قال تعالى: ﴿يا أيها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا﴾1.ونقرأ في نهج البلاغة قول الإمام علي عليه السلام : "لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوء، وأنت تجد لها في الخير محتملا محملا"2.
سوء الظن خصلة من أشنع الرذائل الأخلاقية، التي تؤدي إلى الفرقة بين العوائل، وتمزق المجاميع البشرية والإنسانية. وأول ثمرة سلبية لسوء الظن هي زوال الثقة بين الناس، وعندما تزول الثقة، فإن عملية التعاون والتكاتف في حركة التفاعل الاجتماعي ستكون عسيرة للغاية، ومع زوال التعاون والتكاتف في المجتمع البشري فسوف يتبدل هذا المجتمع إلى جحيم ومحرقة، يعيش فيه الأفراد حالة الغربة والوحدة من الأفراد الاخرين، ويتحركون في تعاملهم من موقع الريبة والتشكيك والتامر ضد الاخر.ولهذا السبب، فإن الإسلام، ولأجل توكيد ظاهرة الاعتماد المتقابل بين الأفراد والأمم،اهتم بهذه المسألة اهتماما بالغا؛ فنهى بشدة عن سوء الظن، ومنع الأسباب التي تورث سوء الظن لدى الأفراد، وعلى العكس من ذلك
فإنه مدح وأيد بشدة حسن الظن الذي يفضي إلى زيادة المحبة والاعتماد المتقابل والثقة بالطرف الاخر؛روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم قوله: "إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به السوء"3.
1 - تعريف سوء الظن وحسن الظن:
عندما ترد هاتان المفردتان، ويراد بهما سوء الظن أو حسنه بالنسبة إلى الناس، فإن لهما مفهوما واضحا، فالمفهوم من سوء الظن هو أنه كلما صدر من شخص فعل معين يحتمل الوجهين: الصحيح والسقيم، فنحمله على المحمل السقيم، ونفسره بالتفسير السيء، مثلا عندما يرى الشخص رجلا مع امرأة غريبة، فيتصور أن هذه المرأة أجنبية، وأن هذا الرجل ينوي في قلبه نية سوء تجاهها، ويريد ارتكاب المنكر معها، في حين أن حسن الظن يقود الإنسان إلى القول بأن هذه المرأة هي زوجته أو أحد محارمه حتما. ومن هنا يتضح أن دائرة حسن الظن وسوء الظن واسعة جدا، ولا تنحصر في ممارسة العبادات فقط، بل تستوعب في مصاديقها ومواردها المسائل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية أيضا.
وعندما تستعمل هاتان المفردتان بالنسبة إلى الله تعالى، فالمراد من حسن الظن بالله هو أن يثق الإنسان بالوعد الإلهي في مورد الرزق أو العناية بالعبد أو نصرة المؤمنين والمجاهدين، أو الوعد بالمغفرة والتوبة على المذنبين، وأمثال ذلك. ومعنى سوء الظن بالله تعالى هو أن الإنسان عندما يجد نفسه في زحمة المشكلات والمصاعب، فإنه قد يعيش عدم الثقة بالوعد الإلهي، وعندما يقع في بعض الابتلاءات العسيرة وفي المسائل المالية وغيرها، فإنه قد ينسى وعد الله تعالى للصابرين، والذين يتحركون في خط الاستقامة والانضباط والمسؤولية، ويتحرك عندها في خط المعصية والإثم؛ روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "لا إيمان مع سوء ظن"4.
2 - سوء الظن في القران الكريم:
لقد تحدثت عدة ايات كريمة عن هذا المرض الأخلاقي الفتاك في الأفراد والمجتمعات، نقتصر منها على ايتيتن:
الاية الأولى: سوء الظن بالناس: تستعرض الحديث عن سوء الظن، وتنهى المؤمنين بصراحة وبشدة عن سوء الظن في تعاملهم الاجتماعي فيما بينهم، وتشير إلى أنه قد يكون بمثابة المقدمة إلى التجسس والغيبة، وتقول: ﴿يا أيها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا﴾.5
وقد ورد في الاية التعبير "كثيرا من الظن" لأن أكثر أشكال الظن بين الناس بالنسبة إلى الطرف الاخر تقع في دائرة السوء والشر؛ لذلك ورد التعبير بقوله كثيرا.والملفت للنظر هو أن هذه الاية بعد النهي عن كثير من الظن، ذكرت العلة في ذلك، وقالت بأن بعض الظنون هي في الحقيقة إثم وذنب، وهو إشارة إلى أن الظنون السيئة قسمان: فمنها ما يطابق الواقع، ومنها ما يخالف الواقع. فما كان على خلاف الواقع يكون إثما وذنبا، وبما أن الإنسان لا يعلم أيهما المطابق للواقع وأيهما المخالف، فيجب تجنب الظن السيء إطلاقا؛ حتى لا يتورط الإنسان في سوء الظن المخالف للواقع، وبالتالي يقع في الإثم وممارسة الخطيئة؛ روي عن الإمام علي عليه السلام قوله: "سوء الظن يفسد الأمور ويبعث على الشرور"6.
وبما أن سوء الظن بالنسبة إلى الأعمال الخاصة للناس، يعد أحد أسباب التجسس، وأحد الدوافع التي تقود الإنسان إلى أن يتجسس على أخيه، والتجسس بدوره يتسبب أحيانا في الكشف عن العيوب المستورة للاخرين، وبالتالي سيكون سببا ودافعا للغيبة أيضا، لذلك فان الاية الشريفة تتحدث عن سوء الظن أولا، وفي المرحلة الثانية ذكرت التجسس، وفي الثالثة نهت عن الغيبة.ولهذا اعتبره النبي صلى الله عليه واله وسلم
من أكذب الكذب، فروي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: "إياكم والظن؛ فان الظن أكذب الكذب"7، بل هو من أقبح الظلم كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "سوء الظن بالمحسن شر الإثم وأقبح الظلم"8.
الاية الثانية: سوء الظن بالله تعالى:قال تعالى:﴿ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا﴾9.
تتحدث هذه الاية عن سوء الظن بالنسبة إلى ساحة الربوبية، والحقيقة المقدسة الإلهية، فتقول: إن سوء الظن بالله تعالى من جانب هؤلاء، هو لأنهم كانوا يتصورون أن الوعود الإلهية للنبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم سوف لن تتحقق أبدا، وأن المسلمين مضافا إلى عدم انتصارهم على العدو، فإنهم لن يعودوا إلى المدينة إطلاقا، كما كان في ظن المشركين أيضا حيث توهموا أنهم سوف يهزمون رسول الله وأصحابه، لقلة عددهم وعدم توفر الأسلحة الكافية في أيديهم، وأن نجم الإسلام منذر بالزوال والأفول، في حين أن الله تعالى وعد المسلمين النصر الأكيد، وتحقق لهم ذلك، بحيث إن المشركين لم يتجرؤوا أبدا على الهجوم على المسلمين مع أن المسلمين في الحديبية وعلى مقربة من مكة كانوا تحت يدهم، ولم يكونوا يحملون أي سلاح، لأنهم كانوا قاصدين زيارة بيت الله الحرام، وهكذا ألقى الله تعالى الرعب والخوف في قلوب المشركين، إلى درجة أنهم خضعوا ووجدوا أنفسهم ملزمين بكتابة الصلح المعروف بصلح الحديبية، ذلك الصلح الذي مهد الطريق للانتصارات الباهرة التي نالها المسلمون فيما بعد.
والملفت للنظر في هذه الاية أن مسألة سوء الظن بالله تعالى كانت بمثابة القدر
المشترك بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، وبينت هذه الاية أن جميع هذه الفئات والطوائف شركاء في هذا الأمر، بخلاف المؤمنين الذين يحسنون الظن بالله تعالى وبوعده وبرسوله الكريم، ويعلمون أن هذه الوعود سوف تتحقق قطعا، ولعل تحققها قد يتأخر فترة من الوقت لمصالح معينة، ولكنها أمر حتمي في حركة عالم الوجود؛ لأن الله تعالى العالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا يمكن مع هذا العلم المطلق والقدرة اللامتناهية أن يتخلف في وعده.
ولا شك أن سوء الظن بالله تعالى يختلف كثيرا عن سوء الظن بالناس؛ لأن سوء الظن بالناس غالبا ما ينتهي بارتكاب الإثم أو سلوك طريق خاطئ في التعامل مع الطرف الاخر، في حين أن سوء الظن بالله تعالى يتسبب في تزلزل دعائم الإيمان وأركان التوحيد في قلب المؤمن، أو أنه يكون دافعا وعاملا من العوامل لذلك؛ لأن الاعتقاد بأن الله تعالى قد يخلف وعده يقع في دائرة الكفر، فخلف الوعد إما ناشئ من الجهل أو العجز أو الكذب، ومعلوم أن كل واحد من هذه الأمور محال على الله تعالى، وأن الذات المقدسة منزهة عن هذه الأمور السلبية؛ ولهذا السبب فإن الايات محل البحث التي تستعرض سوء الظن بالله تذم هذه الحالة بشدة وعنف.
تعليق