كان يقولون : يا نوح صرت نجارا بعد النبوة ؟!
وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!
وكانوا يتضاحكون! ويتعجبون! ويرمون نوحا بالجنون والسفه.
في السفينة ، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء ، ولا يتمكن أن يعيش فيه .
فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الطاووس اثنين.. وهكذا ..
القصة كاملة
كان ـ في سالف الزمان ـ قوم مؤمنون ، يعبدون الله وحده ويعتقدون بالميعاد ، ويفعلون الخيرات ، فمات أولئك القوم ، فحزن عليهم الناس لصلاحهم وأخلاقهم ، فعمل بعض تماثيل أولئك ، وكانوا يسمون بهذه الأسماء : ود ، سواع ، يغوث ، يعوق ، نسر ..
وأنس الناس بهذه التماثيل ، وجعلوها رمزا لأولئك النفر الصلحاء الذين ماتوا منهم ، وكان أهل المدينة يعظمون هذه الصور ، قصدا إلى تعظيم أولئك الأموات .
مضى الصيف ، وجاء الشتاء ، فأدخلوا الصور في بيوتهم ، ومضى زمان.. وزمان .. حتى مات الآباء وكبر الأبناء ، فجعلوا يضيفون في احترام هذه التماثيل ، ويخضعون أمامها ، وأخذت التماثيل من نفوس أولئك القوم مأخذا عظيما ، وإذا بالجيل الثاني ، شرعوا يعبدون الصور .. ويقولون إنها آلهة ، يجب السجود لها ، والخضوع أمامها . فعبدوها ، وضل منهم خلق كثير .
وحينذاك ، بعث الله إلى أولئك القوم نوحا (عليه السلام) ليرشدهم إلى الطريق .. وينهاهم عن عبادة الأصنام .. ويهديم إلى عبادة الله تعالى ..
فجاء نوح إلى القوم. . (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) فكذبوه ، ولم يقبلوا منه ، فأنذرهم من عذاب الله تعالى .
قال: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) .
(قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين) .
(قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وانصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) .
فتعجب القوم من مقالة نوح .. وجعلوا يقولون : أنت بشر مثلنا ، فكيف تكون رسولا من عند الله؟ وإن الذين اتبعوك هم جماعة من الأراذل والسفلة .. ثم لا فضل لكم علينا ، فلستم أكثر منا مالا أو جاها .. وإنا نظن إنكم كاذبون في هذه الادعاءات .. وقال بعض القوم لبعض : (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم إن هو إلا رجل به جنة)
وشجع بعض القوم بعضا، في عبادة أصنامهم (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) .
ولما طال حوارهم وجدالهم ، قال نوح : ( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) ؟ وأخذ نوح (عليه السلام) جانب اللين واللطف ، ولكن القوم لم يزيدوا إلا عنادا .
ولكن نوحا (عليه السلام) لم ييأس منهم ، بل كان يأتيهم كل صباح ومساء ، ويدعوهم وينذرهم بلطف ولين .. وكان القوم إذا جاءهم نوح للدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) حتى لا يسمعوا كلامه ( واستغشوا ثيابهم ) تغطوا بها حتى لا يروه ، وكثيرا ما هاجموه ، وضربوه حتى يغشى عليه ! لكن نوحا النبي العظيم العطوف الحليم ، كان إذا أفاق يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
وفي مرات أنهكوه ضربا وصفعا ، حتى جرت الدماء عن مسامعه الكريمة ، وهو مع ذلك كله كان يلطف بهم ، ويدعوهم إلى الله تعالى ، فكانوا يقولون : لم (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) ؟
حتى علم أنه لا يفيدهم النصح ، فتوجه إلى الله تعالى ، ضارعا ، وبين كيفية ردهم إياه (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) ، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) .
(ثم إني دعوتهم جهارا) ، (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) ، (يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) .
واختلق بعض أولئك الكفار عذرا تافها .. فقالوا : (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)؟ فإن أردت هدايتنا ، وإعزازنا لك ، فاطرد هؤلاء الأرذلين الذين آمنوا بك عن حوزتك .. فإنا لا نستطيع أن نقرن بهؤلاء فكيف نستجيب لدين يستوي فيه الشريف والوضيع ، والكبير والصغير؟
فأجابهم نوح (عليه السلام) ، بلهجة كلها حنان وتذكير : (قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) ، (وما أنا بطارد المؤمنين)! (وما أنا بطارد الذين آمنوا) وكيف أطرد جماعة آمنوا بي، وآزروني وساعدوني على نشر الدعوة؟ (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون)؟ (إن أنا إلا نذير مبين) أنذر الناس على حد سواء، من غير فرق بين الشريف والوضيع ، والغني والفقير ، والكبير والصغير .
ولما انقطع القوم عن الاحتجاج .. ولم يتمكنوا من رد الأدلة التي ذكرها نوح (عليه السلام) ، أخذوا يهددونه ، بالرجم بالحجارة (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) .
وقد علم نوح (عليه السلام) أنهم لا يقبلون منطقا ، ولا يهتدون ، فضرع إلى الله تعالى ، في أن ينجيه من هؤلاء المعاندين (قال رب إن قومي كذبون) ، (فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين).
وحيث كان نوح يخوف قومه من عذاب الله ، إن أصروا على الكفر .. قال بعضهم ، استهزاء : إلى متى تهددنا بعذاب الله؟ (فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
فأجابهم نوح : إن هذا الأمر ليس بيدي .. و(إنما يأتيكم به الله إن شاء) .
ثم توجه إليهم في تحسر، وقال: (لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم..).
وعند ذاك توقع النصر من الله تعالى.. وانتظر الوحي ليعلم أنه ما ينبغي أن يصنع بهؤلاء القوم؟ فأوحى إليه الله تعالى : ( إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) .وإذ تمت الحجة .. وانقطعت الأعذار ، وطالت الدعوة ما يقرب من عشرة قرون ، يئس نوح منهم يأسا باتا ، وأشفق على أولادهم وأحفادهم أن يأخذوا طريقة الآباء في الكفر والإلحاد ، فدعا إلى الله تعالى ، قائلا : (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) .
وحينئذ أمره الله تعالى أن يغرس النخل فإذا أثمر نزل عليهم العذاب ، وقد كان من مقتضى عدل الله تعالى أن لا يعذب طفلا صغيرا بذنوب الآباء .. فعقم أرحام النساء أربعين سنة ، فلم يولد لهم مولود ولم يبق لهم طفل غير مكلف.
وفي تلك المدة شرع نوح في غرس النخل، فكان القوم يمرون به ويسخرون منه، ويستهزئون به ، وكانوا يرمونه بالحجارة ..
ولما بلغ النخل ، وانقضت خمسون سنة ، أمر نوح بقطعه .. فقالوا : إن هذا الشيخ قد خرف .. وبلغ منه الكبر مبلغه!
مرة يقول: أنا رسول ..
ومرة يغرس النخل ..
ومرة يأمر بقطعة ؟
ولما اكتمل الأمر وصارت المدة ألف سنة إلا خمسين عاما ، أوحى الله إليه بصنع السفينة (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا) ،
فأخذ نوح (عليه السلام) يصنع الفلك ،
(ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) !
فكان بعضهم يقول: أيها النبي ، لم عدلت عن رسالتك إلى النجارة ؟
وبعضهم كان يقول: يا نوح صرت نجارا بعد النبوة ؟!
وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!
وكانوا يتضاحكون! ويتعجبون! ويرمون نوحا بالجنون والسفه.
في السفينة ، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء ، ولا يتمكن أن يعيش فيه .
فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الطاووس اثنين.. وهكذا ..
وبالجملة فقد صنع في السفينة اكبر حديقة حيوانية شاهدها العالم ،
وجمع في السفينة لكل حيوان من طعامه الخاص مبلغا كثيرا ، هكذا شاء الله.
وحمل الذين آمنوا به ، وكان عددهم ثمانين شخصا .. (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربي لغفور رحيم).
وكان لنوح (عليه السلام) زوجتان ، إحداهما مؤمنة ، والثانية كافرة .. وكانت الزوجة الكافرة تؤذي نوحا ، وتقول للناس : إن زوجي مجنون وإذا آمن أحد ، أخبرت الكفار .
وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى هذه الزوجة ، حيث يقو ل: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين).
ولما ركب نوح (عليه السلام) السفينة ، اركب معه الزوجة المؤمنة ، وترك الكافرة ، فغرقت مع سائر الكفار .
ولما ركب نوح والذين آمنوا معه السفينة ، وأركب جميع الحيوانات ، كلا في موضعه .. كسفت الشمس ، وأخذت السماء تمطر مطرا غزيرا ، وطفقت عيون الأرض تنبع بالمياه الكثيرة (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) منصب انصبابا شديدا لا ينقطع (وفجرنا الأرض عيونا) حتى جرت المياه على وجه الأرض (فالتقى الماء) ماء الأرض وماء السماء ، حتى صار العالم كبحر كبير .
واستمر هطول الأمطار ونبع العيون أربعين يوما ، وفي تلك الأثناء ، كانت السفينة تجري فوق ظهر الماء حسب هبوب الرياح ، وإذا بنوح (عليه السلام) يشرف من السفينة فيرى ولده ، يقع مرة، ويقوم أخرى ، يريد الفرار من الغرق ، فناداه : (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) . لكن الابن العاق أبى قبول نصيحة والده الشفيق ، وأجاب نوحا (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء).
فنظر إليه نوح نظر مشفق ، وقال : (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم). ولكن عناد الولد ، وإصراره على الكفر حال بينه وبين قبول نصح أبيه ، فلم يركب السفينة ، وكانت السفينة حينذاك (تجري في موج كالجبال).
وبعد برهة من هذه المحاورة (حال بينهما) بين نوح وولده (الموج فكان من المغرقين). وأخذت نوح (عليه السلام) الرقة على ولده، فتضرع إلى الله تعالى في نجاة ابنه الغريق، فإن الله تعالى كان قد وعده بنجاة أهله، فقال نوح (عليه السلام):
(رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين).
ولكن الله تعالى ، كان قد وعد نجاة أهل نوح الذين كانوا من الصالحين ، ولذا أجابه:
(يا نوح إنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح) .
بعدما غمر الماء جميع الأرض ، وهلك كل كافر (قيل يا أرض ابلعي ماءك)! فغاص الماء الذي نبع من الأرض ،
وأوحى إلى السماء : (يا سماء اقلعي) وكفي عن الانصباب والمطر، فانقطع المطر (واستوت) السفينة (على الجودي) وهو جبل، أرست السفينة عليه ، وأخذت المياه التي بقيت على الأرض من الأمطار ، تتسرب إلى البحار .
وأوحى إلى نوح (عليه السلام): (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) فنزل نوح من السفينة ، ونزل المؤمنون الذين كانوا معه ، وبنوا مدينة ، وغرسوا الأشجار ، وأطلقوا الحيوانات التي كانت معهم .
وبدأت عملية اعمار الارض من جديد .....
وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!
وكانوا يتضاحكون! ويتعجبون! ويرمون نوحا بالجنون والسفه.
في السفينة ، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء ، ولا يتمكن أن يعيش فيه .
فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الطاووس اثنين.. وهكذا ..
القصة كاملة
كان ـ في سالف الزمان ـ قوم مؤمنون ، يعبدون الله وحده ويعتقدون بالميعاد ، ويفعلون الخيرات ، فمات أولئك القوم ، فحزن عليهم الناس لصلاحهم وأخلاقهم ، فعمل بعض تماثيل أولئك ، وكانوا يسمون بهذه الأسماء : ود ، سواع ، يغوث ، يعوق ، نسر ..
وأنس الناس بهذه التماثيل ، وجعلوها رمزا لأولئك النفر الصلحاء الذين ماتوا منهم ، وكان أهل المدينة يعظمون هذه الصور ، قصدا إلى تعظيم أولئك الأموات .
مضى الصيف ، وجاء الشتاء ، فأدخلوا الصور في بيوتهم ، ومضى زمان.. وزمان .. حتى مات الآباء وكبر الأبناء ، فجعلوا يضيفون في احترام هذه التماثيل ، ويخضعون أمامها ، وأخذت التماثيل من نفوس أولئك القوم مأخذا عظيما ، وإذا بالجيل الثاني ، شرعوا يعبدون الصور .. ويقولون إنها آلهة ، يجب السجود لها ، والخضوع أمامها . فعبدوها ، وضل منهم خلق كثير .
وحينذاك ، بعث الله إلى أولئك القوم نوحا (عليه السلام) ليرشدهم إلى الطريق .. وينهاهم عن عبادة الأصنام .. ويهديم إلى عبادة الله تعالى ..
فجاء نوح إلى القوم. . (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) فكذبوه ، ولم يقبلوا منه ، فأنذرهم من عذاب الله تعالى .
قال: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) .
(قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين) .
(قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وانصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) .
فتعجب القوم من مقالة نوح .. وجعلوا يقولون : أنت بشر مثلنا ، فكيف تكون رسولا من عند الله؟ وإن الذين اتبعوك هم جماعة من الأراذل والسفلة .. ثم لا فضل لكم علينا ، فلستم أكثر منا مالا أو جاها .. وإنا نظن إنكم كاذبون في هذه الادعاءات .. وقال بعض القوم لبعض : (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم إن هو إلا رجل به جنة)
وشجع بعض القوم بعضا، في عبادة أصنامهم (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) .
ولما طال حوارهم وجدالهم ، قال نوح : ( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) ؟ وأخذ نوح (عليه السلام) جانب اللين واللطف ، ولكن القوم لم يزيدوا إلا عنادا .
ولكن نوحا (عليه السلام) لم ييأس منهم ، بل كان يأتيهم كل صباح ومساء ، ويدعوهم وينذرهم بلطف ولين .. وكان القوم إذا جاءهم نوح للدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) حتى لا يسمعوا كلامه ( واستغشوا ثيابهم ) تغطوا بها حتى لا يروه ، وكثيرا ما هاجموه ، وضربوه حتى يغشى عليه ! لكن نوحا النبي العظيم العطوف الحليم ، كان إذا أفاق يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
وفي مرات أنهكوه ضربا وصفعا ، حتى جرت الدماء عن مسامعه الكريمة ، وهو مع ذلك كله كان يلطف بهم ، ويدعوهم إلى الله تعالى ، فكانوا يقولون : لم (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) ؟
حتى علم أنه لا يفيدهم النصح ، فتوجه إلى الله تعالى ، ضارعا ، وبين كيفية ردهم إياه (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) ، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) .
(ثم إني دعوتهم جهارا) ، (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) ، (يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) .
واختلق بعض أولئك الكفار عذرا تافها .. فقالوا : (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)؟ فإن أردت هدايتنا ، وإعزازنا لك ، فاطرد هؤلاء الأرذلين الذين آمنوا بك عن حوزتك .. فإنا لا نستطيع أن نقرن بهؤلاء فكيف نستجيب لدين يستوي فيه الشريف والوضيع ، والكبير والصغير؟
فأجابهم نوح (عليه السلام) ، بلهجة كلها حنان وتذكير : (قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) ، (وما أنا بطارد المؤمنين)! (وما أنا بطارد الذين آمنوا) وكيف أطرد جماعة آمنوا بي، وآزروني وساعدوني على نشر الدعوة؟ (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون)؟ (إن أنا إلا نذير مبين) أنذر الناس على حد سواء، من غير فرق بين الشريف والوضيع ، والغني والفقير ، والكبير والصغير .
ولما انقطع القوم عن الاحتجاج .. ولم يتمكنوا من رد الأدلة التي ذكرها نوح (عليه السلام) ، أخذوا يهددونه ، بالرجم بالحجارة (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) .
وقد علم نوح (عليه السلام) أنهم لا يقبلون منطقا ، ولا يهتدون ، فضرع إلى الله تعالى ، في أن ينجيه من هؤلاء المعاندين (قال رب إن قومي كذبون) ، (فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين).
وحيث كان نوح يخوف قومه من عذاب الله ، إن أصروا على الكفر .. قال بعضهم ، استهزاء : إلى متى تهددنا بعذاب الله؟ (فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
فأجابهم نوح : إن هذا الأمر ليس بيدي .. و(إنما يأتيكم به الله إن شاء) .
ثم توجه إليهم في تحسر، وقال: (لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم..).
وعند ذاك توقع النصر من الله تعالى.. وانتظر الوحي ليعلم أنه ما ينبغي أن يصنع بهؤلاء القوم؟ فأوحى إليه الله تعالى : ( إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) .وإذ تمت الحجة .. وانقطعت الأعذار ، وطالت الدعوة ما يقرب من عشرة قرون ، يئس نوح منهم يأسا باتا ، وأشفق على أولادهم وأحفادهم أن يأخذوا طريقة الآباء في الكفر والإلحاد ، فدعا إلى الله تعالى ، قائلا : (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) .
وحينئذ أمره الله تعالى أن يغرس النخل فإذا أثمر نزل عليهم العذاب ، وقد كان من مقتضى عدل الله تعالى أن لا يعذب طفلا صغيرا بذنوب الآباء .. فعقم أرحام النساء أربعين سنة ، فلم يولد لهم مولود ولم يبق لهم طفل غير مكلف.
وفي تلك المدة شرع نوح في غرس النخل، فكان القوم يمرون به ويسخرون منه، ويستهزئون به ، وكانوا يرمونه بالحجارة ..
ولما بلغ النخل ، وانقضت خمسون سنة ، أمر نوح بقطعه .. فقالوا : إن هذا الشيخ قد خرف .. وبلغ منه الكبر مبلغه!
مرة يقول: أنا رسول ..
ومرة يغرس النخل ..
ومرة يأمر بقطعة ؟
ولما اكتمل الأمر وصارت المدة ألف سنة إلا خمسين عاما ، أوحى الله إليه بصنع السفينة (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا) ،
فأخذ نوح (عليه السلام) يصنع الفلك ،
(ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) !
فكان بعضهم يقول: أيها النبي ، لم عدلت عن رسالتك إلى النجارة ؟
وبعضهم كان يقول: يا نوح صرت نجارا بعد النبوة ؟!
وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!
وكانوا يتضاحكون! ويتعجبون! ويرمون نوحا بالجنون والسفه.
في السفينة ، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء ، ولا يتمكن أن يعيش فيه .
فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الطاووس اثنين.. وهكذا ..
وبالجملة فقد صنع في السفينة اكبر حديقة حيوانية شاهدها العالم ،
وجمع في السفينة لكل حيوان من طعامه الخاص مبلغا كثيرا ، هكذا شاء الله.
وحمل الذين آمنوا به ، وكان عددهم ثمانين شخصا .. (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربي لغفور رحيم).
وكان لنوح (عليه السلام) زوجتان ، إحداهما مؤمنة ، والثانية كافرة .. وكانت الزوجة الكافرة تؤذي نوحا ، وتقول للناس : إن زوجي مجنون وإذا آمن أحد ، أخبرت الكفار .
وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى هذه الزوجة ، حيث يقو ل: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين).
ولما ركب نوح (عليه السلام) السفينة ، اركب معه الزوجة المؤمنة ، وترك الكافرة ، فغرقت مع سائر الكفار .
ولما ركب نوح والذين آمنوا معه السفينة ، وأركب جميع الحيوانات ، كلا في موضعه .. كسفت الشمس ، وأخذت السماء تمطر مطرا غزيرا ، وطفقت عيون الأرض تنبع بالمياه الكثيرة (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) منصب انصبابا شديدا لا ينقطع (وفجرنا الأرض عيونا) حتى جرت المياه على وجه الأرض (فالتقى الماء) ماء الأرض وماء السماء ، حتى صار العالم كبحر كبير .
واستمر هطول الأمطار ونبع العيون أربعين يوما ، وفي تلك الأثناء ، كانت السفينة تجري فوق ظهر الماء حسب هبوب الرياح ، وإذا بنوح (عليه السلام) يشرف من السفينة فيرى ولده ، يقع مرة، ويقوم أخرى ، يريد الفرار من الغرق ، فناداه : (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) . لكن الابن العاق أبى قبول نصيحة والده الشفيق ، وأجاب نوحا (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء).
فنظر إليه نوح نظر مشفق ، وقال : (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم). ولكن عناد الولد ، وإصراره على الكفر حال بينه وبين قبول نصح أبيه ، فلم يركب السفينة ، وكانت السفينة حينذاك (تجري في موج كالجبال).
وبعد برهة من هذه المحاورة (حال بينهما) بين نوح وولده (الموج فكان من المغرقين). وأخذت نوح (عليه السلام) الرقة على ولده، فتضرع إلى الله تعالى في نجاة ابنه الغريق، فإن الله تعالى كان قد وعده بنجاة أهله، فقال نوح (عليه السلام):
(رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين).
ولكن الله تعالى ، كان قد وعد نجاة أهل نوح الذين كانوا من الصالحين ، ولذا أجابه:
(يا نوح إنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح) .
بعدما غمر الماء جميع الأرض ، وهلك كل كافر (قيل يا أرض ابلعي ماءك)! فغاص الماء الذي نبع من الأرض ،
وأوحى إلى السماء : (يا سماء اقلعي) وكفي عن الانصباب والمطر، فانقطع المطر (واستوت) السفينة (على الجودي) وهو جبل، أرست السفينة عليه ، وأخذت المياه التي بقيت على الأرض من الأمطار ، تتسرب إلى البحار .
وأوحى إلى نوح (عليه السلام): (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) فنزل نوح من السفينة ، ونزل المؤمنون الذين كانوا معه ، وبنوا مدينة ، وغرسوا الأشجار ، وأطلقوا الحيوانات التي كانت معهم .
وبدأت عملية اعمار الارض من جديد .....
تعليق