انييس فيرلي: الكتابة على حافة الهاوية / ترجمة : رشيد مرون
الكتابة على حافة الهاوية*
انييس فيرلي ترجمة: رشيد مرون
إذا كان للكتابة صلة ما عميقة مع الاكتئاب، فإن هذه الصلة تكمن في كون الكتابة تمكن المبدع من الابتعاد عن تصوير موته الخاص. فلنستعرض إذن علاقة الكاتب بظلمات الاكتئاب، منذ شاطوبريان حتى ستيرون.بالنسبة لمن عرف الاكتئاب، فإن هذه الحالة النفسية تتميز باستعصائها على الوصف، بحيث لا يمكن التعبير عنها بالصور المجازية: إنها قوة غامضة، سديم، غرق، جنوح، نزول نحو الجحيم، سقوط في قعر بئر. ويعرفها الكاتب ستيرون بكونها: «يأسا أعمق من اليأس»، «عاصفة من الظلمات وارتماءة في الهاوية...». أما الروائي كليمون روسي فقد شبه الإنسان المصاب بالاكتئاب بالغريق الذي يحاول العودة إلى الشط دون أن يتمكن من ذلك أبدا. وعندما يكتشف الموسيقي ورثيمر دو طوكاس برنارد أنه لا يمتلك عبقرية العزف على البيانو مثل غلين غولد Glenn (GOULD) فإنه يتحول إلى غريق يهوي في خندق الشك واليأس والاكتئاب والانتحار.سوف يقودنا التساؤل حول علاقة الاكتئاب بالإبداع الأدبي إلى أزمنة سحيقة، إلى حقبة كان جوب (Job) يملأ خلالها العالم بشكواه وأنينه، ويتحدث فيها سينيك (Sénéque) عن عياء الكائن من وجوده، هذا العياء الذي يدفعه نحو الانتحار. كما سيقودنا نفس التساؤل إلى فترة قريبة كان شاطوبريان يصف فيها مرض بطله رونيه بكونه «موجة من العواطف، رغبة لا تتقصد هدفا محددا، بل تترك صاحبها يتخبط في الحيرة». لكن، لا يمكن تعريف هذه الحالة باعتبارها مرادفا للسأم من الحياة أو الملنخوليا فقط. يصعب إذن ضبط هذا المرض المتميز الذي يطال مجتمعنا تحت اسم الاكتئاب، والذي ينزع للتحول إلى مرض عالمي اعتيادي، وإلى جزء من الحياة اليومية، وإلى الخروج من حقل التحليل والطب النفسي ليصبح ظاهرة اجتماعية. سوف نتبع خطا عكسيا ينطلق من التجليات الأدبية الحالية والمعاصرة لهذه الظاهرة في بحثنا الرامي إلى تحديد ماهية العلاقة بين الاكتئاب والإبداع الأدبي.لم يدخل الاكتئاب تحت هذا الاسم والوصف الإكلينيكي من طرف من أصيبوا به إلى عالم الأدب إلا منذ فترة وجيزة. إذ يؤكد كليمون روسي في «جولات ليلية» (1999)، أنه لن يتحدث عن نفسه وعن «مرض النوم» خلال فترة إصابته بالاكتئاب، إلا بسبب الطابع «التوثيقي» والعلمي الذي يمكن أن يأخذه هذا الحديث، مسترجعا بذلك نفس الموقف الأدبي الذي عبر عنه نيرفال وموباسان من قبل. روسي يعرف اكتئابه بوصفه «انهيارا شاملا للطاقة، إجهادا يمس الجسد والفكر والمعنويات»، ويجد تجليه في الإحساس بالخدر وفقدان الشهية واضطرابات النوم. ويوضح الكاتب أن حالته هذه نجمت عن حادثة حزينة سوف يعلنها للقراء.لا يرجع وليام ستيرون اكتئابه لحالة حداد أو افتقاد («قبالة الظلمات، يوميات جنون». 1990) بل إلى قدر لا يحتمل من النجاحات يرافقه إحساس الكاتب بكونه غير جدير بها، وقد أحس بأولى أعراض إصابته عندما قدم إلى باريس لتسلم جائزة أدبية مرموقة. لذا يقول: «الاكتئاب اضطراب عقلي جد غامض وقاس وعصي على الفهم بسبب الطريقة التي ينال بها من الذات، والذكاء الذي يستخدمه في هجومه عليها إلى درجة أنه يفلت من كل محاولات الوصف».لكن، وبعيدا عن هذه الاستعارات، تبدو التعريفات التي يعطيها كل من ستيرون، وروسي لمرضهما متناقضة إلى أبعد حد. يحتج ستيرون الذي يربط الاكتئاب بالملنخوليا التي تعبر وحدها عن الأشكال الأشد سوداوية لهذا المرض، على استخدام كلمة اكتئاب، ويعتبره مصطلحا «ذا وقع باهت لا يتضمن أي بعد علمي دقيق، يمكن استخدامه [في اللغة الفرنسية] للتعبير عن حالات الكساد الاقتصادي أو عن اثار الخطى في التراب، إنه مصطلح غير صالح البتة للإحالة على مرض بهذه الدرجة من الخطورة». أما روسي فيتبنى استعارة الكساد الاقتصادي لوصف: «الإرهاق المصاحب للاكتئاب والانهيار الجسدي والنفسي والعقلي الذي يخلفه بشكل يذكر بإرهاق عملة مصرف وطني ما بسبب عمليات المضاربة. ولإبعاد المضاربين يعتمد البنك على احتياطاته وصولا إلى تخفيض قيمة عملته: هكذا نصارع الاكتئاب، نصمد ونصمد، لكن باستنزاف احتياطاتنا، وعندما تنفذ نواجه كارثة الإفلاس، الانهيار، المرض». وقد استعمل سكوت فيتز جرالد نفس الاستعارة الاقتصادية في 1936 عندما تحدث عن الانكسار والاندثار: «عن تفكك الذات وفقدان السعادة أو وهم السعادة الذي كان يسندنا في الماضي. إن الاكتئاب ليس شيئا عاديا، وشعوري بالاكتئاب يجد صداه في موجة اليأس التي طالت بلادي بعد نهاية فترة الرفاه».ها نحن في صلب المشكلة: الاكتئاب في علاقته مع الوضعية الاقتصادية والسياسية، الاكتئاب من حيث هو مرض ينتجه العالم المعاصر والمجتمع الصناعي. إنه «زمن الخواء» الذي أدانه ليبوفتسكي في 1983، هذا الزمن الذي ينتج الفردانية والنرجسية. وقد خلق هذا الوضع على المستوى الأدبي نوعا جديدا من الشخصيات الروائية العدمية مثل شخصية مهندس المعلوميات عند هوولبيك في رواية «توسيع حقل النضال» (1994) الذي ينتظر دون تأثر تشخيص طبيبه لمرضه النفسي قبل أن يعلنه لرئيسه في العمل قائلا: «أخبرته على الفور بأنني مصاب بالاكتئاب، لام القدر ثم تراجع. طال حوارنا بلطف لنصف ساعة، لكنني كنت أعلم أن ثمة جدارا غير مرئي قد نشأ بيننا منذ تلك اللحظة، لن يعتبرني أبدا ندا له منذ الان، ولا وريثا محتملا لمسؤولياته. لم أعد موجودا في نظره، لقد انهرت. سوف يطردونني بمجرد انتهاء إجازتي المرضية القانونية بعد شهرين، ذلك ما يفعلونه عادة مع حالات الاكتئاب. شاهدت نماذج عديدة».وحول العلاقات بين الاكتئاب والمجتمع قدم الان إيرنبورغ رؤية ثقافية في «عياء الذات من كينونتها»، فاعتبر أن الاكتئاب بالمعنى الدقيق قد بدأ في الخمسينات. شرعنا في الحديث عنه مع ابتكار الأدوية المؤثرة على الأعصاب (1952) ومضادات الاكتئاب (1957). لكن، إذا كان العلاج الكيماوي قد شكل تقدما هاما في الطب النفسي، فإن أنصاره الأوائل مثل جان دولاي وهنري إي الذي عرف المرض العقلي باعتباره «مرضا يطال الحرية»، قد شددوا على وجوب إرفاق العلاج الكيماوي بالعلاج النفسي. لكن ما يلاحظ هو التناقص المطرد للمكانة المخصصة عادة للكلام، أي للتحليل النفسي، فيما أخذ علم النفس في الاقتراب من علم الأعصاب، وشرعت الصناعات الصيدلية في التطور وتعاظمت قدراتها. ومنذ السبعينات وسع شيوع استخدام الأدوية النفسية مجال الاكتئاب وأعراضه: أخذ الاكتئاب يمتد ويصير شيئا عاديا، فيما خرج علاجه من حقل الطب النفسي والتحليل النفسي إلى مجال الطب العام. أصبح مصطلح اكتئاب يشمل مجموعة كبيرة من الأعراض أوضحها الإرهاق والأرق والقلق، لكنها شديدة التنوع والذاتية، فيما اتجه العلاج بالأدوية نحو التبسيط والتوحد، مثلما أبان عن ذلك نجاح دواء البروزاك؛ لكن، بينما كان الطب النفسي يهدف لعلاج الأعراض، ولتفريغ المكبوتات ولإبعاد مصادر القلق، راح الطب العام يزعم القدرة على تدبير القلق والإحساس بلا جدوى الحياة، محاولا جعل الفرد أكثر إنتاجية ومحاولا إعطاءه الهدوء أو السعادة التي ينتظرها. لذا يمكن اعتبار الكاتبين روسي وستيرون شاهدين «أدبيين» على هذا الاتجاه الطبي. فقد عمل كلاهما على تحليل تأثير الأدوية على الحياة النفسية والنوم والاضطرابات المختلفة للإنسان. بالنسبة لروسي فالأدوية تسمح بمراوغة نوبات القلق وتقليم مخالب ليالي الكوابيس. وهو يحلل التغيرات العجيبة لأحلامه وكوابيسه، هذه التغيرات التي تترافق مع تغييره لنوعية الأدوية المتناولة. لكن ستيرون يوجه نقدا أكبر للوصفات الطبية ولأعراضها الجانبية التي لا تناسب خصوصية كل حالة اكتئاب، لأن لهذا المرض وجوها متعددة تعكس مسلكيات فردية خاصة، ليخلص إلى لا جدوى الأدوية، ويعتبر أن سبب شفائه يعود لعنصرين فقط: العزلة ومرور الوقت.إن اشتغال الزمن والاشتغال على الذات الذي يحرمنا منه مجتمعنا هو ما يجبر الأفراد على السقوط في «مرض القرن»، الذي خلقته نفس هذه المجتمعات، وراحت الصيدلة والصناعة تدعيان إمكانية علاجه بتكاليف بسيطة.لكن المشكلة أن الاكتئاب ليس ظاهرة متجانسة، فكل حالة منه لها خصائص متميزة وتعبيرات فردية مرتبطة بمعاناة شخص واحد. إن ما يتقاسمه جميع البشر وما يميزهم هو علاقتهم الخاصة مع الزمن ومع الموت، مع الحياة المنذورة للموت ومع تراجيديا الوجود. إن للاكتئاب، كيفما كانت تمظهراته النفسية أو الجسدية، علاقة ما مع الملنخوليا التي عرفها فرويد «بمثابة اكتئاب عميق مؤلم، وتجميد للاهتمام بالعالم الخارجي، وفقدان القدرة على الحب، وبمثابة كبت لكل نشاط، ونقص في احترام الذات». لكن، وعكس حالة الحداد التي يتألم فيها الشخص على فقد شخص أو شيء محبوب، فإن المكتئب يشكو من فقدانه لذاته، إن لهذا المرض علاقة مع النرجسية.لذا، فلن نتعجب إذا وجدنا اثارا عديدة للاكتئاب ولحالاته في النصوص الأدبية التي تنتمي لفن السيرة الذاتية مثل اليوميات، أو الروايات ذات البعد الخيالي الضعيف. ويعتبر «الكتاب المتكسر»Le livre brisé لسيرج دوبروفسكي و»الوقائع» لفيليب روث قصتي حالتي اكتئاب أصابت الكاتبين، وحاولا تدوين مراحلها بعد اجتيازها، الشيء الذي يعطي للكتابة هنا طابع التعويض. وعندما أهدى روث كتابه لأخيه، كان يبدو واعيا أنه وصل إلى مرحلة الوعي بفضل الكتابة: «في لحظة التأمل التي أعقبت الانهيار، لأجل استرجاع ما فقدته، كان علي أن أعود للحظة الأولى، لكنني لم أجدها بل عثرت على سلاسل من اللحظات، على حكاية ذات مصادر جد متعددة أدونها هنا لأستعيد السيطرة على حياتي». إن استعادة الكاتب السيطرة على حياته وعلى تاريخه، لا تعادل فقط استرجاع شيء مفقود، بل استعادة إحساس وجودي أقوى وأشمل وأكثر إثارة للقلق، غالبا ما ينكتب على خلفية اثار ذكرى مؤلمة قديمة جدا، قريبة مما يسميه فينيكوت «الخوف من الانهيار».وإذا كان دور الكتابة هو ترميم الكائن أو الشيء (لم يحسم بعد في ذلك حسب رأي ميشيل دومزان) فإن ذلك غالبا ما يتم عبر إعادة تركيب حكاية ميت يسكن الحي ويسيطر عليه إلى درجة إفقاده السيطرة على ذاته؛ يتحدث روث في رواية «ميراث» عن وجه أبيه الذي كان يعاني من المرض والام الاحتضار، ويعتبر أو واجبه هو ألا ينساه. بينما يعيد كل من شال جولبي في «الأسمال» وبيتر هاندكي في «شقاء لا يثير الفضول» تركيب قصة الأم التي راحت ضحية للاكتئاب والعزلة والموت البطيء أو الانتحار. يتذكر هاندكي «التعبير المؤلم» لأمه، و»الإهمال الذي حول وضعها إلى وضع حيواني»، ويحلل اثار تذكرها على الكتابة قائلا: «لا ينجم الوصف إلا عن الذكرى، لكنه لا يستمد جاذبيته إلا من حالات القلق التي يثيرها بفضل بحثه عن التعابير المناسبة. إنه يخلق ميلا للتذكر بفضل ميله للتخويف».لكن غالبا ما يحمل الإنسان في ثنايا نفسيته، بالرغم منه، موتا أو أمواتا يقبعون في ذاكرته طوال حياته، قبل أن يتمكن من الوعي بهم. وقد طور بيير فيديدا تفكيره في هذا الاتجاه إلى درجة أنه صاغ منه أطروحة غريبة تتحدث عن «إيجابيات الاكتئاب» باعتباره مرحلة من مراحل تكون الأنا، وعن وضعية اكتئابية يعيد تقييمها على ضوء علاقتها بالملنخوليا. لذا يعتبر الاكتئاب بمثابة عملية دفاعية، عملية تحصن الكائن ضد صورة موته، وتحافظ على حياته. يقول فيديدا: «الاكتئاب هو تجربة الموت أو الانبهار بالموت أو بميت ما في إطار وضعية تمكننا وحدها من الحفاظ على الحياة رغم توقف حركتنا». ويتحدث ميشيل ليريس دون توقف في «المذكرات» عن السأم والعلاقة الملتبسة بالموت، ويصف متخيله باعتباره فضاءا هندسيا يحمي الذات المهددة بالانفجار ويخنقها في ذات الوقت معتبرا عالم الأحلام «عالما معدنيا بطبعه».وفي النهاية، فإذا كان للكتابة صلة ما عميقة مع الاكتئاب، فإن هذه الصلة تكمن في كونها تمكن الكاتب من الابتعاد عن تصوير موته الخاص. لقد عثر شاطوبريان، الذي حول مذكراته، إلى مذكرات لما بعد الموت، على استعارة مبهرة للتعبير عن وضع الكاتب تجاه الموت، وعن الاستباق أو التوقع سلفا للموت الذي يصوره الأدب. وما أعمال بروست وليريس وبيكيت وغيرهم من عظماء الكتاب إلا تعبير عن هذه المواجهة الحتمية القادمة مع الموت، تعبير يسمح لهم بتمجيد الحياة بشكل من الأشكال (أو يجعل ذلك ممكنا). يتعلق الأمر حقا بموقف نرجسي، موقف من يلعب بصورة موته، لكننا نجد أنفسنا هذه المرة أمام نرجسية غير مؤذية للذات، بفضل دور الكتابة في إقامة مسافة بيننا وبين صورة هذه المواجهة.وغالبا ما ينتج عن ذلك نوع من التفاوت الذي يطبع وتيرة الإبداع لدى نفس الكاتب، تفاوت بين إنتاج أدب الحميمية الذي يعزز هذه الوضعية الاكتئابية، وإنتاج اخر روائي أو شعري يقيم مسافة بينه وبين هذه المواجهة المدمرة مع الذات. هكذا نلاحظ أن يوميات فيرجينيا وولف طافحة بعلامات الشكوى الاكتئابية التي قادتها إلى الغرق مثل: نوبات الصداع والعجز عن الكتابة والرغبة في المغادرة إلى فضاءات أخرى، وكل الالام التي أراد ليونارد، زوج الكاتبة الشهيرة، أن يحذفها من الوجود الأدبي لرفيقة دربه عندما قرر أن لا ينشر من الأجزاء الستة والعشرين من يومياتها إلا النصوص المخصصة لتجربتها الفنية بوصفها كاتبة. إضافة إلى هذه الرغبة في فرض الرقابة وفي تشويه معالم اليوميات الحقيقية لفيرجينيا وولف، نلاحظ أن هذا السلوك يكشف عن عدم فهم أساسي لجذور الكتابة ولضرورتها، هاته الضرورة التي لا نفهمها إلا بمقارنة الطبعة المتصرف فيها مع الطبعة الكاملة ليوميات الكاتبة. كما أن كافكا قد حلل هو الاخر في يومياته تأثير هذا الصراع الذي دار في وجدانه والذي يتعين على الكاتب أن يعيشه، وهو يقول في هذا الباب: «إن الشخص الذي لا يتمكن من تحقيق كنه حياته، يحتاج إلى استخدام إحدى يديه لإزاحة بعض اليأس الذي يسببه له قدره، ولن يتمكن من ذلك إلا بشكل نسبي، فيما يستطيع استخدام اليد الأخرى لتسجيل ما يلاحظه تحت الأنقاض، لأنه يرى أشياء لا يراها الاخرون، إنه شخص ميت خلال حياته، لكنه كذلك الناجي الأساسي من الموت» (19 أكتوبر 1919).لكن هذا الانطباع بوجود ازدواجية أليمة يعيشها الشخص الذي يعاني من الاكتئاب يدفع صاحبه أحيانا، في إطار سعيه لتحليل وضعه الذاتي، إلى الاعتقاد بأنه شخص ذهاني (Psychotique) أو يعيش وضعية بالغة الحدة، ويمكن أن نلمس ذلك بالعودة إلى مجموعة من الأعمال الأدبية تصور بشكل مركزي الازدواجية بين الفاعل والملاحظ، بين الذات والاخر، مثلما هو الحال في «أوريليا» لجيرار دونيرفال أو «لوهورلا» لغي موباسان. وقد أطلق كليمون روسي اسما رمزيا مركبا على مرض النوم الذي ميز حال الاكتئاب لديه، وهذا الاسم هو (Hasofin) ويقول روسي حول اشتقاقه لهذه الكلمة: «لم أضعها اعتمادا على ذكريات متبقية من قراءة «لوهورلا»، بل بتجميع الحروف الأولى للأعراض الأساسية لمرض الاكتئاب: الإفراط - في النشاط - النصف حلمي - المرافق لنهاية النوم، هذا الاضطراب الغامض الشرير الذي يتركني مشدوها ومتبلد الإحساس بعد استيقاظي». كما يتحدث روسي كذلك عن فقدان الفعالية والشخصية مضيفا لهذه الأعراض: «الإحساس النهاري بانعدام العالم، الإحساس بالوجود السطحي بالنسبة للواقع، الإحساس بأن العالم أو الأنا غير موجودين بشكل فعلي، أو أنهما لا ينتميان إلى نفس النمط من الوجود». أما بالنسبة لستيرون فإنه يتحدث في معرض تفصيله لأعراض اكتئابه عن: «الإحساس بأنا أخرى ترافق ذاته باستمرار، أنا شبحية لا تقاسم ذاته إصابتها، لكنها تستطيع أن تراقب حالتها بفضول موضوعي، فيما تصارع هذه الأخيرة لتفادي الكارثة الوشيكة الوقوع، أو لأن تتخذ قرارا بالاستسلام لهذه الكارثة». ولعل من الغريب أن نلاحظ لدى أراغون نفس الازدواجية بين ذات مكتئبة تصمت وتنام، وذات أخرى تتحدث وتكتب. وفي النص الذي يحمل عنوان «عن الكتابة الممزقة» الذي كتب سنة 1954 ونقح في 1968 ونشر في «رواية هنري ماتيس» في 1971 نجد تلخيصا مؤثرا بالغ النفاذ لمأساة الإنسان الممزق الذي يعيش ذاته باعتبارها اخر. وإذا أردنا أن نعبر عن ذلك بطريقة أخرى، فيمكن أن نستشهد مثلا بما قاله بول ريكور في الموضوع: «سواء كتبت أو تكلمت فكل ما أنطقه مجرد صمت، حياتي توجد في مكان اخر. أنا الذات التي تكتب، وأنا الاخر الذي نام، يموت أو يحلم. هل أنا هذه الشخصيات المزدوجة التي تعمر الحكايات، أم تلك الشخصية التي تتمدد في الظلام، فيما يجلس جسدها ليكتب تحت الضوء؟ أي الشخصيتين أكثر حضورا في ذاتي؟ تلك التي تبحث في ذاكرتها عن رسام يدعى ماتيس وترى كل العالم أزرق مثل الحبر، أم أنني تلك الشخصية التي لم تعد تستطيع النوم، لكنها تغفو رغم ذلك في داخل الفكرة التي تسكنها، داخل ما لن تقوله بعدما تعبت من المعاناة منه».تطرح الازدواجية التي قد تمكن الكاتب من رصد يوميات مرضه قضية العلاقة بين الكتابة والاكتئاب، قضية إمكانية كتابة الاكتئاب، لأن حالة الاكتئاب غالبا ما تتميز بالعي الفكري والجنسي والإبداعي. والحال، أن الكاتب يثبت أحيانا بطلان هذا النوع من التشخيص. لقد بين فيتزجرالد ذلك جيدا حين كان ناشره يطالبه بشدة بمخطوط للنشر مقترحا عليه أخيرا أن يكتب أي شيء، أي كتابة حتى ولو كانت مجرد ترداد بسيط لعبارة: «لا أستطيع الكتابة، لا أستطيع الكتابة...». «حسنا، أجاب سكوت، سأحاول أن أكتب كل ما أستطيع حول موضوع عجزي عن الكتابة، وكانت نتيجة ذلك، رواية «الصدع» (Fêlure).إن العلاقة بين الكتابة واستحالتها، أصبحت موضوعا مطروقا وأثيرا في الأدب المعاصر. وقد جعل بروست من هذه العلاقة أساسا لكل أعماله الأدبية عبر الربط بين العجز عن الإبداع والمرض، بين إحساس السارد المصاب بمرض عصابي (névropathe) ب-»عجزه» المرهق لأعصابه [وترجمة ذلك في نص يتحدث] عن اليأس من العودة مجددا إلى الكتابة. وفي كتاب ليريس الذي يحمل عنوان «قواعد اللعبة»، نلاحظ وجود نوع مشابه من الشك، يتجلى عبر تساؤل الكاتب عن الطبيعة الأدبية لما يكتبه في كل صفحة من صفحات كتابه. هكذا يتعايش المبدع مع اكتئابه الذي غالبا ما يشكل شرط الإبداع لديه، إلى درجة تدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان الإبداع شكلا من أشكال الاكتئاب.وعلى العكس من ذلك، يمكننا أن نتساءل عن [فعل] توقف الكتابة بواسطة كف عصبي (Inhibition) قد يضع حدا للعمل الأدبي، أو قد يدفع نحو تأخير تحققه بشكل جزئي أو شامل: بشكل يتراوح بين الصمت الغامض لرامبو، وبين سؤال لماذا لم أكتب أيا من كتبي لمارسيل بنابو؟ وقام إنريك فيلا ماطاس في أحد كتبه الطريفة بإحصاء هؤلاء الكتاب الذين أصيبوا ب-»أعراض بارتلبي Bartleby المتزامنة»: هذا المرض، هذا الداء الذي يستوطن الأدب المعاصر، هذا الاندفاع السلبي أو هذا الانجذاب نحو العدم يجعل مجموعة من كبار المبدعين من ذوي الدرجات المرتفعة من الحساسية الأدبية عاجزين عن الكتابة، أو يدفعهم المرض للإقلاع عنها بعد كتاب أو كتابين، أو يجدون أنفسهم ذات يوم، بعد إرساء مشروع إبداعي دون صعوبة، مشلولين إبداعيا». ويقدم ستيرون بنفس الطريقة لائحة لجميع الكتاب أو الفنانين الذين غرقوا في الاكتئاب: حالة الملنخوليا التي اعترت ألبير كامو والتي أدت به إلى الموت في حادثة سيارة، موت بدا أقرب إلى الانتحار؛ اكتئاب وانتحار رومان غاري (R. Gary) بعد انتحار جان سبيرغ (J. Seberg)، إلخ، هذه الحالات دفعت ستيرون إلى محاولة فهم دوافع هؤلاء المبدعين، هؤلاء الرجال والنساء الذين تمتعوا بمواهب كبيرة وهم منذورون للموت».ربما يعود ذلك إلى وجود رابط قوي بين الإبداع والاكتئاب، بين الموت والحياة. وقد اقترح ديديي انزيو تحليلا لمسار الإبداع لاحظ فيه، في حالة سغموند فرويد مثلا: أن الاكتشافات النظرية الكبرى والكتب الأهم لديه، ترافق إنتاجها لدى مؤسس التحليل النفسي بلحظات اكتئابه (بفترة إصابته باضطرابات الذاكرة في الأكروبول، بوفاة أبيه، وبتوقفه عن التدخين بعد اكتشاف إصابته بالسرطان، إلخ...). لكن، ماذا يمكننا أن نقول عن حالة الاكتئاب التي تعقب الانتهاء من إنتاج عمل إبداعي ما، وتشبه نوعا من الحداد؟لقد وجد الاكتئاب في صيغته الحديثة إذن، تعبيرا عنه في الأدب ولو بشكل متأخر. لكن التوسع الذي طال مؤخرا علم تشخيص الحالات الاكتئابية، يمكن أن يقودنا إلى إطلاق صفة الأدب الاكتئابي على كل كتابة تصور ما يعانيه الكائن من صعوبة في أن يكون ذاته أو في أن يبقى على طبعه، كتابة تجمع بين نصوص متباينة الخصائص من مثل كتاب «مقال في التعب» (Essai sur la fatigue) لها ندكي أو «كتاب اللاطمأنينة» لفرناردو بيسوا. إن هذا التنوع الأدبي يعبر بدون شك عن تنوع الحالات الاكتئابية التي يجب أن تدرس مثل تجلياتها الأدبية انطلاقا من خصوصيتها. إن الاكتئاب بوصفه تجسيدا للنوراستينيا (نهك الأعصاب) ينتمي إلى العصاب، اللهم إلا في حالة الذهان حيث قد يتناوب الاكتئاب مع النوبات الوسواسية. والاكتئاب رغم كونه «معرفة بسبر الأعماق» على حد تعبير لكليمون روسي استلهمه من عنوان أحد كتب ميشو، فإنه يتخذ كذلك بعض أشكال التعبير عن الشعور بالسأم، ويجد ازدواجه القيمي في الملنخوليا. وكل ذلك ناجم عن أن الإنسان لا يستطيع التنصل من حقيقة كونه كائنا منذورا للموت.
الكتابة على حافة الهاوية*
انييس فيرلي ترجمة: رشيد مرون
إذا كان للكتابة صلة ما عميقة مع الاكتئاب، فإن هذه الصلة تكمن في كون الكتابة تمكن المبدع من الابتعاد عن تصوير موته الخاص. فلنستعرض إذن علاقة الكاتب بظلمات الاكتئاب، منذ شاطوبريان حتى ستيرون.بالنسبة لمن عرف الاكتئاب، فإن هذه الحالة النفسية تتميز باستعصائها على الوصف، بحيث لا يمكن التعبير عنها بالصور المجازية: إنها قوة غامضة، سديم، غرق، جنوح، نزول نحو الجحيم، سقوط في قعر بئر. ويعرفها الكاتب ستيرون بكونها: «يأسا أعمق من اليأس»، «عاصفة من الظلمات وارتماءة في الهاوية...». أما الروائي كليمون روسي فقد شبه الإنسان المصاب بالاكتئاب بالغريق الذي يحاول العودة إلى الشط دون أن يتمكن من ذلك أبدا. وعندما يكتشف الموسيقي ورثيمر دو طوكاس برنارد أنه لا يمتلك عبقرية العزف على البيانو مثل غلين غولد Glenn (GOULD) فإنه يتحول إلى غريق يهوي في خندق الشك واليأس والاكتئاب والانتحار.سوف يقودنا التساؤل حول علاقة الاكتئاب بالإبداع الأدبي إلى أزمنة سحيقة، إلى حقبة كان جوب (Job) يملأ خلالها العالم بشكواه وأنينه، ويتحدث فيها سينيك (Sénéque) عن عياء الكائن من وجوده، هذا العياء الذي يدفعه نحو الانتحار. كما سيقودنا نفس التساؤل إلى فترة قريبة كان شاطوبريان يصف فيها مرض بطله رونيه بكونه «موجة من العواطف، رغبة لا تتقصد هدفا محددا، بل تترك صاحبها يتخبط في الحيرة». لكن، لا يمكن تعريف هذه الحالة باعتبارها مرادفا للسأم من الحياة أو الملنخوليا فقط. يصعب إذن ضبط هذا المرض المتميز الذي يطال مجتمعنا تحت اسم الاكتئاب، والذي ينزع للتحول إلى مرض عالمي اعتيادي، وإلى جزء من الحياة اليومية، وإلى الخروج من حقل التحليل والطب النفسي ليصبح ظاهرة اجتماعية. سوف نتبع خطا عكسيا ينطلق من التجليات الأدبية الحالية والمعاصرة لهذه الظاهرة في بحثنا الرامي إلى تحديد ماهية العلاقة بين الاكتئاب والإبداع الأدبي.لم يدخل الاكتئاب تحت هذا الاسم والوصف الإكلينيكي من طرف من أصيبوا به إلى عالم الأدب إلا منذ فترة وجيزة. إذ يؤكد كليمون روسي في «جولات ليلية» (1999)، أنه لن يتحدث عن نفسه وعن «مرض النوم» خلال فترة إصابته بالاكتئاب، إلا بسبب الطابع «التوثيقي» والعلمي الذي يمكن أن يأخذه هذا الحديث، مسترجعا بذلك نفس الموقف الأدبي الذي عبر عنه نيرفال وموباسان من قبل. روسي يعرف اكتئابه بوصفه «انهيارا شاملا للطاقة، إجهادا يمس الجسد والفكر والمعنويات»، ويجد تجليه في الإحساس بالخدر وفقدان الشهية واضطرابات النوم. ويوضح الكاتب أن حالته هذه نجمت عن حادثة حزينة سوف يعلنها للقراء.لا يرجع وليام ستيرون اكتئابه لحالة حداد أو افتقاد («قبالة الظلمات، يوميات جنون». 1990) بل إلى قدر لا يحتمل من النجاحات يرافقه إحساس الكاتب بكونه غير جدير بها، وقد أحس بأولى أعراض إصابته عندما قدم إلى باريس لتسلم جائزة أدبية مرموقة. لذا يقول: «الاكتئاب اضطراب عقلي جد غامض وقاس وعصي على الفهم بسبب الطريقة التي ينال بها من الذات، والذكاء الذي يستخدمه في هجومه عليها إلى درجة أنه يفلت من كل محاولات الوصف».لكن، وبعيدا عن هذه الاستعارات، تبدو التعريفات التي يعطيها كل من ستيرون، وروسي لمرضهما متناقضة إلى أبعد حد. يحتج ستيرون الذي يربط الاكتئاب بالملنخوليا التي تعبر وحدها عن الأشكال الأشد سوداوية لهذا المرض، على استخدام كلمة اكتئاب، ويعتبره مصطلحا «ذا وقع باهت لا يتضمن أي بعد علمي دقيق، يمكن استخدامه [في اللغة الفرنسية] للتعبير عن حالات الكساد الاقتصادي أو عن اثار الخطى في التراب، إنه مصطلح غير صالح البتة للإحالة على مرض بهذه الدرجة من الخطورة». أما روسي فيتبنى استعارة الكساد الاقتصادي لوصف: «الإرهاق المصاحب للاكتئاب والانهيار الجسدي والنفسي والعقلي الذي يخلفه بشكل يذكر بإرهاق عملة مصرف وطني ما بسبب عمليات المضاربة. ولإبعاد المضاربين يعتمد البنك على احتياطاته وصولا إلى تخفيض قيمة عملته: هكذا نصارع الاكتئاب، نصمد ونصمد، لكن باستنزاف احتياطاتنا، وعندما تنفذ نواجه كارثة الإفلاس، الانهيار، المرض». وقد استعمل سكوت فيتز جرالد نفس الاستعارة الاقتصادية في 1936 عندما تحدث عن الانكسار والاندثار: «عن تفكك الذات وفقدان السعادة أو وهم السعادة الذي كان يسندنا في الماضي. إن الاكتئاب ليس شيئا عاديا، وشعوري بالاكتئاب يجد صداه في موجة اليأس التي طالت بلادي بعد نهاية فترة الرفاه».ها نحن في صلب المشكلة: الاكتئاب في علاقته مع الوضعية الاقتصادية والسياسية، الاكتئاب من حيث هو مرض ينتجه العالم المعاصر والمجتمع الصناعي. إنه «زمن الخواء» الذي أدانه ليبوفتسكي في 1983، هذا الزمن الذي ينتج الفردانية والنرجسية. وقد خلق هذا الوضع على المستوى الأدبي نوعا جديدا من الشخصيات الروائية العدمية مثل شخصية مهندس المعلوميات عند هوولبيك في رواية «توسيع حقل النضال» (1994) الذي ينتظر دون تأثر تشخيص طبيبه لمرضه النفسي قبل أن يعلنه لرئيسه في العمل قائلا: «أخبرته على الفور بأنني مصاب بالاكتئاب، لام القدر ثم تراجع. طال حوارنا بلطف لنصف ساعة، لكنني كنت أعلم أن ثمة جدارا غير مرئي قد نشأ بيننا منذ تلك اللحظة، لن يعتبرني أبدا ندا له منذ الان، ولا وريثا محتملا لمسؤولياته. لم أعد موجودا في نظره، لقد انهرت. سوف يطردونني بمجرد انتهاء إجازتي المرضية القانونية بعد شهرين، ذلك ما يفعلونه عادة مع حالات الاكتئاب. شاهدت نماذج عديدة».وحول العلاقات بين الاكتئاب والمجتمع قدم الان إيرنبورغ رؤية ثقافية في «عياء الذات من كينونتها»، فاعتبر أن الاكتئاب بالمعنى الدقيق قد بدأ في الخمسينات. شرعنا في الحديث عنه مع ابتكار الأدوية المؤثرة على الأعصاب (1952) ومضادات الاكتئاب (1957). لكن، إذا كان العلاج الكيماوي قد شكل تقدما هاما في الطب النفسي، فإن أنصاره الأوائل مثل جان دولاي وهنري إي الذي عرف المرض العقلي باعتباره «مرضا يطال الحرية»، قد شددوا على وجوب إرفاق العلاج الكيماوي بالعلاج النفسي. لكن ما يلاحظ هو التناقص المطرد للمكانة المخصصة عادة للكلام، أي للتحليل النفسي، فيما أخذ علم النفس في الاقتراب من علم الأعصاب، وشرعت الصناعات الصيدلية في التطور وتعاظمت قدراتها. ومنذ السبعينات وسع شيوع استخدام الأدوية النفسية مجال الاكتئاب وأعراضه: أخذ الاكتئاب يمتد ويصير شيئا عاديا، فيما خرج علاجه من حقل الطب النفسي والتحليل النفسي إلى مجال الطب العام. أصبح مصطلح اكتئاب يشمل مجموعة كبيرة من الأعراض أوضحها الإرهاق والأرق والقلق، لكنها شديدة التنوع والذاتية، فيما اتجه العلاج بالأدوية نحو التبسيط والتوحد، مثلما أبان عن ذلك نجاح دواء البروزاك؛ لكن، بينما كان الطب النفسي يهدف لعلاج الأعراض، ولتفريغ المكبوتات ولإبعاد مصادر القلق، راح الطب العام يزعم القدرة على تدبير القلق والإحساس بلا جدوى الحياة، محاولا جعل الفرد أكثر إنتاجية ومحاولا إعطاءه الهدوء أو السعادة التي ينتظرها. لذا يمكن اعتبار الكاتبين روسي وستيرون شاهدين «أدبيين» على هذا الاتجاه الطبي. فقد عمل كلاهما على تحليل تأثير الأدوية على الحياة النفسية والنوم والاضطرابات المختلفة للإنسان. بالنسبة لروسي فالأدوية تسمح بمراوغة نوبات القلق وتقليم مخالب ليالي الكوابيس. وهو يحلل التغيرات العجيبة لأحلامه وكوابيسه، هذه التغيرات التي تترافق مع تغييره لنوعية الأدوية المتناولة. لكن ستيرون يوجه نقدا أكبر للوصفات الطبية ولأعراضها الجانبية التي لا تناسب خصوصية كل حالة اكتئاب، لأن لهذا المرض وجوها متعددة تعكس مسلكيات فردية خاصة، ليخلص إلى لا جدوى الأدوية، ويعتبر أن سبب شفائه يعود لعنصرين فقط: العزلة ومرور الوقت.إن اشتغال الزمن والاشتغال على الذات الذي يحرمنا منه مجتمعنا هو ما يجبر الأفراد على السقوط في «مرض القرن»، الذي خلقته نفس هذه المجتمعات، وراحت الصيدلة والصناعة تدعيان إمكانية علاجه بتكاليف بسيطة.لكن المشكلة أن الاكتئاب ليس ظاهرة متجانسة، فكل حالة منه لها خصائص متميزة وتعبيرات فردية مرتبطة بمعاناة شخص واحد. إن ما يتقاسمه جميع البشر وما يميزهم هو علاقتهم الخاصة مع الزمن ومع الموت، مع الحياة المنذورة للموت ومع تراجيديا الوجود. إن للاكتئاب، كيفما كانت تمظهراته النفسية أو الجسدية، علاقة ما مع الملنخوليا التي عرفها فرويد «بمثابة اكتئاب عميق مؤلم، وتجميد للاهتمام بالعالم الخارجي، وفقدان القدرة على الحب، وبمثابة كبت لكل نشاط، ونقص في احترام الذات». لكن، وعكس حالة الحداد التي يتألم فيها الشخص على فقد شخص أو شيء محبوب، فإن المكتئب يشكو من فقدانه لذاته، إن لهذا المرض علاقة مع النرجسية.لذا، فلن نتعجب إذا وجدنا اثارا عديدة للاكتئاب ولحالاته في النصوص الأدبية التي تنتمي لفن السيرة الذاتية مثل اليوميات، أو الروايات ذات البعد الخيالي الضعيف. ويعتبر «الكتاب المتكسر»Le livre brisé لسيرج دوبروفسكي و»الوقائع» لفيليب روث قصتي حالتي اكتئاب أصابت الكاتبين، وحاولا تدوين مراحلها بعد اجتيازها، الشيء الذي يعطي للكتابة هنا طابع التعويض. وعندما أهدى روث كتابه لأخيه، كان يبدو واعيا أنه وصل إلى مرحلة الوعي بفضل الكتابة: «في لحظة التأمل التي أعقبت الانهيار، لأجل استرجاع ما فقدته، كان علي أن أعود للحظة الأولى، لكنني لم أجدها بل عثرت على سلاسل من اللحظات، على حكاية ذات مصادر جد متعددة أدونها هنا لأستعيد السيطرة على حياتي». إن استعادة الكاتب السيطرة على حياته وعلى تاريخه، لا تعادل فقط استرجاع شيء مفقود، بل استعادة إحساس وجودي أقوى وأشمل وأكثر إثارة للقلق، غالبا ما ينكتب على خلفية اثار ذكرى مؤلمة قديمة جدا، قريبة مما يسميه فينيكوت «الخوف من الانهيار».وإذا كان دور الكتابة هو ترميم الكائن أو الشيء (لم يحسم بعد في ذلك حسب رأي ميشيل دومزان) فإن ذلك غالبا ما يتم عبر إعادة تركيب حكاية ميت يسكن الحي ويسيطر عليه إلى درجة إفقاده السيطرة على ذاته؛ يتحدث روث في رواية «ميراث» عن وجه أبيه الذي كان يعاني من المرض والام الاحتضار، ويعتبر أو واجبه هو ألا ينساه. بينما يعيد كل من شال جولبي في «الأسمال» وبيتر هاندكي في «شقاء لا يثير الفضول» تركيب قصة الأم التي راحت ضحية للاكتئاب والعزلة والموت البطيء أو الانتحار. يتذكر هاندكي «التعبير المؤلم» لأمه، و»الإهمال الذي حول وضعها إلى وضع حيواني»، ويحلل اثار تذكرها على الكتابة قائلا: «لا ينجم الوصف إلا عن الذكرى، لكنه لا يستمد جاذبيته إلا من حالات القلق التي يثيرها بفضل بحثه عن التعابير المناسبة. إنه يخلق ميلا للتذكر بفضل ميله للتخويف».لكن غالبا ما يحمل الإنسان في ثنايا نفسيته، بالرغم منه، موتا أو أمواتا يقبعون في ذاكرته طوال حياته، قبل أن يتمكن من الوعي بهم. وقد طور بيير فيديدا تفكيره في هذا الاتجاه إلى درجة أنه صاغ منه أطروحة غريبة تتحدث عن «إيجابيات الاكتئاب» باعتباره مرحلة من مراحل تكون الأنا، وعن وضعية اكتئابية يعيد تقييمها على ضوء علاقتها بالملنخوليا. لذا يعتبر الاكتئاب بمثابة عملية دفاعية، عملية تحصن الكائن ضد صورة موته، وتحافظ على حياته. يقول فيديدا: «الاكتئاب هو تجربة الموت أو الانبهار بالموت أو بميت ما في إطار وضعية تمكننا وحدها من الحفاظ على الحياة رغم توقف حركتنا». ويتحدث ميشيل ليريس دون توقف في «المذكرات» عن السأم والعلاقة الملتبسة بالموت، ويصف متخيله باعتباره فضاءا هندسيا يحمي الذات المهددة بالانفجار ويخنقها في ذات الوقت معتبرا عالم الأحلام «عالما معدنيا بطبعه».وفي النهاية، فإذا كان للكتابة صلة ما عميقة مع الاكتئاب، فإن هذه الصلة تكمن في كونها تمكن الكاتب من الابتعاد عن تصوير موته الخاص. لقد عثر شاطوبريان، الذي حول مذكراته، إلى مذكرات لما بعد الموت، على استعارة مبهرة للتعبير عن وضع الكاتب تجاه الموت، وعن الاستباق أو التوقع سلفا للموت الذي يصوره الأدب. وما أعمال بروست وليريس وبيكيت وغيرهم من عظماء الكتاب إلا تعبير عن هذه المواجهة الحتمية القادمة مع الموت، تعبير يسمح لهم بتمجيد الحياة بشكل من الأشكال (أو يجعل ذلك ممكنا). يتعلق الأمر حقا بموقف نرجسي، موقف من يلعب بصورة موته، لكننا نجد أنفسنا هذه المرة أمام نرجسية غير مؤذية للذات، بفضل دور الكتابة في إقامة مسافة بيننا وبين صورة هذه المواجهة.وغالبا ما ينتج عن ذلك نوع من التفاوت الذي يطبع وتيرة الإبداع لدى نفس الكاتب، تفاوت بين إنتاج أدب الحميمية الذي يعزز هذه الوضعية الاكتئابية، وإنتاج اخر روائي أو شعري يقيم مسافة بينه وبين هذه المواجهة المدمرة مع الذات. هكذا نلاحظ أن يوميات فيرجينيا وولف طافحة بعلامات الشكوى الاكتئابية التي قادتها إلى الغرق مثل: نوبات الصداع والعجز عن الكتابة والرغبة في المغادرة إلى فضاءات أخرى، وكل الالام التي أراد ليونارد، زوج الكاتبة الشهيرة، أن يحذفها من الوجود الأدبي لرفيقة دربه عندما قرر أن لا ينشر من الأجزاء الستة والعشرين من يومياتها إلا النصوص المخصصة لتجربتها الفنية بوصفها كاتبة. إضافة إلى هذه الرغبة في فرض الرقابة وفي تشويه معالم اليوميات الحقيقية لفيرجينيا وولف، نلاحظ أن هذا السلوك يكشف عن عدم فهم أساسي لجذور الكتابة ولضرورتها، هاته الضرورة التي لا نفهمها إلا بمقارنة الطبعة المتصرف فيها مع الطبعة الكاملة ليوميات الكاتبة. كما أن كافكا قد حلل هو الاخر في يومياته تأثير هذا الصراع الذي دار في وجدانه والذي يتعين على الكاتب أن يعيشه، وهو يقول في هذا الباب: «إن الشخص الذي لا يتمكن من تحقيق كنه حياته، يحتاج إلى استخدام إحدى يديه لإزاحة بعض اليأس الذي يسببه له قدره، ولن يتمكن من ذلك إلا بشكل نسبي، فيما يستطيع استخدام اليد الأخرى لتسجيل ما يلاحظه تحت الأنقاض، لأنه يرى أشياء لا يراها الاخرون، إنه شخص ميت خلال حياته، لكنه كذلك الناجي الأساسي من الموت» (19 أكتوبر 1919).لكن هذا الانطباع بوجود ازدواجية أليمة يعيشها الشخص الذي يعاني من الاكتئاب يدفع صاحبه أحيانا، في إطار سعيه لتحليل وضعه الذاتي، إلى الاعتقاد بأنه شخص ذهاني (Psychotique) أو يعيش وضعية بالغة الحدة، ويمكن أن نلمس ذلك بالعودة إلى مجموعة من الأعمال الأدبية تصور بشكل مركزي الازدواجية بين الفاعل والملاحظ، بين الذات والاخر، مثلما هو الحال في «أوريليا» لجيرار دونيرفال أو «لوهورلا» لغي موباسان. وقد أطلق كليمون روسي اسما رمزيا مركبا على مرض النوم الذي ميز حال الاكتئاب لديه، وهذا الاسم هو (Hasofin) ويقول روسي حول اشتقاقه لهذه الكلمة: «لم أضعها اعتمادا على ذكريات متبقية من قراءة «لوهورلا»، بل بتجميع الحروف الأولى للأعراض الأساسية لمرض الاكتئاب: الإفراط - في النشاط - النصف حلمي - المرافق لنهاية النوم، هذا الاضطراب الغامض الشرير الذي يتركني مشدوها ومتبلد الإحساس بعد استيقاظي». كما يتحدث روسي كذلك عن فقدان الفعالية والشخصية مضيفا لهذه الأعراض: «الإحساس النهاري بانعدام العالم، الإحساس بالوجود السطحي بالنسبة للواقع، الإحساس بأن العالم أو الأنا غير موجودين بشكل فعلي، أو أنهما لا ينتميان إلى نفس النمط من الوجود». أما بالنسبة لستيرون فإنه يتحدث في معرض تفصيله لأعراض اكتئابه عن: «الإحساس بأنا أخرى ترافق ذاته باستمرار، أنا شبحية لا تقاسم ذاته إصابتها، لكنها تستطيع أن تراقب حالتها بفضول موضوعي، فيما تصارع هذه الأخيرة لتفادي الكارثة الوشيكة الوقوع، أو لأن تتخذ قرارا بالاستسلام لهذه الكارثة». ولعل من الغريب أن نلاحظ لدى أراغون نفس الازدواجية بين ذات مكتئبة تصمت وتنام، وذات أخرى تتحدث وتكتب. وفي النص الذي يحمل عنوان «عن الكتابة الممزقة» الذي كتب سنة 1954 ونقح في 1968 ونشر في «رواية هنري ماتيس» في 1971 نجد تلخيصا مؤثرا بالغ النفاذ لمأساة الإنسان الممزق الذي يعيش ذاته باعتبارها اخر. وإذا أردنا أن نعبر عن ذلك بطريقة أخرى، فيمكن أن نستشهد مثلا بما قاله بول ريكور في الموضوع: «سواء كتبت أو تكلمت فكل ما أنطقه مجرد صمت، حياتي توجد في مكان اخر. أنا الذات التي تكتب، وأنا الاخر الذي نام، يموت أو يحلم. هل أنا هذه الشخصيات المزدوجة التي تعمر الحكايات، أم تلك الشخصية التي تتمدد في الظلام، فيما يجلس جسدها ليكتب تحت الضوء؟ أي الشخصيتين أكثر حضورا في ذاتي؟ تلك التي تبحث في ذاكرتها عن رسام يدعى ماتيس وترى كل العالم أزرق مثل الحبر، أم أنني تلك الشخصية التي لم تعد تستطيع النوم، لكنها تغفو رغم ذلك في داخل الفكرة التي تسكنها، داخل ما لن تقوله بعدما تعبت من المعاناة منه».تطرح الازدواجية التي قد تمكن الكاتب من رصد يوميات مرضه قضية العلاقة بين الكتابة والاكتئاب، قضية إمكانية كتابة الاكتئاب، لأن حالة الاكتئاب غالبا ما تتميز بالعي الفكري والجنسي والإبداعي. والحال، أن الكاتب يثبت أحيانا بطلان هذا النوع من التشخيص. لقد بين فيتزجرالد ذلك جيدا حين كان ناشره يطالبه بشدة بمخطوط للنشر مقترحا عليه أخيرا أن يكتب أي شيء، أي كتابة حتى ولو كانت مجرد ترداد بسيط لعبارة: «لا أستطيع الكتابة، لا أستطيع الكتابة...». «حسنا، أجاب سكوت، سأحاول أن أكتب كل ما أستطيع حول موضوع عجزي عن الكتابة، وكانت نتيجة ذلك، رواية «الصدع» (Fêlure).إن العلاقة بين الكتابة واستحالتها، أصبحت موضوعا مطروقا وأثيرا في الأدب المعاصر. وقد جعل بروست من هذه العلاقة أساسا لكل أعماله الأدبية عبر الربط بين العجز عن الإبداع والمرض، بين إحساس السارد المصاب بمرض عصابي (névropathe) ب-»عجزه» المرهق لأعصابه [وترجمة ذلك في نص يتحدث] عن اليأس من العودة مجددا إلى الكتابة. وفي كتاب ليريس الذي يحمل عنوان «قواعد اللعبة»، نلاحظ وجود نوع مشابه من الشك، يتجلى عبر تساؤل الكاتب عن الطبيعة الأدبية لما يكتبه في كل صفحة من صفحات كتابه. هكذا يتعايش المبدع مع اكتئابه الذي غالبا ما يشكل شرط الإبداع لديه، إلى درجة تدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان الإبداع شكلا من أشكال الاكتئاب.وعلى العكس من ذلك، يمكننا أن نتساءل عن [فعل] توقف الكتابة بواسطة كف عصبي (Inhibition) قد يضع حدا للعمل الأدبي، أو قد يدفع نحو تأخير تحققه بشكل جزئي أو شامل: بشكل يتراوح بين الصمت الغامض لرامبو، وبين سؤال لماذا لم أكتب أيا من كتبي لمارسيل بنابو؟ وقام إنريك فيلا ماطاس في أحد كتبه الطريفة بإحصاء هؤلاء الكتاب الذين أصيبوا ب-»أعراض بارتلبي Bartleby المتزامنة»: هذا المرض، هذا الداء الذي يستوطن الأدب المعاصر، هذا الاندفاع السلبي أو هذا الانجذاب نحو العدم يجعل مجموعة من كبار المبدعين من ذوي الدرجات المرتفعة من الحساسية الأدبية عاجزين عن الكتابة، أو يدفعهم المرض للإقلاع عنها بعد كتاب أو كتابين، أو يجدون أنفسهم ذات يوم، بعد إرساء مشروع إبداعي دون صعوبة، مشلولين إبداعيا». ويقدم ستيرون بنفس الطريقة لائحة لجميع الكتاب أو الفنانين الذين غرقوا في الاكتئاب: حالة الملنخوليا التي اعترت ألبير كامو والتي أدت به إلى الموت في حادثة سيارة، موت بدا أقرب إلى الانتحار؛ اكتئاب وانتحار رومان غاري (R. Gary) بعد انتحار جان سبيرغ (J. Seberg)، إلخ، هذه الحالات دفعت ستيرون إلى محاولة فهم دوافع هؤلاء المبدعين، هؤلاء الرجال والنساء الذين تمتعوا بمواهب كبيرة وهم منذورون للموت».ربما يعود ذلك إلى وجود رابط قوي بين الإبداع والاكتئاب، بين الموت والحياة. وقد اقترح ديديي انزيو تحليلا لمسار الإبداع لاحظ فيه، في حالة سغموند فرويد مثلا: أن الاكتشافات النظرية الكبرى والكتب الأهم لديه، ترافق إنتاجها لدى مؤسس التحليل النفسي بلحظات اكتئابه (بفترة إصابته باضطرابات الذاكرة في الأكروبول، بوفاة أبيه، وبتوقفه عن التدخين بعد اكتشاف إصابته بالسرطان، إلخ...). لكن، ماذا يمكننا أن نقول عن حالة الاكتئاب التي تعقب الانتهاء من إنتاج عمل إبداعي ما، وتشبه نوعا من الحداد؟لقد وجد الاكتئاب في صيغته الحديثة إذن، تعبيرا عنه في الأدب ولو بشكل متأخر. لكن التوسع الذي طال مؤخرا علم تشخيص الحالات الاكتئابية، يمكن أن يقودنا إلى إطلاق صفة الأدب الاكتئابي على كل كتابة تصور ما يعانيه الكائن من صعوبة في أن يكون ذاته أو في أن يبقى على طبعه، كتابة تجمع بين نصوص متباينة الخصائص من مثل كتاب «مقال في التعب» (Essai sur la fatigue) لها ندكي أو «كتاب اللاطمأنينة» لفرناردو بيسوا. إن هذا التنوع الأدبي يعبر بدون شك عن تنوع الحالات الاكتئابية التي يجب أن تدرس مثل تجلياتها الأدبية انطلاقا من خصوصيتها. إن الاكتئاب بوصفه تجسيدا للنوراستينيا (نهك الأعصاب) ينتمي إلى العصاب، اللهم إلا في حالة الذهان حيث قد يتناوب الاكتئاب مع النوبات الوسواسية. والاكتئاب رغم كونه «معرفة بسبر الأعماق» على حد تعبير لكليمون روسي استلهمه من عنوان أحد كتب ميشو، فإنه يتخذ كذلك بعض أشكال التعبير عن الشعور بالسأم، ويجد ازدواجه القيمي في الملنخوليا. وكل ذلك ناجم عن أن الإنسان لا يستطيع التنصل من حقيقة كونه كائنا منذورا للموت.
تعليق