بإطلالة فريدة على كورنيش الإسكندرية تجذبك أنظارك إلى مقهى "خرِسْتو"، تتوجه عيناك
مباشرة إلى واجهته الحجرية الجميلة وكراسيه الخشبية الفاخرة، تنبض صوانيه النحاسية واكوابه الزجاجية بتاريخ طويل من العراقة والفخر، وكل كوب من القهوة التركية المعدة يدويا على "السبرتاية" يروي قصصا لأشهر الشخصيات التي زارت هذا المكان الرائع، بين ملوك وفنانين وشعراء وأدباء.
وكما هو الحال مع المقاهي العريقة، يتجلى مقهى ""خرِسْتو"" كنافذة تطل على تاريخ النخبة في إسكندرية، كان ينعكس عبر أجيالها ويتجدد مع مرور الزمن، ليحمل في طياته الكثير من الذكريات والقصص الرائعة.
أنطوان خرِسْتو، رجل يوناني الأصل، يجسد روح هذا المقهى الأسطوري، ورث حب الفن عن والده الذي كان مصورا فوتوغرافيا.
كان أنطوان خرِسْتو رجلا طويلا وعيونه زرقاء مثل البحر، ونظراته تكشف عن قلبه الصادق، وكان دائما يرتدي البدل المصنوعة من الصوف الإنجليزي وصدرية تحمل ساعته المربوطة بسلسلة فضية، يغطي كتفيه بالطو طويل بطراز عتيق من الصوف الفاخر يضفي عليه طابعا أنيقا جدا.
في عام 1936م، قرر أنطوان خرستو خوض رحلة طويلة من اليونان إلى الإسكندرية بعد وفاة والده الحبيب، حيث كان والده يحدثه دوما عن مدينة الإسكندرية، التي عاش فيها فترة ولازال يحن إليها بقلبه، وكان يرغب في زيارتها مجددا، لكن القدر لم يسمح له بتحقيق تلك الأمنية، وتوفي قبل أن يحقق حلمه، لذلك قرر ابنه أن يذهب إلى الإسكندرية ويحمل معه الذكريات وكاميرا والده قد اهداه اياها ويذهب بها إلى الأسكندرية، لكي يحقق أمنية والده بالذهاب إلى تلك المدينة الرائعة.
انطلق بمفرده في هذه الرحلة، وما لبث أن انغمس في أجواء مدينة الاسكندرية الساحرة. وكما كان يحدثه والده دائما، وجد نفسه مرتبطا عاطفيا بجمال المدينة وثقافتها الفريدة.
وأثناء زيارته للاسكندرية صادف الخواجة خرِسْتو حب حياته (مادلين البرت) في فبراير سنة 1936م في إحدى الحفلات التي نُظمت من قبل الجالية اليونانية في الإسكندرية، لذلك قرر الاستقرار في الاسكندرية ليتزوج بحب حياته، ويبدأ مشروعه التجاري مقهى ""خرِسْتو"" في صيف سنة 1936م الذي سماه باسم والده الحبيب كتكريم لذكراه ولما كان يعنيه المكان بالنسبة له.
أما مقهى ""خرِسْتو""، فكان له طابع خاص ومكانة مميزة في قلب أنطوان خرستو، اجتمع هناك فنانون وشعراء وأدباء، يلهمون بعضهم البعض بإبداعاتهم الفريدة وأحاديثهم الطويلة في كل شيء، كانت أيام الخميس هي الأكثر ازدحاما ومرحا في مقهى "خرِسْتو"، فيكون الأصدقاء مجتمعين يغنون ويضحكون حتى أوقات متأخرة من الليل.
وكان هناك لحظات تاريخية أخرى تضيف بريقا خاصا إلى مقهى ""خرِسْتو""، لقد حدث انه في سنة -1937م مر الملك فاروق عابرا أمام المقهى على طريقه إلى قصر رأس التين، لم يفوت أنطوان خرستو فرصة الظهور بتحية جميلة لملك مصر، فقدم مشروب "الشربات" والقهوة التركية للموكب المصاحب للملك، فوقف الموكب أمام المقهى ليستمتع الملك بتلك اللفتة الجميلة من الخواجة خرستو واستمتع الملك ايضا بمذاق القهوة التركية الفريدة وقرر الملك ايضاً ان يقوم بتدخين الأرجيلة في احدى جلسات مقهى "خرِسْتو"، وابدى اعجابه الشديد بها وبترحاب مقهى "خرِسْتو" له.
ومن ذلك الوقت، ازدادت شهرة المقهى بين الناس، امتلأ بزبائن جدد يبحثون عن التجديد والإلهام، واستمر أنطوان خرستو في بناء صداقات جديدة وتوثيق العلاقات القديمة مع رواد المكان.
مع مرور الأيام، ازدهرت مدينة الإسكندرية رغم الظروف الصعبة التي أحاطت بها في أثناء الحرب أنذاك، فأصبح مقهى ""خرِسْتو"" وجهة مفضلة للسكان والزوار على حد سواء، في ليالي الغارات وانقطاع التيار الكهربائي، كان المقهى الملجأ الآمن للجميع. كان الناس يحتمون بجواره أو يجلسون فيه، وسط ترانيم الأمل والموسيقى، فهناك تجتمع الروحانيات والمشاعر الأكثر إلهاما.
وفي هذا الوقت المضطرب وسط غارات الحرب العالمية الثانية، قرر "خرستو" شراء جراموفون جديد سنة 1941م ليلعب عليه الموسيقى والأغاني للترويح عن رواد المقهى وتغير حالتهم المزاجية للأفضل حيث كان الخواجة خرستو متذوق للموسيقى.
وبينما كانت الغارات تتواصل، لم ينس انطوان خرستو الكاميرات الثمينة لوالده وحافظ عليها بعناية فائقة، لأنها كانت تحمل قصصا وذكريات جميلة، وهو لم يكن يريد أن يفقد أيا منها.
بعد ذلك، انتشرت سمعة المقهى لتصل إلى أقاصي البلاد، وزاره الكثيرون من داخل مصر وخارجها، لكن أجمل ما في القصة هو أن روح المكان لم تتغير يوما، بل استمرت تعبق بنفحات الحنين والعشق والفن.
وهكذا، استمرت قصة مقهى ""خرِسْتو"" بالاسكندرية في الحفاظ على بريقها وسحرها على مر الأجيال، فتاريخها موشوم بأجمل اللحظات وأعظم الشخصيات، ومع كل زائر يترك بصمته في هذا النافذة الفريدة على تاريخ المدينة والأدب والفن.
خلال فترة الاضطرابات الاقتصادية وتغيرات الحكومة في اواخر 1956م في عهد عبد الناصر، اتخذ خرستو قرارا مهما للحفاظ على المقهى، كتب عقدا ينقل ملكية المقهى الرسمية إلى صديقه المخلص ومدير المقهى آنذاك السيد علي كمال الصعيدي، حيث كان ذلك الإجراء يحميه من التأميم الحكومي الذي أصاب العديد من المقاهي اليونانية والفرنسية الأخرى، واستمر هو صاحب المقهى الاصلي وما كان هذا العقد إلا حماية للحفاظ على طابع المقهى.
وفي زاوية من المقهى، توجد دائما مقعد للأديب العالمي نجيب محفوظ، حيث يأتي لكتابة بعض أعماله الأدبية في جو من الهدوء والإلهام. حيث ان الاديب العالمي كان يعاني من حساسية موسمية في فصل الربيع في القاهرة وكان يزور الاسكندرية في هذا الموسم ويتخذ مقهى "خرِسْتو" مكاناً معتاداً له
وايضا الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ امام كانوا يأتون أيضا لأداء بعض الأغاني الوطنية ذات الطابع الثوري، ومن اشهر الممثلين الذين اعتادو زيارة المقهى في فصل الصيف (اسماعيل يس ونجيب الريحاني ومحمود المليجي وفريذ الاطرش ومحمد فوزي وتحية كاريوكا وملكة المسارح بديعة مصابني لبنانية الاصل كانت من مرتاديه ايضاً حيث كانت تربطها صداقة وطيدة بالخواجة خرستو ) مما أضفى طابعا فنياً على جو المقهى ورسخ مكانتها بين الجمهور.
على مر الأعوام، استمر الخواجة خرستو في الإشراف على المقهى بكل اهتمام وعناية، وأصبح معروفا بخدمته الرائعة وضيافته الحارة، يجذب الخواجة خرستو الناس بابتسامته ونكاته الذكية المرحه. وكان دائما يضيف البهجة والسعادة إلى وجوه الزبائن.
في الصيف، كانت القهوة التركية وعصير الليمون تنتعش برونقها ونكهتها المميزة وايضا مشروب العنب الابيض الفاخر وايضاً النبيذ الأحمر الرائع الذي كان يقدمه المقهى ، في حين يقدم في فصل الشتاء الشاي الدافئ والسحلب والقرفة واليانسون وخلافها من مشروبات فصل الشتاء
.
وفي سنة1975م، انطفأت شمعة حياة خرستو بعد وفاة زوجته بعدة أسابيع. كان هو الآخر يعاني من مرض طويل، ولكنه لم يدع ألمه يبعده عن محبته للمقهى، في صباح من الشتاء، عندما رحل الخواجة انطوان خرستو عن عالمنا، كان يحمل بين يديه سلة ذهبية تعود لزوجته الحبيبة وكاميرا والده الذي كان يعتز بها والتي كان يريد فقط ان تجعلها تزور الاسكندرية بدلا من والده فكانت سببا في اثراء حياته بشكل لم يكن يتخيله.
ورث علي كمال الصعيدي مقهى "خرِسْتو"، ولكنه عقد العهد بعدم تغيير شيء فيه، فقد كان يرى فيه قصرا يحمل أكثر من ذكرى، بل يحمل حياة كاملة مليئة بأحداثها ومشاعرها، وقام بوضع صورته مع أنطوان خرستو تقديرا وعرفانا له ولتخليد ذكراه.
وتنبض هذه النافذة الفريدة على التاريخ بقصص تدور حول الأصدقاء والفن والعشق والحب، حياة أنطوان خرستو ومقهاه تمثل نموذجا يُشبه رواية عاطفية مشوقة، تحتوي على تفاصيل تجعلك تتعلق بكل شخصية، وتدفعك للبقاء في ذكراها الرائعة إلى الأبد.
وهكذا استمر مقهى ""خرِسْتو"" في الإسكندرية بجذب الناس وجعلهم يشعرون بأنها ملجأ لهم، حيث يمكنهم التجمع والاستمتاع بأجواء الصداقة والألفة. كان الأثاث الخشبي المريح والأرضية المرصوفة بالبلاط الملون وزجاج النوافذ المنقوش بألوان بلمسته الاوروبية تعزز الطابع الدافئ للمكان وتجعل الزوار يشعرون بالراحة والاسترخاء.
يحكي مقهى ""خرِسْتو"" جزءا من تاريخ الإسكندرية، ويعكس روح المدينة التاريخية والثقافات المختلفة التي عاشت فيها. كان المكان يشهد زيارات الكثير من الشخصيات المشهورة والمشاهير الذين كانوا يتوقون لاكتشاف جمال هذه المدينة.
مقهى ""خرِسْتو"" لم يكن مجرد مكان لتناول المشروبات والطعام، بل كان ملتقى للأصدقاء والأحباب ومكانا يتشاركون فيه أحاسيسهم ويحكون قصص حياتهم. كان مكانا يعكس جوهر الروح الإسكندرانية، مدينة تجمع بين الأصالة والحداثة، الشرق والغرب.
وبهذه الطريقة، يظل مقهى ""خرِسْتو"" جوهرة مشعة في قلب مدينة الإسكندرية، ومكانا يُكرم تاريخها ويروي قصتها بعمق وعاطفة، إنها قصة حب بين إنسان ومكان، تعايشت فيهما الذكريات والأحاسيس والمشاعر، وبقيت تحكي قصة ""خرِسْتو"" بألوانها الزاهية لكل من يعبر عتباتها.
وبالرغم من أن عهد مقهى ""خرِسْتو"" قد مر وانقضى، إلا أن تأثيره لم ينته بل بقي حيا في ذاكرة الإسكندرية وروحها، ويستمر الناس في تذكره وحكاياته، وتبقى الصور القديمة تجمع بين الأجيال لتروي قصصا جميلة عن تاريخ وجود المقهى الذي أحبوه وتعلقوا به.
في زحام المدينة الحديثة، قد تموت المقاهي وتبدلت واجهات الأماكن، ولكن يبقى مقهى ""خرِسْتو"" عالقا في قلوب الناس. إنه مكان سحري يحمل ذكرياتهم ويسكن في ذاكرتهم كأحد أجمل مراحل حياتهم.
في نهاية القصة، يبقى مقهى ""خرِسْتو"" موروثا حضاريا وثقافيا يُخلّد بين الأجيال، مكانا للحنين والتذكر والفرح، وسط الحاضر السريع والمستقبل المجهول، إنه نموذج للمكان الذي
يخلد الحكايات ويبقى حياً في قلوب الناس الذين أحبوه وترك رونقه آثاره في وجدانهم
مباشرة إلى واجهته الحجرية الجميلة وكراسيه الخشبية الفاخرة، تنبض صوانيه النحاسية واكوابه الزجاجية بتاريخ طويل من العراقة والفخر، وكل كوب من القهوة التركية المعدة يدويا على "السبرتاية" يروي قصصا لأشهر الشخصيات التي زارت هذا المكان الرائع، بين ملوك وفنانين وشعراء وأدباء.
وكما هو الحال مع المقاهي العريقة، يتجلى مقهى ""خرِسْتو"" كنافذة تطل على تاريخ النخبة في إسكندرية، كان ينعكس عبر أجيالها ويتجدد مع مرور الزمن، ليحمل في طياته الكثير من الذكريات والقصص الرائعة.
أنطوان خرِسْتو، رجل يوناني الأصل، يجسد روح هذا المقهى الأسطوري، ورث حب الفن عن والده الذي كان مصورا فوتوغرافيا.
كان أنطوان خرِسْتو رجلا طويلا وعيونه زرقاء مثل البحر، ونظراته تكشف عن قلبه الصادق، وكان دائما يرتدي البدل المصنوعة من الصوف الإنجليزي وصدرية تحمل ساعته المربوطة بسلسلة فضية، يغطي كتفيه بالطو طويل بطراز عتيق من الصوف الفاخر يضفي عليه طابعا أنيقا جدا.
في عام 1936م، قرر أنطوان خرستو خوض رحلة طويلة من اليونان إلى الإسكندرية بعد وفاة والده الحبيب، حيث كان والده يحدثه دوما عن مدينة الإسكندرية، التي عاش فيها فترة ولازال يحن إليها بقلبه، وكان يرغب في زيارتها مجددا، لكن القدر لم يسمح له بتحقيق تلك الأمنية، وتوفي قبل أن يحقق حلمه، لذلك قرر ابنه أن يذهب إلى الإسكندرية ويحمل معه الذكريات وكاميرا والده قد اهداه اياها ويذهب بها إلى الأسكندرية، لكي يحقق أمنية والده بالذهاب إلى تلك المدينة الرائعة.
انطلق بمفرده في هذه الرحلة، وما لبث أن انغمس في أجواء مدينة الاسكندرية الساحرة. وكما كان يحدثه والده دائما، وجد نفسه مرتبطا عاطفيا بجمال المدينة وثقافتها الفريدة.
وأثناء زيارته للاسكندرية صادف الخواجة خرِسْتو حب حياته (مادلين البرت) في فبراير سنة 1936م في إحدى الحفلات التي نُظمت من قبل الجالية اليونانية في الإسكندرية، لذلك قرر الاستقرار في الاسكندرية ليتزوج بحب حياته، ويبدأ مشروعه التجاري مقهى ""خرِسْتو"" في صيف سنة 1936م الذي سماه باسم والده الحبيب كتكريم لذكراه ولما كان يعنيه المكان بالنسبة له.
أما مقهى ""خرِسْتو""، فكان له طابع خاص ومكانة مميزة في قلب أنطوان خرستو، اجتمع هناك فنانون وشعراء وأدباء، يلهمون بعضهم البعض بإبداعاتهم الفريدة وأحاديثهم الطويلة في كل شيء، كانت أيام الخميس هي الأكثر ازدحاما ومرحا في مقهى "خرِسْتو"، فيكون الأصدقاء مجتمعين يغنون ويضحكون حتى أوقات متأخرة من الليل.
وكان هناك لحظات تاريخية أخرى تضيف بريقا خاصا إلى مقهى ""خرِسْتو""، لقد حدث انه في سنة -1937م مر الملك فاروق عابرا أمام المقهى على طريقه إلى قصر رأس التين، لم يفوت أنطوان خرستو فرصة الظهور بتحية جميلة لملك مصر، فقدم مشروب "الشربات" والقهوة التركية للموكب المصاحب للملك، فوقف الموكب أمام المقهى ليستمتع الملك بتلك اللفتة الجميلة من الخواجة خرستو واستمتع الملك ايضا بمذاق القهوة التركية الفريدة وقرر الملك ايضاً ان يقوم بتدخين الأرجيلة في احدى جلسات مقهى "خرِسْتو"، وابدى اعجابه الشديد بها وبترحاب مقهى "خرِسْتو" له.
ومن ذلك الوقت، ازدادت شهرة المقهى بين الناس، امتلأ بزبائن جدد يبحثون عن التجديد والإلهام، واستمر أنطوان خرستو في بناء صداقات جديدة وتوثيق العلاقات القديمة مع رواد المكان.
مع مرور الأيام، ازدهرت مدينة الإسكندرية رغم الظروف الصعبة التي أحاطت بها في أثناء الحرب أنذاك، فأصبح مقهى ""خرِسْتو"" وجهة مفضلة للسكان والزوار على حد سواء، في ليالي الغارات وانقطاع التيار الكهربائي، كان المقهى الملجأ الآمن للجميع. كان الناس يحتمون بجواره أو يجلسون فيه، وسط ترانيم الأمل والموسيقى، فهناك تجتمع الروحانيات والمشاعر الأكثر إلهاما.
وفي هذا الوقت المضطرب وسط غارات الحرب العالمية الثانية، قرر "خرستو" شراء جراموفون جديد سنة 1941م ليلعب عليه الموسيقى والأغاني للترويح عن رواد المقهى وتغير حالتهم المزاجية للأفضل حيث كان الخواجة خرستو متذوق للموسيقى.
وبينما كانت الغارات تتواصل، لم ينس انطوان خرستو الكاميرات الثمينة لوالده وحافظ عليها بعناية فائقة، لأنها كانت تحمل قصصا وذكريات جميلة، وهو لم يكن يريد أن يفقد أيا منها.
بعد ذلك، انتشرت سمعة المقهى لتصل إلى أقاصي البلاد، وزاره الكثيرون من داخل مصر وخارجها، لكن أجمل ما في القصة هو أن روح المكان لم تتغير يوما، بل استمرت تعبق بنفحات الحنين والعشق والفن.
وهكذا، استمرت قصة مقهى ""خرِسْتو"" بالاسكندرية في الحفاظ على بريقها وسحرها على مر الأجيال، فتاريخها موشوم بأجمل اللحظات وأعظم الشخصيات، ومع كل زائر يترك بصمته في هذا النافذة الفريدة على تاريخ المدينة والأدب والفن.
خلال فترة الاضطرابات الاقتصادية وتغيرات الحكومة في اواخر 1956م في عهد عبد الناصر، اتخذ خرستو قرارا مهما للحفاظ على المقهى، كتب عقدا ينقل ملكية المقهى الرسمية إلى صديقه المخلص ومدير المقهى آنذاك السيد علي كمال الصعيدي، حيث كان ذلك الإجراء يحميه من التأميم الحكومي الذي أصاب العديد من المقاهي اليونانية والفرنسية الأخرى، واستمر هو صاحب المقهى الاصلي وما كان هذا العقد إلا حماية للحفاظ على طابع المقهى.
وفي زاوية من المقهى، توجد دائما مقعد للأديب العالمي نجيب محفوظ، حيث يأتي لكتابة بعض أعماله الأدبية في جو من الهدوء والإلهام. حيث ان الاديب العالمي كان يعاني من حساسية موسمية في فصل الربيع في القاهرة وكان يزور الاسكندرية في هذا الموسم ويتخذ مقهى "خرِسْتو" مكاناً معتاداً له
وايضا الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ امام كانوا يأتون أيضا لأداء بعض الأغاني الوطنية ذات الطابع الثوري، ومن اشهر الممثلين الذين اعتادو زيارة المقهى في فصل الصيف (اسماعيل يس ونجيب الريحاني ومحمود المليجي وفريذ الاطرش ومحمد فوزي وتحية كاريوكا وملكة المسارح بديعة مصابني لبنانية الاصل كانت من مرتاديه ايضاً حيث كانت تربطها صداقة وطيدة بالخواجة خرستو ) مما أضفى طابعا فنياً على جو المقهى ورسخ مكانتها بين الجمهور.
على مر الأعوام، استمر الخواجة خرستو في الإشراف على المقهى بكل اهتمام وعناية، وأصبح معروفا بخدمته الرائعة وضيافته الحارة، يجذب الخواجة خرستو الناس بابتسامته ونكاته الذكية المرحه. وكان دائما يضيف البهجة والسعادة إلى وجوه الزبائن.
في الصيف، كانت القهوة التركية وعصير الليمون تنتعش برونقها ونكهتها المميزة وايضا مشروب العنب الابيض الفاخر وايضاً النبيذ الأحمر الرائع الذي كان يقدمه المقهى ، في حين يقدم في فصل الشتاء الشاي الدافئ والسحلب والقرفة واليانسون وخلافها من مشروبات فصل الشتاء
.
وفي سنة1975م، انطفأت شمعة حياة خرستو بعد وفاة زوجته بعدة أسابيع. كان هو الآخر يعاني من مرض طويل، ولكنه لم يدع ألمه يبعده عن محبته للمقهى، في صباح من الشتاء، عندما رحل الخواجة انطوان خرستو عن عالمنا، كان يحمل بين يديه سلة ذهبية تعود لزوجته الحبيبة وكاميرا والده الذي كان يعتز بها والتي كان يريد فقط ان تجعلها تزور الاسكندرية بدلا من والده فكانت سببا في اثراء حياته بشكل لم يكن يتخيله.
ورث علي كمال الصعيدي مقهى "خرِسْتو"، ولكنه عقد العهد بعدم تغيير شيء فيه، فقد كان يرى فيه قصرا يحمل أكثر من ذكرى، بل يحمل حياة كاملة مليئة بأحداثها ومشاعرها، وقام بوضع صورته مع أنطوان خرستو تقديرا وعرفانا له ولتخليد ذكراه.
وتنبض هذه النافذة الفريدة على التاريخ بقصص تدور حول الأصدقاء والفن والعشق والحب، حياة أنطوان خرستو ومقهاه تمثل نموذجا يُشبه رواية عاطفية مشوقة، تحتوي على تفاصيل تجعلك تتعلق بكل شخصية، وتدفعك للبقاء في ذكراها الرائعة إلى الأبد.
وهكذا استمر مقهى ""خرِسْتو"" في الإسكندرية بجذب الناس وجعلهم يشعرون بأنها ملجأ لهم، حيث يمكنهم التجمع والاستمتاع بأجواء الصداقة والألفة. كان الأثاث الخشبي المريح والأرضية المرصوفة بالبلاط الملون وزجاج النوافذ المنقوش بألوان بلمسته الاوروبية تعزز الطابع الدافئ للمكان وتجعل الزوار يشعرون بالراحة والاسترخاء.
يحكي مقهى ""خرِسْتو"" جزءا من تاريخ الإسكندرية، ويعكس روح المدينة التاريخية والثقافات المختلفة التي عاشت فيها. كان المكان يشهد زيارات الكثير من الشخصيات المشهورة والمشاهير الذين كانوا يتوقون لاكتشاف جمال هذه المدينة.
مقهى ""خرِسْتو"" لم يكن مجرد مكان لتناول المشروبات والطعام، بل كان ملتقى للأصدقاء والأحباب ومكانا يتشاركون فيه أحاسيسهم ويحكون قصص حياتهم. كان مكانا يعكس جوهر الروح الإسكندرانية، مدينة تجمع بين الأصالة والحداثة، الشرق والغرب.
وبهذه الطريقة، يظل مقهى ""خرِسْتو"" جوهرة مشعة في قلب مدينة الإسكندرية، ومكانا يُكرم تاريخها ويروي قصتها بعمق وعاطفة، إنها قصة حب بين إنسان ومكان، تعايشت فيهما الذكريات والأحاسيس والمشاعر، وبقيت تحكي قصة ""خرِسْتو"" بألوانها الزاهية لكل من يعبر عتباتها.
وبالرغم من أن عهد مقهى ""خرِسْتو"" قد مر وانقضى، إلا أن تأثيره لم ينته بل بقي حيا في ذاكرة الإسكندرية وروحها، ويستمر الناس في تذكره وحكاياته، وتبقى الصور القديمة تجمع بين الأجيال لتروي قصصا جميلة عن تاريخ وجود المقهى الذي أحبوه وتعلقوا به.
في زحام المدينة الحديثة، قد تموت المقاهي وتبدلت واجهات الأماكن، ولكن يبقى مقهى ""خرِسْتو"" عالقا في قلوب الناس. إنه مكان سحري يحمل ذكرياتهم ويسكن في ذاكرتهم كأحد أجمل مراحل حياتهم.
في نهاية القصة، يبقى مقهى ""خرِسْتو"" موروثا حضاريا وثقافيا يُخلّد بين الأجيال، مكانا للحنين والتذكر والفرح، وسط الحاضر السريع والمستقبل المجهول، إنه نموذج للمكان الذي
يخلد الحكايات ويبقى حياً في قلوب الناس الذين أحبوه وترك رونقه آثاره في وجدانهم