. فمن السهل على القطيع أن يقود نفسه إن كان مكونا من توائم سيامية , ملتصقة ببعضها, متشابهة مع بعضها.)
صمت أحمد, كان صمته يوحي بالاقتناع, و إن لم يوحي بالرضا.
نظر محمد إلى توأمه ضاحكا:
-( أتذكر تلك الفتاة التي ابتسمت نحونا, أتذكر كيف تلفّتنا تجاه بعضنا متسائلين أيّنا تقصد, أتذكر إجابتها حينما تجرّأنا فسألناها لمن تبتسم؟)
-( لا تذكّرني. الساذجة! أرادت أن ترضينا جميعا و لا تجرح أحدنا فقالت : ابتسمت لكليكما.
ما علمت أنها قد جرحتنا جميعا. و أنها لو قصدت بابتسامتها أحدنا, لزرعت الأمل في الاخر.
حسنا, هل تعتقد أننا قد نُحِب؟!
لا تجب, إنه سؤال بديهي. طبعا نستطيع أن نُحِب, و لكن هل هناك من تستطيع أن تحب أحدنا؟!
قبل أن تجيبني, قم بنا. فلقد مللت الجلوس, دعنا نسير قليلا على أقدامنا)
قام التوأم و بدا يسيران على ضفة الوادي العميق. استغل محمد لحظات المسير الصامت في التفكير بإجابة ترضي أخاه أحمد, فلقد كان متوترا. أو بالأحرى, إجابة ترضيه هو.
-( الحب – يا أحمد- قيمة مبالغ في حجمها. الناس تتوهم الحب, أو تتصنعه أكثر مما تعشق فعلا)
-( و لكنه وهمٌ يغذيه الأمل. أما أنا و أنت فهل لنا أملٌ بالحب؟ أو حتى بالزواج؟
هل تصدّق ما تقوله أمنا: أنها ستزوجنا توأمتان أو على الأقل أختان؟)
-( و لم لا؟!)
ارتسمت علامات الاستنكار على وجه أحمد:
-( أين ذهبت عقلانيتك يا محمد؟!
كن واقعيا, إنها كذبة بيضاء نطق بها لسان أمي اليائس. لا تصدّق رغباتك يا محمد. ليس من أملٍ بأن نتزوج, و ليس من أملٍ بأن ننفصل)
-( حسنا, و ما المشكلة في ذلك؟ فلنحاول التكيف مع هذا الوضع)
- ( لا أستطيع التكيف مع هذا الوضع. لا تسئ فهمي, أنا لا أتمنى كثيرا الانفصال عنك, و لكن مسألة الزواج تهمني كثيرا, فأنا شابٌ و لدي رغبات)
أراد محمد أن يمازح أخاه الذي بدا يائسا أكثر من أي وقتٍ مضى:
-( دعني أقول أنك لست بارعا في إخفاء رغباتك)
- ( لا تقنعني أنك لا تمارس رغباتك)
ضحك محمد, أما أحمد فظل متجهما صامتا, ثم واصل الكلام و كأنه يحدث نفسه:
- ( ألا تتسائل كيف نشعر بالوحدة رغم أننا لا نفارق بعضنا؟ كيف نشعر بالعزلة رغم أننا نعجز عنها؟! كيف نطلب القرب من الاخرين, رغم أن الاخر ملتصقٌ بنا؟!)
ما كاد أحمدٌ ينهي تساؤلاته حتى وجدا نفسيهما على حافة الوادي.
و بنظرةٍ عميقة, تأمل السيارات المتكدسة في قعر الوادي, ثم تبسّم قائلا:
- ما أجمل القاع و ما أبعده!
نظر إليه محمد مرتابا:
- لا تفعلها يا أخي. اتق الله! إنه انتحار
- بلى سأفعلها.
- لا تفعلها, أمامك الحياة بأكملها.
- أي حياةٍ تلك بلا أمل؟!
- أرجوك لا تقفز!
و عندما قفز أحمد..سقط محمد.
اكتشفا أنهما قد وصلا قمة الانفصال عند قمة الوادي. لم يفكر أحمد في أخيه محمد عندما قرر الانتحار. و لم يخف محمد على نفسه حينما كان يقنع أحمد بالعدول عن قراره.
استغرق السقوط في الهاوية دهرا. و في طريقهما إلى القاع, كان شعورٌ واحد يسيطر على أحمد, و تساؤلٌ واحد يشغل بال محمد.
أحمد قتله الشعور بالذنب قبل موته, لأنه لن يغادر هذه الدنيا منتحرا فقط, بل و قاتلا. أما محمد فقد قتله التساؤل قبل موته: هل سيقول أصدقاءهم غدا إن أحمدا انتحر و إن محمدا مات؟ أم سيقولون أن (محمدين) انتحر؟!
منقووووووووووووووووووووووووووووووول
تعليق