الحجل والغراب
استقبلهما صاحب الملحمة الوسيم بالترحاب والابتسامة العريضة على وجهه النضر، حين غدا الهواء في حي "وادي النسناس" في حيفا أكثر شفافية، مفعما برائحة التوابل الشرقية والمأكولات والمخبوزات التي تسيل لعاب المارة، وكأنها دعوة علنية لارتياد دكاكين ومحلات هذا الحي المحافظ على شرقيته.
اعتادت الصديقتان وداد وسعاد المقيمتان في المهجر زيارة حيفا كل سنة وقضاء بعض الأيام بزيارة المعارف والأقارب، وفي زيارتهما الأخيرة، قررتا التبضع في الأحياء الشعبية العربية للمدينة.
وداد وسعاد الانيقتان الواثقتان من نفسيهما، اللتان تخطيتا سن الخمسين وهما وافيتا النصيب من كل المزايا الانثوية وتبدوان وكأنهما في سن الثلاثين تتمشيان بروعة وأناقة كالحجل.
قدم صاحب الملحمة للسيدتين المتصابيتين كرسيين للجلوس... رفضت وداد عرضه، رغم أن صاحب الملحمة خصص زاوية جلوس جميلة لخدمة الزبائن، يقدم فيها قهوة وساندويشات بأنواع البسطرمة. نظرت وداد إليه بفوقية ارستقراطية ورمقته بنظرات متعالية من فوق لتحت، وشكرته على عرضه بتأدب مصطنع.
أما سعاد فلم تكذب خبرا، جلست سعيدة بالدعوة، فقدم لها اللحام فنجان اسبريسو واخذت ترشفه مستمتعة بالموسيقى الفيروزية التي تصدح في أجواء الملحمة، فهي بطبعها ودودة، تفتح اذنها وبئر أعماقها لأحاديث وأسرار الآخرين.
نظر اللحام صوب وداد الواقفة جانبا وسألها:
- الست أنت ابنة المربية القديرة رقية شقور؟
- نعم أنا ابنتها.
- كيف حالها؟
- وضعها الصحي في تردي.
- أمانة عليك أن توصلي لها سلامي، فأنا وأبناء جيلي نحبها جدا، فقد كانت خير مربية لنا ونحن صغار السن وما زلنا نكن لها الاحترام إلى يومنا هذا، بعد أن مضى أكثر من خمسون عاما على تلك الأيام.
- اعتادت أمي على شراء اللحوم من ملحمتك وقد أوصتني اليوم أن آتي اليك لشراء اللحوم لها.
- آه يا مربيتي الغالية، أطال الله في عمرك.
أشاحت وداد بوجهها حتى لا يواصل اللحام حديثه، فانتبهت سعاد لما حصل، ولكي تعمل على تلطيف الجو، قالت:
- ما أجمل الأجواء في دكانك، موسيقى وفرح ومرح.
أجاب اللحام ضاحكا:
- يا عزيزتي هنا ملحمة بها سكاكين حادة ونحن نحرص على أن يبقى العمال بمزاح جيد حتى لا تتطاير السكاكين في الجو، وتصيب أحدا بسوء...
ضحك الاثنان، بينما حافظت وداد على كبريائها وكأنها ما زالت طفلة تلقت التعليمات من أمها بأن لا تضحك أو أن تشارك الغرباء بأي شيء.
قدم اللحام لهما صحن به قطع حلاوة فاخرة محشية بالفستق الحلبي وفنجان قهوة آخر، فأكلت منه سعاد شاكرة، أما وداد فكانت منشغلة باختيار أنواع اللحوم ورفضت أن تمد يدها لقطع الحلاوة.
*****
وداد سيدة جميلة وغنية من أصول فلسطينية ارستقراطية جيلا بعد جيلا وقد تأصلت بها الجذور حتى النخاع. عاشت فترة طويلة في لبنان ورغم غناها الفاحش في لبنان إلا أن اللبنانيون الأصليين من طبقتها رفضوها كونها فلسطينية الأصل وكانوا يرددون بأسف: انها من بيت أصيل وممكن أن تكون صديقة لو لم تكن فلسطينية.مع مرور السنين، حافظت وداد على مسحة الجمال من الماضي البعيد. ولم تنزع عنها عنجهية الارستقراطية.
أما سعاد فتنحدر من عائلة فقيرة جدا ومع مرور الزمن أصبحت سيدة ثرية ترتدي أرقى الملابس وتتقلد أفخر أنواع الحلي وغدت تتكلم بلهجة تشبه لهجة صديقتها وداد.
*************
انتبهت سعاد بأن وداد واقفة بقربها ساكنة. لم تشاركها القهوة أو قطع الحلاوة ولا الحديث مع اللحام الشاب ولم تمنحه ولو نصف ابتسامة، فسألتها إذا انتهت من اقتناء اللحوم، وفهمت منها بأنها انتهت منذ مدة وتنتظر ان تنهي حديثها الودود مع اللحام، فما كان من سعاد إلا أن نهضت استعدادا للمغادرة، عندها عرض اللحام أن يوصلهما بسيارته إلى بيتهما على سفح جبل الكرمل ولكن وداد أشاحت بوجهها ثانية وكأنها تستغرب وقاحته بمثل هذا العرض، فتدخ لت سعاد وهي دقيقة الملاحظة للدرجة القصوى قائلة:- شكرا على هذا الاقتراح ولكننا سنزور إحدى الصديقات في وادي النسناس.
تنبه اللحام إلى اللكنة الغريبة في لهجة سعاد فسألها:
- من اين انت يا سعاد؟
- انا من قرية طرطرة.
- إذا أنت تعرفين عطا الناجي.
علقت قطعة الحلاوة في فم سعاد، وشعرت بمرارة فجائية وكأن اللحام نكأ جرحا قديما، فوقعت فريسة للحيرة وما يكدر النفس والصفا.
احتارت بما تجيبه، فعطا الناجي ابن حارتها ورتعا في نفس الملعب وتشاجرا بالأيدي وشبا في نفس الحي الفقير ولكنه بات سيء السمعة، يده طويلة ودخل السجن مرات عديدة ولم ينل أي قسط من التعليم، فزاد فقره جهلا وهو يعمل في احدى الملاحم في مدينة حيفا، وأصبحت معرفته لا تشرف أحدا... قالت لنفسها، يا للعار، هذا الرجل تعرف على صديقتها من والدتها المربية الراقية، وأنا سيتعرف علي من سيء الصيت هذا.
شطحت سعاد بأفكارها، وتذكرت قصة الغراب الذي رأى ذات مرة الحجل تتمشى بروعة وأناقة، ولأن الغراب لا يستطيع أن يمشي مشية جميلة كمشية الحجل قال محدثا نفسه لا مشكلة سوف أقلدها! وعندما فشل في التقليد، أراد أن يعود إلى مشية آبائه الغربان الأصلية التي نشأ عليها، لكنه نسي مشيته فأصبحت له مشية غريبة ومضحكة.
بلعت سعاد ريقها وأجابت وهي تلعن في سرها الحجل وكل الطيور التي تنفش ريشها بخيلاء وكأنها تريد أن تفخر بانتمائها للغراب الذي يعتبر من أذكى الطيور:
- نعم أعرفه جيدا، فهو قريبي وابن بلدي.
لقد حاولت سعاد تقليد مشية الحجل متناسية مشيتها ولو لحين، لكن جاءها ذلك الطفل الذي كشف أن الملك بدون ثياب.
منقول
تعليق