كان من الصعب تمييز الكلب المدلل (لايكا) ولكن بإمكان المرء أن يخمّن من مظهره ومشيته أنه ألماني الأصل فهو صغير , طويل الجسم , قصير القوائم .
كان (لايكا) قد حلّ ضيفاً على أسرة" ساري ال مطنوخ " منذ نحو سنة ونصف السنة فقط وتعرّف إلى أفراد الأسرة , وسرعان ما اتخذ لنفسه مقراً في حديقة المنزل , وعبّر بطريقته الخاصة عن ارتياحه التام إلى ذلك الموضع .
ولسوء الحظ اضطرت أسرة ال مطنوخ للمغادرة إلى اليابان لنحو عام كامل على جناح السرعة فألقيت مسؤلية الاحتفاظ بالكلب لايكا على السائق النيجري (مزمل) .. وقد أعطت السيدة (نوف) 12000 ريالاً إلى السائق مزمّل , وقالت له : " لايكا يحبك كثيراً يا مزمل , لذلك من الأفضل أن يبقى معك , وقد أعطيتك هذا المبلغ , وإذا اضطررت إلى المزيد فاتصل بي , ولكن اعتن بالكلب جيداً وأحسّت السيدة (نوف) بغصة في حلقها وهي تودع الكلب لايكا ,, وقد رد عليها السائق الأمين مزمل قائلاً : عمتي نوف لاحاجة لأن تقلقي , فقد أكلت من عيشكم وملحكم سنوات , وليس كثيراً أن أرعى الكلب لأجلكم سنة واحدة .. وسرعان ما عرف (لايكا) الحقيقة المحزنة حين أخذ أفراد أسرة (ال مطنوخ) واحداً بعد اخر يربتون على ظهره مودّعين والدموع في العيون ..
ولما وصل مزمل إلى بيته في حي الشميسي ربط "لايكا" إلى عمود في مدخل البيت وعندما رأته زوجته التكرونية (حليمة) صعقت , وكأنها رأت شبحاً ,, وبدأت تكيل له الشتائم , من غير انقطاع , وبألفاظ نابية .. وبعد أن هدأت عاصفة الشتائم قليلاً حاول (مزمل) توضيح الأمر بطريقة ملائمة , ولكن كل مرة تذهب محاولاته هباء , بهجوم مضاد , ولذلك لم يجد طريقة أخرى سوى أن يعرض عليها مبلغاً من المال قدره خمسة الاف ريال ,, عندئذٍ انقشعت العاصفة في لحظة واحدة وأسرعت حليمة إلى زوجها في مشية مرحة وخطفت منه المبلغ .
ولقد حددت الخمسة الاف ريال قدَرَ (لايكا )بصورة نهائية , فقد تقرر وجوب بقائه مقيداً بالسلاسل في مدخل المنزل والاكتفاء بإطعامه مرتين في اليوم .
وجبة الإفطار ستتألف مما يجمع من بقايا المائدة , وبالنسبة للعشاء فإن كسرة من الخبز ستكون كافية , فالجائع لايميز بين طعام جيد وطعام رديء , وهكذا نسي (لايكا) في وقت قصير جداً كل شيء عن قطعة البسكويت التي كان يلتهمها في الصباح , والأرز المطبوخ باللحم والمذرور عليه توابل عند الغداء , كما نسي قطعتي الخبز المغمستين بالحليب عند العشاء .
وكان (مّزمل) يذهب إلى عمله في الصباح , ليعود منه في المساء , ولذلك فإن "لايكا" لم يُعط طعامه ولاشرابه في الأوقات المناسبة ,, وكان إذا ماقام بأي شيء طبيعي يتعلق بتكوينه الجسمي , ولو في المكان الذي هو مربوط فيه , فإن عليه أن يعاني من الضرب المبرح من قبل التكرونية حليمة , ثم أخذت تتركه من غير قيد , بعد أن يذهب زوجها مزّمل إلى عمله , فيغادر المنزل , ولايرجع إلا في وقت متأخر من الليل , وإذا ماعاتبها (مزمل) على ذلك , كان جوابها : وأين في إمكان الكلب أن يذهب ؟ فلابد له في النهاية من أن يعود إلى البيت فمن سيحتفظ بكلب ؟ ويقدم له أربع وجبات يومياً ؟ " , وفي مرات كثيرة كانت ترفع صوتها مؤكدة رأيها بحدة .
وفي بعض الأحيان كان (لايكا) يقترب من (مزمل) لدى رجوعه من البيت , وربما داعب مزمل شعره الاخذ في الانحسار , فيلعق (لايكا)ا يدَ مزمل عرفاناً منه بالجميل , وشكراً له , ولكن هذا وحده كان كافياً ليصبح (مزمل) مضطراً إلى الاستحمام الكامل , من رأسه إلى قدميه , وكأنه قد ارتكب إثماً كبيراً .
أصبح (لايكا) بعد ذلك لايرجع إلى البيت كل يوم , وإذا مارجع فإنه يرجع مرّة كل سبعة أو ثمانية أيام , وبذلك لم يعد أمر إطعامه وارداً , وأحست حليمة أنه قد فرّج عنها بتدبير (لايكا) طعامه بنفسه في الخارج , وكان (لايكا) قد أصبح هزيلاً وزال من الجذور معظم ماتبقى من فروه .
وعند تلك المرحلة بالضبط كانت تجربة (لايكا) قد بدأت تختلف , إذ كان عليه أن يدبّر طعامه بمساعيه الخاصة وعليه أن يتشاجر مع الكلاب المشرّدة , وأن يبحث عن طعامه عند المطاعم , ومحلات بيع اللحوم .. وفي أحد الأيام وقع حادث عرضي بسيط وهو في الحقيقة ليس أكثر من حادث بسيط يعرض للكلب (لايكا) وهو يبحث عن الطعام , فعند تقاطع الطرق , وفي لحظة من عدم التنبه سقطت شريحة لحم من يد البائع , وقبل أن تصل الأرض استقرت بين فكي (لايكا) الرشيقتين .. وعلى الفور انصبت فوقه من أبريق شاي كمية وافية من الماء الحار اللاهب .. وبقدر من عدم الاحتمال رجع في ذلك اليوم بجسمه العليل إلى منزل (مزّمل) حيث مأواه القديم والتفّ على نفسه , ليرتاح بهدوء في الموضع المحدد له .. وفي صباح اليوم التالي لم يكن ماراه "مزمّل " وزوجته هو الكلب (لايكا) الذي يعرفانه .. كان كلباً هزيلاً جداً حتى إنه بالإمكان أن يمر من خلال السوار الذي في معصم زوجة (مزمل) , ومن مؤخرته ينتأ ذيل مثل إصبع عجوز عجفاء , وفوق هذا كله ثمّة رقعة على ظهره تشبه قارة اسيا , قد سُلخ الجلد فيها , وظهر اللحم الأحمر , وقد بدأ يتقيّح .
وأحسّت حليمة زوجة مزمّل بشيء من الشفقة , فقالت يجب أن يؤخذ إلى طبيب بيطري , ثم مالبثت أن أضافت قائلة : ولكن من سيدفع أجرة الطبيب , وثمّة مجازفات كبيرة في علاجه , وهو بعد ذلك كله ليس بالكلب المطيع ".
وكانت عدة اتصالات ورسائل من أسرة (ساري ال مطنوخ) قد وصلت من قبل , تتضمن تساؤلات قلقة عن الكلب , ولكنها لم تلق جواباً ,, أما اليوم فقد أرسلت على الفور رسالة بالبريد الممتاز إلى (اليابان) تعظّم نكبة (لايكا) وتطلب قدراً اخر من النقود .
وفي الوقت الذي وصلت فيه النقود , لم يكن لايكا موجوداً في مدخل المنزل ينتظر العلاج فبعد الحادث بيوم واحد وقف على قوائمه الأربع الهزيلة ليبدأ مغامرةً أخرى , وكانت قد ذهبت محاولته عبثاً في لعق جراحه , إذ لم يتمكن من الوصول بلسانه إلى موضع الضرر في جسمه , وأخذ يطلق أنيناً محزناً .
لقد حزن (لايكا) بصورة كلية لفقده صحبته لأسرة ال مطنوخ , وقد نشأ عند أفرادها في عيشة مترفة , ثم سلّم أمره بعد ذلك إلى أسرة (مزمّل) مع شعوره العميق بجرح الكبرياء , ولكن عندما أصبح يحوم في الطرقات أخذ يشعر أنه مخلوق غير مرغوب فيه في مدينة (الرياض) ولذلك فهو يقف عادةً بعيداً عن الناس , يترّقب وبصبر طويل ينتظر بقايا الأطعمة حتى تلقى , كما أخذ يشعر بكدر وانحراف في المزاج , ويحس بالخزي وكأنه (مالك الحزين) .
إن اسمه لم يبق (لايكا) فلا أحد يدعوه به , فأحياناً هو مجرد كلب , وأحياناً هو كلب مشرد ... فقد رداء الفرو الناعم ولم يبق في جلده شعرة واحدة , وأصبح جسده ذا لون قرمزي قاتم ضارب إلى السواد , وبرز ذيله من مؤخرته مثل عصا قصيرة..لقد أصبح معزولاً فقد نبذه مجتمع الكلاب الضالة في مدينة الرياض ولمجرد رؤيته كان الأطفال يقذفونه بالحجارة ويلوّح الكبار بالعصي في وجهه والسيارات تكاد تدهسه لولا خوف أصحابها على سياراتهم أن يلحق بها ضرر
وبعد أن طرد من مجتمع الكلاب المشرّدة , وهو مجتمع متحضّر نوعاً ما إتخذ (لايكا) لنفسه مأوى في ضواحي المدينة مع كلاب المقابر , وماهو في الحقيقة بمأوى , ولكنّه اضطر إليه , إذ كان عليه من أجل قدر ضئيل من الأرز أو بعض اللحم من جيفة أن يشتبك كل مرة في صراع منتظم مع مجتمع الكلاب المشرّدة بل بالأحرى مع مجرد رابطة كلاب جشعة وهو الذي كان يعرف (الأتكيت) والذوق والأساليب الراقية في منزل أسرة (ال مطنوخ)
وفي تلك اللحظة بالضبط كانت (رذاذ) ابنة الشيخ ساري ال مطنوخ في اليابان تتذكر (لايكا) وهي تنظر إلى صورة له في مجموع صور , وفي تلك اللحظة كان مزّمل وزوجته حليمة التكرونية ماضيين إلى سوق (سويقه) لشراء فستان للتكرونية حليمة أما (لايكا) فكان يجري مقطوع النفس راكضاً على أقدامه الضعيفة المتعبة من أجل النجاة بحياته .
تطوّر الوضع فلم يعد يعاني لايكا من عقدة وضاعة ماضيه القريب , فقد ترك المشية السريعة , وأخذ يمشي بهدوء متبختراً في طريقة متهادية , صهْ , من ذا الذي يستطيع فعل شيءٍ معه ؟
إن دخول لايكا إلى أحياء وضواحي الرياض القديمة جعل جرس الإنذار يقرع في المدينة وبدأ تناقل الأقاويل " لقد جاء ذلك الكلب يوم أمس , وطارد ابني وبدلاً من أن تثرثر ربات البيوت (التكرونيات) في أوقات فراغهن عن البلدية وغلاء (الفصفص) أو حول أثوابهن وحليّهن , بدأن يتحدثن عن ذلك "الكلب" . وعلى نحو حاسم تمت البرهنة نهائية على أن كل أحياء مدينة الرياض القديمة كانت مفرطة الحساسية لحضوره .
لقد بدأت تلك الأحياء شيئاً فشيئاً تتوجس خيفةً من (ذلك الكلب) الأجرد القرمزي الكريه المجنون . واضطر (لايكا) إلى إدخال استثناء على مشيته المتهادية في تبختر , عندما رأى كل (تكروني) يلقاه بعصا مرفوعة في وجهه ,وحتى الان لم يكن قد فقد قدرته على الجري , ولذلك فهو قادر على تحدي أي كلب مشرّد , بل على تحدي كلاب المقابر و(حمير القايلة)أيضاً حتى لو كانت أكبر من المعتاد . والمشكلة لم تتوقف عند هذا المستوى الفردي , فلقد أصبح " ذلك الكلب " سبباً عاماً للإقلاق , ولقد رفعت عروض وشكاوي إلى الجهات المختصة , وكان على موظفي وعمال البلدية الخروج لإلقاء القبض على (لايكا) حاملين هراوات منتهية بأنشوطات معدنية وعصي كهربائية , ولكن (لايكا) كان قد انطلق بسرعة الضوء , في بعض الأحيان كان يشق طريقه مباشرة إلى المواضع التي يصعب الوصول إليها , وفي أحيان أخرى كان يقفز فوق جدران التخوم العالية ويغيب , وأخيراً لم يتمكن المطاردون من العثور له على أثر .
إنّ (لايكا) الذي كان قد أصبح تهديداً لكل (تكارنة ) الشميسي والسبالة والجرادية .. غدا اليوم تحدياً لبلدية الرياض .
وفي يوم حاصره عدد من عمال البلدية , وركب مفتش الصحة بنفسه السيارة لمطاردته , ولم يكن ثمّة مهرب أمام (لايكا) فاندفع بكل قوة في سرعة سهم تحرر حشد من الناس على طرفي الطريق , ولم يكن أمام البائس (لايكا) مجال ليسلك طريقاً جانبية , فكان عليه أن يعدو باستقامتة , في هذا اليوم يجب أن يموت (ذلك الكلب) ولكن ذلك الكلب القرمزي الكريه كان يعدو مثل التماع البرق . في بعض الأحيان كان في الإمكان أن يُرى , وفي أحيان أخرى لم يكن في الإمكان ذلك وفي إثره سيارة البلدية تتعقبه في ضجيج وإذا بشاحنة أمامه , ولم تكن لدى (لايكا) المقدرة على التوقف فجأة , فاندفع مباشرة خلال الطريق , ومضى بين عجلات الشاحنة , وألصق جسمه بالأرض , مثل سحلية مثبتة على جدار , ومن خلال عجلات الشاحنة كان بالإمكان مشاهدة لسان طويل ممتد في جمود خارج فم (لايكا) .
وقفت سيارة البلدية , ومضت الشاحنة , وكان (لايكا) لايزال هناك ممدداً . وفي وقت واحد علت في الحشد الذي تجمع أصوات الشفقة وأصوات أخرى تعبر عن الإحساس بالخلاص , ثم تفرق الحشد وغاب , وكان (لايكا) لايزال راقداً مثل سحلية أكبر من حجمها الطبيعي .
وبعد قليل من الوقت رفع (لايكا) رأسه بهدوء , ونظر حوله بحذر , وببطء شديد غاب عن الأنظار .. وتنفست السبالة والشميسي والجرادية الصعداء , معبرة عن خلاصها كأنها نجت من هول وباء كان يقترب منها , وحتى اليوم لايزال سكان تلك الأحياء يتحدثون عن (لايكا) بعضهم يقول : مات لايكا في ذلك اليوم لأن الشاحنة مرّت من فوقه . والبعض الاخر يجادل مؤكداً أن (لايكا) مايزال حياً , وتدعي جماعة من تكارنة الشميسي رؤية (لايكا) في الحي . ولكن إلى الان لم نسمع بعد أحداً يسأل مثلاً : مالخطأ الذي ارتكبه (لايكا) ؟ ماذا فعل ؟ لماذا يشن (التكارنة) عليه مثل هذه الحرب؟
وماعداي أنا , وربما في أكثر الاحتمالات (مزّمل ) , فلا أحد يعرف التاريخ الكامل والسيرة الذاتية لحياة (لايكا) .
وأنا أسكن قريباً من أسرة ال مطنوخ , وتربطني بهم علاقة جوار . وفي يوم مغادرة الأسرة إلى اليابان ذهبت معهم إلى المطار لوادعهم , وكانت (رذاذ) تقف قريباً من (لايكا) وهي فتاة مرحة تتألق عيناها الخضراوان بالسعادة , ولكنها في ذلك اليوم كانت حزينة , وعندما ودعت (لايكا) انحدرت دمعتان من عينيها , وسقطت على أرض الاستراحة في المطار تبكي بكاء الثكلى على فقد الحبيب (لايك) وفي المطار رأيت (لايكا) يسير وراء التمساح (مزمّل) مثل طفلٍ خاضعٍ في بؤس .
وبعد ذلك حين أمر بمنزل (مزمل) كنت أرى السلسلة الجرداء مربوطة بالعمود في مدخل منزله , وعلى الرغم من فضولي فإنني تجنبت الكلام مع (مزمّل) بخصوص (لايكا) وماذا بإمكانه أن يقول بعد ذلك كله ؟ّ! في أفضل الأحوال سيقول : " إن (لايكا) لم يرجع " وأنا صحفي , واستخلص قصة من أي حادث عارض هو جزء من حرفتي , وكان بإمكاني إعداد قصة مثيرة عن نهاية (لايكا) أو اختفائه الغامض , ولكن حرصاً على ألا تطالع (رذاذ) الرقيقة تلك القصة مصادفةً في اليابان من خلال تصفح مواقع النت , فقد أحجمت عن كتابة القصة ونشرها في الجريدة .
وأنا أعلم أن (لايكا) لم يمت ولذلك تجاوزت السلسلة الجرداء في منزل (مزمل) وخطوت نحو ما هو أبعد من ذلك , إذ مضيت إلى المقابر للبحث عن (لايكا) من أجل عينيّ (رذاذ) ...
وهنالك ميّزته من بين عدد من الكلاب البنية والسوداء والرقطاء , وهي جميعاً من الكلاب المشرّدة . ومثل سائر كلاب المقابر كان (لايكا) قد أصبح غير معني على الاطلاق بحضور أي إنسان وقد رأيته يحوم من غير هدف , وذيله يتأرجح وراءه , وقفت أتأمله وأنا أبكي كان لايزال يحافظ على لونه القرمزي القاتم الضارب إلى السواد , ولكنه فقد أذنه اليمنى , ومما لاشك فيه أن ذلك كان نتيجة حتمية للحرب التي خاضها مع رجال البلدية , وكان يظهر على جلده نوع من الجرب , يشبه في شكله وحجمه خريطة ناتئة مجسمة . وبعيداً عن الفضول ناديته وكنت بهذه الطريقة أدخل معه تجربة قاسية , وفجأة انتصبت أذنه ثم نظر في اتجاه النداء , ولكنه
لم ير أحداً من أسرة ال مطنوخ , فراح يتشمم الأرض ونسي النداء باسمه وكأنه حلم مزعج .
وفي لحظات فراغي , أو في ليالي الأرق كنت أذكر أحياناً (لايكا) , وفي أحيانٍ أخرى أستغرق في أحلام اليقظة متفكراً في (رذاذ) فأتخيلها وقد اشترت سيراً من جلد أفعى محلّى بالألماس من أسواق اليابان هديةً من أجل (لايكا) وإذا ما وصلت أسرة ال مطنوخ فإن الطريق إلى المنزل والتي لاتزيد عن ثلاثة أميال سوف تبدو بالنسبة إلى (رذاذ) ممتدة أميالاً وأميالا ثم تسرع إلى حي الشميسي القديم لترى السلسلة الجرداء و(مزمّل) الاثم , وعندئذ سينضح وجهها الجميل الأبيض بكل دمها ,, وربما توجّب علي أن أزور أسرة ال مطنوخ بعد بضعة أيام من وصولها
وسألتقي ب (رذاذ) التي لابد أن تسألني عن الحبيب (لايكا) فلا أستطيع أن أقرر دوري في الأمر , هل أبقى صامتاً إزاء كل الحوادث المتعلقة بالكلب ؟ هل أوضح جلية الأمر أمام (رذاذ) لتعرف أن لايكا لايزال حياً ؟ ثم أقودها إلى المقابر .. مثل محقق في جريمة قتل يقود الشرطة لتكشف عن أداة الجريمة وموضعها ؟!
رجعت إلى الواقع فأحسست بالذعر .. ماذا أقول ل (رذاذ) .؟؟!!
النهاية
كان (لايكا) قد حلّ ضيفاً على أسرة" ساري ال مطنوخ " منذ نحو سنة ونصف السنة فقط وتعرّف إلى أفراد الأسرة , وسرعان ما اتخذ لنفسه مقراً في حديقة المنزل , وعبّر بطريقته الخاصة عن ارتياحه التام إلى ذلك الموضع .
ولسوء الحظ اضطرت أسرة ال مطنوخ للمغادرة إلى اليابان لنحو عام كامل على جناح السرعة فألقيت مسؤلية الاحتفاظ بالكلب لايكا على السائق النيجري (مزمل) .. وقد أعطت السيدة (نوف) 12000 ريالاً إلى السائق مزمّل , وقالت له : " لايكا يحبك كثيراً يا مزمل , لذلك من الأفضل أن يبقى معك , وقد أعطيتك هذا المبلغ , وإذا اضطررت إلى المزيد فاتصل بي , ولكن اعتن بالكلب جيداً وأحسّت السيدة (نوف) بغصة في حلقها وهي تودع الكلب لايكا ,, وقد رد عليها السائق الأمين مزمل قائلاً : عمتي نوف لاحاجة لأن تقلقي , فقد أكلت من عيشكم وملحكم سنوات , وليس كثيراً أن أرعى الكلب لأجلكم سنة واحدة .. وسرعان ما عرف (لايكا) الحقيقة المحزنة حين أخذ أفراد أسرة (ال مطنوخ) واحداً بعد اخر يربتون على ظهره مودّعين والدموع في العيون ..
ولما وصل مزمل إلى بيته في حي الشميسي ربط "لايكا" إلى عمود في مدخل البيت وعندما رأته زوجته التكرونية (حليمة) صعقت , وكأنها رأت شبحاً ,, وبدأت تكيل له الشتائم , من غير انقطاع , وبألفاظ نابية .. وبعد أن هدأت عاصفة الشتائم قليلاً حاول (مزمل) توضيح الأمر بطريقة ملائمة , ولكن كل مرة تذهب محاولاته هباء , بهجوم مضاد , ولذلك لم يجد طريقة أخرى سوى أن يعرض عليها مبلغاً من المال قدره خمسة الاف ريال ,, عندئذٍ انقشعت العاصفة في لحظة واحدة وأسرعت حليمة إلى زوجها في مشية مرحة وخطفت منه المبلغ .
ولقد حددت الخمسة الاف ريال قدَرَ (لايكا )بصورة نهائية , فقد تقرر وجوب بقائه مقيداً بالسلاسل في مدخل المنزل والاكتفاء بإطعامه مرتين في اليوم .
وجبة الإفطار ستتألف مما يجمع من بقايا المائدة , وبالنسبة للعشاء فإن كسرة من الخبز ستكون كافية , فالجائع لايميز بين طعام جيد وطعام رديء , وهكذا نسي (لايكا) في وقت قصير جداً كل شيء عن قطعة البسكويت التي كان يلتهمها في الصباح , والأرز المطبوخ باللحم والمذرور عليه توابل عند الغداء , كما نسي قطعتي الخبز المغمستين بالحليب عند العشاء .
وكان (مّزمل) يذهب إلى عمله في الصباح , ليعود منه في المساء , ولذلك فإن "لايكا" لم يُعط طعامه ولاشرابه في الأوقات المناسبة ,, وكان إذا ماقام بأي شيء طبيعي يتعلق بتكوينه الجسمي , ولو في المكان الذي هو مربوط فيه , فإن عليه أن يعاني من الضرب المبرح من قبل التكرونية حليمة , ثم أخذت تتركه من غير قيد , بعد أن يذهب زوجها مزّمل إلى عمله , فيغادر المنزل , ولايرجع إلا في وقت متأخر من الليل , وإذا ماعاتبها (مزمل) على ذلك , كان جوابها : وأين في إمكان الكلب أن يذهب ؟ فلابد له في النهاية من أن يعود إلى البيت فمن سيحتفظ بكلب ؟ ويقدم له أربع وجبات يومياً ؟ " , وفي مرات كثيرة كانت ترفع صوتها مؤكدة رأيها بحدة .
وفي بعض الأحيان كان (لايكا) يقترب من (مزمل) لدى رجوعه من البيت , وربما داعب مزمل شعره الاخذ في الانحسار , فيلعق (لايكا)ا يدَ مزمل عرفاناً منه بالجميل , وشكراً له , ولكن هذا وحده كان كافياً ليصبح (مزمل) مضطراً إلى الاستحمام الكامل , من رأسه إلى قدميه , وكأنه قد ارتكب إثماً كبيراً .
أصبح (لايكا) بعد ذلك لايرجع إلى البيت كل يوم , وإذا مارجع فإنه يرجع مرّة كل سبعة أو ثمانية أيام , وبذلك لم يعد أمر إطعامه وارداً , وأحست حليمة أنه قد فرّج عنها بتدبير (لايكا) طعامه بنفسه في الخارج , وكان (لايكا) قد أصبح هزيلاً وزال من الجذور معظم ماتبقى من فروه .
وعند تلك المرحلة بالضبط كانت تجربة (لايكا) قد بدأت تختلف , إذ كان عليه أن يدبّر طعامه بمساعيه الخاصة وعليه أن يتشاجر مع الكلاب المشرّدة , وأن يبحث عن طعامه عند المطاعم , ومحلات بيع اللحوم .. وفي أحد الأيام وقع حادث عرضي بسيط وهو في الحقيقة ليس أكثر من حادث بسيط يعرض للكلب (لايكا) وهو يبحث عن الطعام , فعند تقاطع الطرق , وفي لحظة من عدم التنبه سقطت شريحة لحم من يد البائع , وقبل أن تصل الأرض استقرت بين فكي (لايكا) الرشيقتين .. وعلى الفور انصبت فوقه من أبريق شاي كمية وافية من الماء الحار اللاهب .. وبقدر من عدم الاحتمال رجع في ذلك اليوم بجسمه العليل إلى منزل (مزّمل) حيث مأواه القديم والتفّ على نفسه , ليرتاح بهدوء في الموضع المحدد له .. وفي صباح اليوم التالي لم يكن ماراه "مزمّل " وزوجته هو الكلب (لايكا) الذي يعرفانه .. كان كلباً هزيلاً جداً حتى إنه بالإمكان أن يمر من خلال السوار الذي في معصم زوجة (مزمل) , ومن مؤخرته ينتأ ذيل مثل إصبع عجوز عجفاء , وفوق هذا كله ثمّة رقعة على ظهره تشبه قارة اسيا , قد سُلخ الجلد فيها , وظهر اللحم الأحمر , وقد بدأ يتقيّح .
وأحسّت حليمة زوجة مزمّل بشيء من الشفقة , فقالت يجب أن يؤخذ إلى طبيب بيطري , ثم مالبثت أن أضافت قائلة : ولكن من سيدفع أجرة الطبيب , وثمّة مجازفات كبيرة في علاجه , وهو بعد ذلك كله ليس بالكلب المطيع ".
وكانت عدة اتصالات ورسائل من أسرة (ساري ال مطنوخ) قد وصلت من قبل , تتضمن تساؤلات قلقة عن الكلب , ولكنها لم تلق جواباً ,, أما اليوم فقد أرسلت على الفور رسالة بالبريد الممتاز إلى (اليابان) تعظّم نكبة (لايكا) وتطلب قدراً اخر من النقود .
وفي الوقت الذي وصلت فيه النقود , لم يكن لايكا موجوداً في مدخل المنزل ينتظر العلاج فبعد الحادث بيوم واحد وقف على قوائمه الأربع الهزيلة ليبدأ مغامرةً أخرى , وكانت قد ذهبت محاولته عبثاً في لعق جراحه , إذ لم يتمكن من الوصول بلسانه إلى موضع الضرر في جسمه , وأخذ يطلق أنيناً محزناً .
لقد حزن (لايكا) بصورة كلية لفقده صحبته لأسرة ال مطنوخ , وقد نشأ عند أفرادها في عيشة مترفة , ثم سلّم أمره بعد ذلك إلى أسرة (مزمّل) مع شعوره العميق بجرح الكبرياء , ولكن عندما أصبح يحوم في الطرقات أخذ يشعر أنه مخلوق غير مرغوب فيه في مدينة (الرياض) ولذلك فهو يقف عادةً بعيداً عن الناس , يترّقب وبصبر طويل ينتظر بقايا الأطعمة حتى تلقى , كما أخذ يشعر بكدر وانحراف في المزاج , ويحس بالخزي وكأنه (مالك الحزين) .
إن اسمه لم يبق (لايكا) فلا أحد يدعوه به , فأحياناً هو مجرد كلب , وأحياناً هو كلب مشرد ... فقد رداء الفرو الناعم ولم يبق في جلده شعرة واحدة , وأصبح جسده ذا لون قرمزي قاتم ضارب إلى السواد , وبرز ذيله من مؤخرته مثل عصا قصيرة..لقد أصبح معزولاً فقد نبذه مجتمع الكلاب الضالة في مدينة الرياض ولمجرد رؤيته كان الأطفال يقذفونه بالحجارة ويلوّح الكبار بالعصي في وجهه والسيارات تكاد تدهسه لولا خوف أصحابها على سياراتهم أن يلحق بها ضرر
وبعد أن طرد من مجتمع الكلاب المشرّدة , وهو مجتمع متحضّر نوعاً ما إتخذ (لايكا) لنفسه مأوى في ضواحي المدينة مع كلاب المقابر , وماهو في الحقيقة بمأوى , ولكنّه اضطر إليه , إذ كان عليه من أجل قدر ضئيل من الأرز أو بعض اللحم من جيفة أن يشتبك كل مرة في صراع منتظم مع مجتمع الكلاب المشرّدة بل بالأحرى مع مجرد رابطة كلاب جشعة وهو الذي كان يعرف (الأتكيت) والذوق والأساليب الراقية في منزل أسرة (ال مطنوخ)
وفي تلك اللحظة بالضبط كانت (رذاذ) ابنة الشيخ ساري ال مطنوخ في اليابان تتذكر (لايكا) وهي تنظر إلى صورة له في مجموع صور , وفي تلك اللحظة كان مزّمل وزوجته حليمة التكرونية ماضيين إلى سوق (سويقه) لشراء فستان للتكرونية حليمة أما (لايكا) فكان يجري مقطوع النفس راكضاً على أقدامه الضعيفة المتعبة من أجل النجاة بحياته .
تطوّر الوضع فلم يعد يعاني لايكا من عقدة وضاعة ماضيه القريب , فقد ترك المشية السريعة , وأخذ يمشي بهدوء متبختراً في طريقة متهادية , صهْ , من ذا الذي يستطيع فعل شيءٍ معه ؟
إن دخول لايكا إلى أحياء وضواحي الرياض القديمة جعل جرس الإنذار يقرع في المدينة وبدأ تناقل الأقاويل " لقد جاء ذلك الكلب يوم أمس , وطارد ابني وبدلاً من أن تثرثر ربات البيوت (التكرونيات) في أوقات فراغهن عن البلدية وغلاء (الفصفص) أو حول أثوابهن وحليّهن , بدأن يتحدثن عن ذلك "الكلب" . وعلى نحو حاسم تمت البرهنة نهائية على أن كل أحياء مدينة الرياض القديمة كانت مفرطة الحساسية لحضوره .
لقد بدأت تلك الأحياء شيئاً فشيئاً تتوجس خيفةً من (ذلك الكلب) الأجرد القرمزي الكريه المجنون . واضطر (لايكا) إلى إدخال استثناء على مشيته المتهادية في تبختر , عندما رأى كل (تكروني) يلقاه بعصا مرفوعة في وجهه ,وحتى الان لم يكن قد فقد قدرته على الجري , ولذلك فهو قادر على تحدي أي كلب مشرّد , بل على تحدي كلاب المقابر و(حمير القايلة)أيضاً حتى لو كانت أكبر من المعتاد . والمشكلة لم تتوقف عند هذا المستوى الفردي , فلقد أصبح " ذلك الكلب " سبباً عاماً للإقلاق , ولقد رفعت عروض وشكاوي إلى الجهات المختصة , وكان على موظفي وعمال البلدية الخروج لإلقاء القبض على (لايكا) حاملين هراوات منتهية بأنشوطات معدنية وعصي كهربائية , ولكن (لايكا) كان قد انطلق بسرعة الضوء , في بعض الأحيان كان يشق طريقه مباشرة إلى المواضع التي يصعب الوصول إليها , وفي أحيان أخرى كان يقفز فوق جدران التخوم العالية ويغيب , وأخيراً لم يتمكن المطاردون من العثور له على أثر .
إنّ (لايكا) الذي كان قد أصبح تهديداً لكل (تكارنة ) الشميسي والسبالة والجرادية .. غدا اليوم تحدياً لبلدية الرياض .
وفي يوم حاصره عدد من عمال البلدية , وركب مفتش الصحة بنفسه السيارة لمطاردته , ولم يكن ثمّة مهرب أمام (لايكا) فاندفع بكل قوة في سرعة سهم تحرر حشد من الناس على طرفي الطريق , ولم يكن أمام البائس (لايكا) مجال ليسلك طريقاً جانبية , فكان عليه أن يعدو باستقامتة , في هذا اليوم يجب أن يموت (ذلك الكلب) ولكن ذلك الكلب القرمزي الكريه كان يعدو مثل التماع البرق . في بعض الأحيان كان في الإمكان أن يُرى , وفي أحيان أخرى لم يكن في الإمكان ذلك وفي إثره سيارة البلدية تتعقبه في ضجيج وإذا بشاحنة أمامه , ولم تكن لدى (لايكا) المقدرة على التوقف فجأة , فاندفع مباشرة خلال الطريق , ومضى بين عجلات الشاحنة , وألصق جسمه بالأرض , مثل سحلية مثبتة على جدار , ومن خلال عجلات الشاحنة كان بالإمكان مشاهدة لسان طويل ممتد في جمود خارج فم (لايكا) .
وقفت سيارة البلدية , ومضت الشاحنة , وكان (لايكا) لايزال هناك ممدداً . وفي وقت واحد علت في الحشد الذي تجمع أصوات الشفقة وأصوات أخرى تعبر عن الإحساس بالخلاص , ثم تفرق الحشد وغاب , وكان (لايكا) لايزال راقداً مثل سحلية أكبر من حجمها الطبيعي .
وبعد قليل من الوقت رفع (لايكا) رأسه بهدوء , ونظر حوله بحذر , وببطء شديد غاب عن الأنظار .. وتنفست السبالة والشميسي والجرادية الصعداء , معبرة عن خلاصها كأنها نجت من هول وباء كان يقترب منها , وحتى اليوم لايزال سكان تلك الأحياء يتحدثون عن (لايكا) بعضهم يقول : مات لايكا في ذلك اليوم لأن الشاحنة مرّت من فوقه . والبعض الاخر يجادل مؤكداً أن (لايكا) مايزال حياً , وتدعي جماعة من تكارنة الشميسي رؤية (لايكا) في الحي . ولكن إلى الان لم نسمع بعد أحداً يسأل مثلاً : مالخطأ الذي ارتكبه (لايكا) ؟ ماذا فعل ؟ لماذا يشن (التكارنة) عليه مثل هذه الحرب؟
وماعداي أنا , وربما في أكثر الاحتمالات (مزّمل ) , فلا أحد يعرف التاريخ الكامل والسيرة الذاتية لحياة (لايكا) .
وأنا أسكن قريباً من أسرة ال مطنوخ , وتربطني بهم علاقة جوار . وفي يوم مغادرة الأسرة إلى اليابان ذهبت معهم إلى المطار لوادعهم , وكانت (رذاذ) تقف قريباً من (لايكا) وهي فتاة مرحة تتألق عيناها الخضراوان بالسعادة , ولكنها في ذلك اليوم كانت حزينة , وعندما ودعت (لايكا) انحدرت دمعتان من عينيها , وسقطت على أرض الاستراحة في المطار تبكي بكاء الثكلى على فقد الحبيب (لايك) وفي المطار رأيت (لايكا) يسير وراء التمساح (مزمّل) مثل طفلٍ خاضعٍ في بؤس .
وبعد ذلك حين أمر بمنزل (مزمل) كنت أرى السلسلة الجرداء مربوطة بالعمود في مدخل منزله , وعلى الرغم من فضولي فإنني تجنبت الكلام مع (مزمّل) بخصوص (لايكا) وماذا بإمكانه أن يقول بعد ذلك كله ؟ّ! في أفضل الأحوال سيقول : " إن (لايكا) لم يرجع " وأنا صحفي , واستخلص قصة من أي حادث عارض هو جزء من حرفتي , وكان بإمكاني إعداد قصة مثيرة عن نهاية (لايكا) أو اختفائه الغامض , ولكن حرصاً على ألا تطالع (رذاذ) الرقيقة تلك القصة مصادفةً في اليابان من خلال تصفح مواقع النت , فقد أحجمت عن كتابة القصة ونشرها في الجريدة .
وأنا أعلم أن (لايكا) لم يمت ولذلك تجاوزت السلسلة الجرداء في منزل (مزمل) وخطوت نحو ما هو أبعد من ذلك , إذ مضيت إلى المقابر للبحث عن (لايكا) من أجل عينيّ (رذاذ) ...
وهنالك ميّزته من بين عدد من الكلاب البنية والسوداء والرقطاء , وهي جميعاً من الكلاب المشرّدة . ومثل سائر كلاب المقابر كان (لايكا) قد أصبح غير معني على الاطلاق بحضور أي إنسان وقد رأيته يحوم من غير هدف , وذيله يتأرجح وراءه , وقفت أتأمله وأنا أبكي كان لايزال يحافظ على لونه القرمزي القاتم الضارب إلى السواد , ولكنه فقد أذنه اليمنى , ومما لاشك فيه أن ذلك كان نتيجة حتمية للحرب التي خاضها مع رجال البلدية , وكان يظهر على جلده نوع من الجرب , يشبه في شكله وحجمه خريطة ناتئة مجسمة . وبعيداً عن الفضول ناديته وكنت بهذه الطريقة أدخل معه تجربة قاسية , وفجأة انتصبت أذنه ثم نظر في اتجاه النداء , ولكنه
لم ير أحداً من أسرة ال مطنوخ , فراح يتشمم الأرض ونسي النداء باسمه وكأنه حلم مزعج .
وفي لحظات فراغي , أو في ليالي الأرق كنت أذكر أحياناً (لايكا) , وفي أحيانٍ أخرى أستغرق في أحلام اليقظة متفكراً في (رذاذ) فأتخيلها وقد اشترت سيراً من جلد أفعى محلّى بالألماس من أسواق اليابان هديةً من أجل (لايكا) وإذا ما وصلت أسرة ال مطنوخ فإن الطريق إلى المنزل والتي لاتزيد عن ثلاثة أميال سوف تبدو بالنسبة إلى (رذاذ) ممتدة أميالاً وأميالا ثم تسرع إلى حي الشميسي القديم لترى السلسلة الجرداء و(مزمّل) الاثم , وعندئذ سينضح وجهها الجميل الأبيض بكل دمها ,, وربما توجّب علي أن أزور أسرة ال مطنوخ بعد بضعة أيام من وصولها
وسألتقي ب (رذاذ) التي لابد أن تسألني عن الحبيب (لايكا) فلا أستطيع أن أقرر دوري في الأمر , هل أبقى صامتاً إزاء كل الحوادث المتعلقة بالكلب ؟ هل أوضح جلية الأمر أمام (رذاذ) لتعرف أن لايكا لايزال حياً ؟ ثم أقودها إلى المقابر .. مثل محقق في جريمة قتل يقود الشرطة لتكشف عن أداة الجريمة وموضعها ؟!
رجعت إلى الواقع فأحسست بالذعر .. ماذا أقول ل (رذاذ) .؟؟!!
النهاية
تعليق