سماعة الجدة
فجأة خيم ظلام دامس، أحاط ببيت الجدة العجوز، وهرعت حفيدتها عزة إليها، لأن انقطاع الكهرباء يعني انقطاع جدتها عن الدنيا، وهو لا يقل خطورة عن انقطاع الماء أو شيء آخر من الضروريات.
لم يكن انقطاع الكهرباء مفاجئا بالنسبة لعزة، فالدولة اليهودية ما فتئت منذ أسبوعين أو أكثر وهي تهدد بقطع التيار الكهربائي، وإغراق غزة بالظلام والخوف والبرد!
الجدة رديئة البصر، لا ترى ما حولها إلا بالكاد.. ثم إنها لا تسمع إلا عن طريق سماعة صناعية، تشحن بالكهرباء، كانت هي النافذة الصناعية الأخيرة التي تطل منها على الحياة، وتتواصل فيها مع من حولها.
- جدتي... جدتي... أين أنت؟
- أنا هنا في سريري، وهل أملك فراقه؟
ثم أردفت الجدة تسأل حفيدتها باستغراب:
- لماذا انقطعت الكهرباء يا عزة؟
- إنهم اليهود قطعوا عنا التيار!
- لو استطاعوا أن يقطعوا الهواء عنا لفعلوا، لكن.. الله أكبر.
- (الله أكبر!).
رددتها عزة وراء جدتها بينما كانت تضيء بقية شمعة تمتلكها العجوز، لتقضي بعض حاجات جدتها الضرورية... ضوءها الضئيل يحاول التشبث بالبقاء، فهو ينازع ضعفه، ويدافع نفثات ريح عاصفة تزعق وتصفر في الخارج، وتحاول اقتحام غرفة الجدة من خلال الشقوق والثقوب والمسامات المتناثرة هنا وهناك.
( أفضل ما تفعله إحدانا في مثل هذا الجو هو النوم!).
هكذا قالت الجدة، وهي تودع حفيدتها، وتأوي إلى فراشها الذي لم تغادره أصلا! حتى باتت جزءا منه، لا يفارق سوادها سواده...
لم تنس العجوز أن تصدر أمرا حازما إلى عزة بإطفاء الشمعة لوقت الحاجة!
* * *
لم تشأ عزة في تلك الليلة أن تفارق جدتها، رأفة بها، ولربما تحتاج إلى مساعدتها في قلب هذه العتمة الحالكة التي تغطي جميع أرجاء غرفتها، وتمحو فيها كل المعالم والقسمات؛ فيبدو منظرا واحدا هو الظلام فقط.
انتابتها بعض مشاعر الخوف، وقفز إلى مخيلتها حشد من الصور المرعبة لأشكال من الجن والعفاريت والأشباح التي كانت جدتها تروي لها بعض حكاياتهم الأسطورية، غير أنها لم تلبث أن تبددت تلك المخاوف، وتلاشت هاتيك الصور، لأنها باتت تدرك أنها من نسج الخيال.
لكن الخوف الحقيقي الذي يملأ غرفة جدتها، بل يملأ حياتها، هو ذاك الرعب القاتل القادم مع كل غارة لليهود قد تباغتهم في أية ساعة من ليل أو نهار، وتمطرهم بوابل من القنابل والصواريخ، فتمزق الأجساد الآدمية، دون تمييز بين طفل وامرأة وشيخ مسن، أو حتى رضيع، أو قطة أليفة أو لعبة جميلة، وما تزال تذكر تلك الغارة اللئيمة التي ذهب ضحيتها أبوها وأخوها الصغير رامي، بل لم تغادر صور الأشلاء الدامية ذاكرتها أبدا.
تنفس الصبح، وتنفست معه عزة الصعداء...
لقد باتت تكره الليل كثيرا، وتستعجل رحيله! كانت تحبه من قبل، وتنتظره بشوق، لأنه كان يلم أفراد العائلة الذين يبعثرهم النهار... كل يسعى في همه، هذا في عمله، وذاك في مدرسته، وآخر يشارك في مظاهرة أو يرابط على ثغر من ثغور غزة، أو على طابور من تلك الطوابير الطويلة المملة التي تقع عليها عينك أينما ذهبت، أما عزة، فقد كانت تنفق معظم وقتها في القراءة، وأولعت بقصص المكتشفين والمخترعين، وكانت لها تجارب علمية بسيطة، هي أقرب ما تكون إلى اللعب منها إلى الجد، لكنها على كل حال كانت هوايتها المفضلة التي تشعر معها بشيء من السعادة التي فقدتها في سن مبكرة مع فقد الأحبة.
الأمر تغير الآن كثيرا، والليل بات كئيبا ثقيلا قاتلا، ولم يعد ذلك الليل الآسر الذي كان يجمع عائلة عزة (لكن باطن الأرض هو الذي بات يقوم بهذه المهمة!). هكذا قالت عزة، وهي تزفر بألم وحرقة.
استيقظت جدتي على صياح الديكة كعادتها، قبل أن ينشق الفجر، وكانت تستفتح نهارها بسعال حاد متواصل لا يلبث أن يهدأ، كان بالنسبة لي المنبه الذي اعتدت أن أستيقظ عليه يوميا. نهضت من فراشي مسرعة، وبادرتها بالتحية. تحسست يديها، وقبلتهما. قالت لي :
- الله يرضى عليك يا عزة يا حبيبتي. ثم سألتني: أمازالت الكهرباء مقطوعة؟ أشعلي لي الشمعة!
تحسست بقية تلك الشمعة، وأشعلتها بعد لأي، وهي تضطرب اضطراب الخائف، يخفت ضوءها حينا حتى يكاد يذهب، ويقوى حينا آخر كالذي حضره أجله، فهو يدفعه، ويريه من نفسه قوة تبدي ضعفه أكثر مما تبدي قوته.
بعد أن فرغت جدتي من صلاة الفجر، بادرتها قائلة:
- كيف حالك اليوم؟.
- ..........
لم تجب بشيء.. عرفت أنها لم تسمعني لكنها شعرت أني أكلمها، من خلال حركة شفتي، وراحت تبحث عن سماعتها، وبعد أن استقرت في أذنها، خاطبتني قائلة:
- ماذا قلت يا عزة؟ هل تحتاجين إلى شيء؟
- سلامتك، لا شيء غير أني كنت أطمئن عليك.
- أنا بخير، لكني أخشى نفاد الشحن في هذه السماعة ولا كهرباء. كيف ستكون حالي آنذاك؟. لا بصر ولا سمع.. لست أدري!. هذه السماعة هي نافذتي الوحيدة على هذه الدنيا، وإن كان الصمم أكثر راحة في هذه الأيام!
كانت تلك أخطر مشكلة يمكن أن تواجهها بسبب انقطاع الكهرباء، وهو ما كنت أخشاه أنا أيضا. وكان الألم يعتصرني وأنا أرى جدتي تقتصد في استعمال سماعتها، فتضعها كلما اضطرت إلى محادثتي، ثم تنزكها فورا؛ خشية نفاد الكهرباء المختزن في داخلها.
قضيت جل نهاري أفكر في حل ما، أجرب وأخرب وأحاول وأكرر، وباءت تجاربي في ذلك اليوم بالفشل، لكني لم أيأس، ومازلت أجد البحث، وأكرر المحاولة حتى اهتديت إلى فكرة أو اختراع بسيط لكنه سيحل مشكلة جدتي بكل تأكيد، ويبدد كل مخاوفها، وهو لا يكلفها جهدا يذكر سوى أن تتكلم، فتلتقط البطارية كلامها بواسطة مستقبل حساس، ويتولد عن تلك الذبذبات الصوتية طاقة تشحن بطارية سماعتها باستمرار.
سرت جدتي كثيرا باختراعي، وتلألأ وجهها بالفرح كأنه قطعة من القمر، وضمتني إلى صدرها بكلتا يديها، وأمطرتني بالقبل، وقالت لي:
سأروي لك الليلة أجمل حكاياتي، كي لا تنفد الطاقة أبدا، لكنها لن تكون عن الجن والعفاريت، ستكون حكايتي هذه الليلة عن البطل الذي ألهب ثورة "الست والثلاثين" التي عايشتها بنفسي، هل تعرفينه يا عزة؟. أنا رأيته بأم عيني... إنه الشيخ (عز الدين القسام)!
تعليق