رواية:- في ظُلمة الليل / قلمي~ (مصاصِي دماء)

1456357bigthumbnail-1.jpg


المقدمة:


في مملكةٍ بعيدة كُل البعد عن عالمنا الذي نعيشه، تحت سماءٍ مختلفة عن سماءِنا نحن.. تلألأ القمر نورًا على الأهالي والأطفال الذين تملكَّت قلوبهم البهجة، فبعد سنين طويلة من صبر الملك وعدم مقدرة الملكة على الإنجاب، قد رُزِقا أخيرًا بمولودتهما الأولى، رضيعَة بغاية الجمال،

أدخلت الفرحة في قلوب الجميع فقط بحضورها، أُقيمت الإحتفالات بأسمها.. 'ريما' الأميرة التي ترعرعت بين جدران الحب وأحضانِ الحنان، حتى وهي طفلة صغيرة كانت في غاية الحِكمة والهدوء، مُهذبة في الكلام وذات أخلاقٍ عالية، يحب مجالستها جميع الناس صغارًا بعمرها وحتى كبار القصر، كانت فعلًا الضوء الذي أنار حياة الملك والملكة.

حتى مع تمنيه سابقًا لمولودٍ ذكر، إلا إنه نسي تلك الأمنية تمامًا، لأن حكمة ريما وهدوئها أوضح تمامًا إنها ستكبرُ لتكون الامرأة التي تستحق العرش من بعده، فهي أولًا وآخرًا ابنته الوحيدة وفخره، أما الملكة من شدَّة حبها لها كانت تغطي شعرها وملامح وجهها بوشاحٍ زاهي الألوان عندما تخرج معها إلى ضواحي المملكة، خوفًا عليها من الحسد.

ناسِين العين الحاقدة التي تربصَّتهم داخل القصر.. لا أبعد، للملك كان أخٌ أصغر منه أسمه 'رام'.. بحُكم أنه لم يكن هناك وريثٌ للعرش كان من المفترض أنه بعد تنحِّي الملك أو وفاته أن يتولى رام العرش، إلا أن ابنة أخيه أفسدت عليه كل شيء، في بادئ الأمر ظنَّ أن الناس لن يتقبلون أن تمسك أنثى حكمًا كاملًا للملكة..

إلا إنه كان يُصدم يومًا بعد يوم بإزدياد حب الناس لها من الشخصيات الكبيرة إلى الفلاحِّين العامة، كل من تطلَّع لها رأى فيها مستقبلًا مزهر، وكان رام هو المنسي الذي لم يكترث له أحد.

كان قد اكتفى من وجودها وتعكيرها لحياته، فعندما كان شابًا في أواخر العشرين، كانت هي فتاةً مراهقة في الثالثة عشر، كان يتقرَّب منها بصفته عمها متظاهرًا بإنه يهتم لأمرها وإنه صديقٌ لها، في حين كان يُسمم أكلها وشرابها، ينصب لها باليوم ثلاثة أفخاخ فتنجو بأعجوبة.. حين يصبٌ لها الشاي المسموم تمتنع عن الشُرب بحجَّة إنها لم تكن عطشانة، يترك قفص الأسود الملكية مفتوحًا في مرورها تكون الأسود واللبوات جالسة على بطنها تستريحُ أو نائمة.

في تلك الفترة، كان هنالك عدَّة خلافات بين المملكة والدول المجاورة، الجنود والحرس يتدربُّون تدريبًا مكثفًا ويأخذون الفتيان والفتيات المراهقين، يعلمونهم امتطاء الخيل، السباحة، السيَّافة، رمي السهام والقتال بالرمح.

فاجئت الأميرة ريما والدها بقدومها إليه في مكتبه وطلبها منه: 'أرغب في تعلِّم أساسيات القتال يا أبي.'

ردَّ عليها بعجلة، احمرَّت جبينه وانقبضت غضبًا من هذا الطلب: 'كلَّا يا ريما! لا يصلح للآنسات اللواتي في مكانتك أن يقاتلن في صفوف الحرب.'

رفعت يديها طلبًا وبصوت تملكه الترجّي: 'ولكنني لا أعرف كيف أدافع عن نفسي!'

'لهذا يوجد حراسٌ يتدربون كل يوم ليحمونكِ، لكي لا تحملين سيفًا يلطخ الأرض بالدماء وينفر الناس منكِ.' ردَّ الملك على حجتها ولكنها لم تجد في ما طرح إلا التناقض.

'لو كنت فتى،' ابتدئت كلامها وهي تشيح بوجهها وتبتعد متجهَّة إلى الباب، 'لما كنت ترددت.. بل وأجبرتني أن اتعلم وأصبح الأفضل!'

بالطبع كما تتوقعون فأن رام تنصَّت على شجارهما الصغير وارتسمت على وجهه إبتسامة بشعة، فمع كونه وسيمًا إلا إن قبح قلبه كان طاغيًا.

توجَّه إليها فور خروجها من مكتب الملك: 'مرحبًا مرحبًا.. ما بالك مستعجلة وتبدو عليكِ الضيقة؟!'

مسحت عينيها بكفهَّا وبحركة خفيفة: 'ليس بي خطبٌ يا عم، إذا سمحت لي فأنا ذاهبة لغرفتي..'

كلا ولن يسمح لهذه الفرصة أن تذهب من بين يديه، لم تكن خطوةً واحدة أخذتها ريما حتى نطق من وراء ظهرها: 'يمكنني تعليمك السيافة كبداية..' رآها وهي تقف وتستدير إليه ببطء وابتسم عارفًا إنه شدَّ إنتباهها، 'ولكنه يجب أن يبقى سر بيننا.'

وافقت ريما فورًا على عكس طبيعتها الحكيمة، فتحت باب التهور في حياتها لأول مرة، بسبب قرابتها من عمّها ورغبتها الشديدة بتعلم مهارات القتال كانت قد أعميت عن الخطر والخطأ الذي ارتكبته.

اتفقَّا أن يتقابلا بعد الظهيرة خارج ضواحي المملكة في أرضٍ قاحلة، خضرتها قليلة بل شبه معدومة وكأنها صحراءٌ مصغرة، كانت تتبعه أول يوم على ظهر فرسها حتى وصلا للمكان المنشود.

قدَّم لها سيف فضِّي بغمدٍ مزخرف بالذهب مع حزامٍ جلدي ثم بقي معها ساعتين يعلمها فقط الدفاع وكيفية الصدّ.

أستمرَّت هذه الدروس السرية سبعَ أيام مُتتالية بدون أن يشك أو يعرف أحد.. ثم في اليوم الثامن..

تظاهر رام إنه يتلفتُ يمينًا وشمالًا: 'هل سمعتي هذا؟!'

شدَّت ريما قبضتها على السيف وهي تلتفت: 'هل سمعت ماذا؟ أين؟'

أشار بسيفهِ على الكهف الصخري المُمتد للأسفل والمجاور للساحة، مدخله ضِّيق.. ومرعب.

'أعتقد إنه جاء من هناك، أكاد أقسم إنني سمعتُ طلبًا للنجدة!'

أعادت ريما سيفها إلى غمده بتردد وتوجهَّت إلى الكهف، أنحنت وهي تنظر للأسفل، حفرة مظلمة للغاية وكأنها قبرٌ مفتوح.

'إذا كان هنالك أحد بالأسفل فهل تسمع صوتي؟!!' أستعملت كِلتا يديها وهي تنادي منتظرةً الرد بسذاجة.

'كم أنتِ حمقاء لأبعد حد.' لم يكن الرد التي تتوقعه، فقد جاء مع ركلةٍ ساحقة في ظهرها أسقطتها داخل الكهف، تردد صوت إرتطام جسدها بالحجر محدثًا العديد من الكدمات والجروح المتفرقة وممزقًا ملابسها، تغيرت أحوالها في خلالِ ثواني ممتلئة بصرخاتٍ مستنجدة.

حين رفعت رأسها للأعلى بإتجاه غروب الشمس، نظرها بالعين اليمنى كان مشوشًا أما اليسرى فغطى عليها دمٌ سال من فلقٍ في رأسها.. ضعيفة وواهنة غير قادرة على الكلام، كانت تُبصر عمها يُطبق على مدخل الكهف بالأحجار..

لم تقدر إلَّا أن ترفع يدها وكأنها تطلبه وتترجَّاه أن يرحمها، ولكنه لم ينظر ناحيتها حتى، فما إحتمالات أن تنجو هذه الطفلة المدللة من قبرٍ لا أحد يعلم بمكانه، حيث لا يمكن لأحد سماعها، ولا يوجد حتى قطعة خبز.

لم تكن تريد أن تستسلم، ليست من النوع الذي يستسلم، حاولت الزحف ثم النهوض تكرارًا ومرارًا، وكلمَّا كان الضوء يختفي كانت تعرف إن القبر ينغلِق.

الدم يختلط مع الدَمع...

حتى فقدت وعيها على الصخر المظلم والبارد، أختفى آخر ضوءٍ من الغسق ليتحول لظلامٍ معتم، وآخر صوتٍ تسمعه كان حدوة الخيل وهي تبتعِد.

...

في وقتٍ متأخر من منتصف الليل، استعادت وعيها وقامت تلهث وتتألم بشدَّة، جسدها بالكامل تشعر به وكأنه زجاج محطم، ذهنها مشوَّش بسبب الظلام ورائحة التراب والحجر البارد.. تعلم تمامًا إنها مهما صرخت واستنجدت فلن يسمعها أحد إلا إذا أقترب، والصوت الوحيد الذي وصلها من الخارج هو رياح الليل.

استندت على صخرة وهي تعاين جروحها وكدمات جسدها، تفكّر، تحقِد، تتمنى، جائعة، تائهة، وحيدة، غاضبة، لا تعلم كم ساعَّة قد مرت وهي هكذا.. تفكِّر كم تحتاج من الوقت حتى تموت عطشًا أو جوعًا.. أو ربما لم تكن ساعات بل أيام؟! لم تعد تفرق بين النهار والليل، وفقدت الشعور بالزمن.. ما زال كل ما تسمعه هو رياح الصحراء.

عندما استطاعت على الوقوف اتجهَّت ناحية المدخل المدفون وقامت تنادي وهي تحاول تحريك الصخر وحفر مخرجٍ لها بالساعات، حتى كانت حركةٌ خاطئة جعلت الصخر ينهمر ويدفنها بالقبر أكثر فأكثر، ولم يسعها إلا البكاء وهي تستلقي من شدة العطش والتعب.

في تلك الأثناء أنتهبت على زوجِّي أعين حمراء تنظر لها مباشرةً في عتمة الظلام.. ظنَّت إنها مجرد هلوسة.. أو أن الموت جاء ليقابلها.. نعم.. فهي كانت قد استنفذت كل ما تملك من طاقة.. وكانت عينيها تنجذب لنومٍ عميق، نوم.. تعرف إنها لن تستيقظ منه إذا نامته.. لهذا كانت تقاومه بأقوى ما تملك وهي تنظر للعينين الحمراء.

'ألهذه الدرجة أنتِ متمسكة بالحياة، لما هي مهمةٌ جدًا بالنسبة لبشرية صغيرة؟'

صوت شيخٍ كبير في العمر أخترق سمعها الضعيف، جعلها تفتح عينها بإنتباهٍ أكثر وهي تنظر للعينين التي تقدمَّت ناحيتها وتبين إنه خفاشٌ أسود اللون.

'لم أرى شيئًا كهذا منذ مئات السنين، جسدكِ بالكامل مستعد لأن يموت، ولكن روحكِ تمنعه، متمسكة في الحياة بأقوى ما تملك.'

مدَّت ريما ذراعها ببطء شديد ناحية الخفاش، محاولةً التحدث، ولكن جفَّ ريقها من العطش.. ممَّا جعل الخفاش يندهش إنها ليست خائفةً منه.

'...أيتها الطفلة.. ما رأيكِ أن نعقد إتفاقًا.. أنا وأنتِ؟... سأمنحكِ ما تتمناهُ روحك وبالمقابل.. ستردِّين لي الجميل عندما أحتاجه؟'

حركت الأميرة ريما يدها بمعنى الموافقة.. فأقترب من وجهها الخفاش وحتى مع ضِعف نظرها كادت تقسم إنها رأت الثدِّي الأسود يبتسم وكأنه شيطان، هل عقدت إتفاقًا مع شيطان؟!

كانت تلك آخر فكرة تتبادر لذهنها الضعيف وهي تشعر بأسنان تغرز في عنقها.. حادةٌ للغاية أخترقت عروقها كإبر الخياطة.. رائحة الشيطان القريب منها بدت غريبة ومألوفة بنفس الوقت.. دم.

عندما أنتهى أبتعد وهو يراها تستسلم أخيرًا لغفوةٍ لن تكون الأخيرة، وقبل ذلك أحسَّ كلاهما بزعزعة في الكهف، وصوت لهب يحتكّ بالصخر ويصدر شرارَ النار.

'كلَّا!! ليس مجددًا! يجب أن أهرب الآن، أنتِ بمفردك أيتها الطفلة إلى أن أراكِ لاحقًا!!' صاح الخفاش وهو يبتعد ويختفي في بخارٍ أسود.

... يتبع~
 
الجزء الأول:

في الساعة التاسعة من الليل، أستيقظ على صوت نباح كلاب بالخارج.. فهمهم منزعجًا وهو يطبق على أذنيه، ولكن ما زال الإزعاج يصل لأذنه مما جعله يقفز من على السرير ويفتح النافذة.

صرخ بأعلى صوته: 'إن لم تخرسوا فسأصنع من فرائكم عدَّة معاطف!'

نادت عليه أمه من داخل المنزل: 'بسيل!' مما جعله يغلق النافذة فورًا ليتجنب الإحراج، 'أغلق فمك إن الناس نيام!'

'حاضر أمي..' تمتم بعد أن لاحظ أن الكلاب قد هربت وعمَّ الهدوء، ولكنه عندما عاد كان قد أستيقظ وذهب عنه النوم.

...

في نفس هذه الليلة، كانت هناك عينٌ أخرى تعود من نومٍ عميق وطويل، حمراء قاتِمة... قامت ريما تتفحصَّ جسدها لتجد إن جميع جروحها وكدماتها أختفت وكأن كل شيء كان حلمًا سيئًا، كانت لتعتقد إنه مجرد حلم لو لم تكن لا تزال مُحتجزة داخل الكهف.

جسدها الضعيف والواهن أصبح قويًأ، عدى شيء واحد كان يضايق نفسها وتركيزها..

كانت تشعر بعطش شديد، جعلها تمشي مسرعة متوجهةً ناحية مدخل الكهف وتحفر وتكسر الأحجار بأظافرها التي لاحظت عليها إنها طويلة وقوية للغاية، أستغرق الأمر ساعات ولكنها هذه المرة نجحت بالفعل في الحفر ولم تكن تصدق إنها أخيرًا صارت تشمُّ هواءًا نقيًا.

خرجت لتقف أمام الكهف في الصحراء، بملابس ممزقة مهترئة، بشرتها في غاية البهتان والشحب، شعرها ملوث بالترا مبعثر، بقع الدم اليابس ما زالت على وجهها، رأسها أرتفع ببطء لتتأمل عينها المُحمرَّة ذات الهالات السوداء ضوء القمر المكتمل.. أيُّ كائنٍ حي كان ليرى هذا المنظر كان سيستدير ويجري في أقرب فرصة.

مشت بعيدًا وهي تحاول كتم الإحساس بالعطش، على بعد أميال، وجدت بحيرة بجانبها خيمة كبيرة منصوبة بجانبها خيمة صغيرة، حصانٌ و جملين، فتسللت بخجل لكي لا يبصرها أحد بهذا المنظر البشع، وقامت بغسل نفسها وشعرها بالماء، وحينما حاولت شربه أحسَّت بأمعاءها تحترق وبصقته فورًا وكأن جسدها رفضه.

سمع رجلٌ صوت السعال فخرج يتفقد مصدره، عندما أنتبهت عليه غطَّت نفسها بيديها فورًا وهو خجل مبعدًا نظره عنها ونادى امرأتين كانتا في الخيمة، خرجتا مع طفلة وركضوا ناحية ريما.

'إلهي! ماذا حصل لكِ يا بنيتي! لماذا أنتِ بهذا الحال؟!' سألتها إحداهن وهي تمسح على كتفها.

'أنا آسفة لم أقصد إرعابكم..' تحدثَّت ريما بصوتٍ متقطع ومنكسِر غير مفهوم، فهي لم تكن تدرك إنها لم تنطق منذ ست سنين.

قاطعنها النساء وهم يأخذونها إلى الخيمة ويخبرونها إن كل شيء على ما يرام، يقدمنَّ لها الماء الذي كانت ترفضه بحجَّة إنها شربت وهي لا تزال عطشانة ولكن ليس الماء ما تشتهيه، ثم يقدمنَّ لها أطباق الطعام والتمر والفواكه منتظرين منها أن تأكل وهي خائفة تعلم إنها إذا وضعت أكلهم في فمها فأنها سوف تتقيأ.

'يا أختي لا تخيفي الفتاة الصغيرة هكذا! أنظري كم هي شاحبة وتائهة ربما تريد النوم فحسب وشهيتها ليست مفتوحةٌ للأكل بعد.'

'ربما أنتِ محقة يا أختاه.' ألتفتت بعدها للطفلة الصغيرة التي كانت تحدق في وجه ريما بدون توقف، 'ليان بنيتي!' ، 'أحضري شيئًا تلبسه الضيفة من ملابسي، لا يجدر بها البقاء هكذا في هذا البرد.'

اومئت الصغيرة ليان فورًا وقامت تجري لأحد زوايا الخيمة وتعود بملابس نظيفة تكسو كامل الجسم، بألوانٍ زاهية لفتت إنتباه ريما وجعلتها تبتسم، أزرق و زهري فاتح، كانت تحب هذه الألوان وهي صغيرة.

'هل تنامين جيدًا؟' كسر سرحان ريما صوت ليان الطفولي البريء.

أبتسمت ريما: 'أعتقد، إن لم أكن أنام جيدًا.. هل ستقلقين عليَّ؟'

اومئت ليان بخجل: 'نعم! عيناكِ حمراء وتعبة للغاية، يجب أن نأكل جيدًا ونرتاح حتى نكون بصحة جيدة!'

ضحكت ريما وقدمَّت اصبعها الخنصر للصغيرة: 'إذًا أعدك أن أكون بصحة جيدة حتى لا تقلقي عليَّ.'

ترددَّت ليان حين رؤيتها لأصابع ريما الطويلة الدامية والممتلئة بالتراب، لكنها رفعت بنظرها ووجدت إبتسامة صادقة بغض النظر عن كونها تشبه الشبح، لذلك أخذت اصبع ريما باصبعها وهي تبتسم.

أما ريما شعرت بالغثيان والدوار، عطش شديد حلَّ عليها وهي تشمّ رائحة ليان عن قرب وكأنها كالحلوى، ترغب وبشدة... أكل هذه الحلوى... ولكنها تمنع نفسها بأقوى ما تملك.

'ما هو أسمكِ؟' أمالت ليان رأسها وهي تتأمل وجهها.

'أنا الأميرة...' توقفَّت وسط كلامها وهي مصدومة، صُعقت إنها نست عائلتها والقصر، لا تعرف كم المدة التي غابتها وكم طولها.

'...أنتِ أميرة؟!' قفزت ليان ولكن ريما أستدارت بسرعة متجاهلةً لها وهي تسرع لخارج الخيمة، متفادية لنداءات العائلة.

ولكنها أستدارت للمرة الأخيرة: 'أنا أشكركم فعلًا على حسن ضيافتكم، ولكن لابد وأن أمي وأبي قلقان عليَّ للغاية الآن وينتظران عودتي!!' قالت قبل أن تأخذ بالجري تحت ضوء القمر.

...

'لماذا أنت هنا أصلًا؟' تحدَّث الجندي المراهق بتهكم وهو يأخذ قضمة من التفاحة التي بيده.

قلَّب بسيل عينه بملل: 'لأنني لم أستطع النوم فقررت أن أساعدك في المناوبة الليلية.'

همهم آدم: 'لأنك لم تستطع النوم ها، لم تفكر ولو مرَّة واحدة، ربما صديقي الوحيد الصدوق آدم يشعر بالوحدة والخوف في هذا الجزء من المدينة، ولكن عندما لا يأتيك النوم تبحث عمَّا يسليك.'

رفع بسيل يده وضرب فخذ آدم ممَّا جعله يكح: 'ربما أتجنب الجلوس معك لأنك تتذمر دائمًا وتحب التفاح.'

كررَّ آدم جملة بسيل بطريقة تهكمية وضحكا كلاهما، ثم أخذتهم عدَّة أحاديث قد تبدو بلا أهمية ولكنها بالنسبة لهما ممتعة، لم يكن هناك الكثير من المارَّة والذاهبين إلى القصر، فطبيعة المدينة بالكامل دائمًا كانت الهدوء في الليل، خصوصًا بعد حادثة إختفاء الأميرة قبل ست سنين ثم وفاة الملكة ومرض الملك.. خيَّم الإكتئاب على جميع المملكة.

أنتبه آدم على ظلِّ شخص يقترب من البوابة فتوقف عن الضحك وأشار لبسيل أن يقف معه، أقترب الظلَّ فتبينت لهم الفتاة الشاحبة ذات الشعر الطويل والملابس الزاهية.

'عذرًا يا آنسة، ماذا تفعلين عند القصر في هذا الوقت المتأخر من الليل؟'

'ماذا أفعل؟' تكتفَّت ريما بإستهزاء، 'لماذا يوجد طفلين يحرسان بوابة القصر؟'

ضحك بسيل على ملامح آدم جراء أسلوبها التهكمي، ثم تحدثَّ بجدية: 'يا آنسة إن لم يكن لديكِ أمرٌ لـ...' توقف عن الحديث فورًا جراء تركيزه على وجهها، لأنه لم يكن واضحًا بالبداية، وكأن أحدًا ما صبَّ عليه ماءً شديد البرودة.

خاف آدم: 'ماذا بك؟! بسيل؟!'

بسيل تلعثم ولم يعرف ماذا يقول، حتى نطق: 'الأميرة ريما..'

أستغرب آدم وأعاد بنظره إلى الفتاة ولكنه لم يجد الشبه، لكنها سبقته في الكلام: 'أنا آسفة.. ولكن من تكون؟'

تلعثم بسيل وهو لا يستطيع رفع نظره عنها: 'ولكن هذا مستحيل... كنت أنا بهذا الطول...' أشار على نفسه ثم أشار بطول قصير للغاية، 'كنت آتي مع الأ..أطفال إلى ساحة القصر لنلعب..معكِ..كنت تحبين الأطفال قبل.. قبل.. أين كنتِ؟!!!!!'

ريما واضعةً يديها على خاصريها بسخرية، مستمتعة بالصدمة على وجه الصبيين ولكن بذات الوقت هي بنفسها لا تعلم ما يجري.

'مستحـــــــيــــل.' أتهَّم آدم وهو يشير بالسبابة عليها ويقترب منها بإستنكار، 'لو كانت الأميرة المفقودة كانت ستكون امرأة بالغة الآن، ليست فتاة بعمرنا، إنها مجرد مخبولة جاءت لتضحك علينا.'

أبعدت يده عن وجهها وهي تتنهد: 'هل ستبتعد عنِّي الآن؟ أحتاج لرؤية أمي وأبي، بالتأكيد كانا قلقان عليَّ طيلة هذه السنين!'

نظر إليها كِلا الجنديين بصدمة، يعاينانِ وجهها بعناية لكي يروا إن كانت مزحة سيئة، مقلب ثقيل، ولكنها كانت تتكلم بجدية.

أخرج آدم سيفه من غمده: 'آمرك بالتراجع والعودة إلى منزلكِ فورًا وإلا سيتم إحتجازك تحت أسم الحرس الملكي.'

أتسعَّت عينا ريما وتقدمًّت خطوة بتحدي: 'هــــذا هـــــو... مـــنــزلــي؟'

بسيل مدَّ يده لكي يوقف آدم عن أي تهوُّور: 'أنا لا أعلم إن كنتِ مريضة تعتقد إنها الأميرة المفقودة، أو كنتِ الأميرة فعلًا، ولكن كل من في هذه البلاد يعلم بشأن وفاة الملكة ومرض الملك.'

كلماته كانت مرتبكة، وقعها ثقيل على مسامع الاثنين، آدم يرتجف خوفًا حتى مع تظاهره بالشجاعة..

ريما...

أخفضت رأسها وأختفت ملامح وجهها تحت خصلاتِ شعرها البنية والطويلة، لحظة صمت أستمرَّت أكثر من دقيقة.

حتَّى مشت ريما وهي تتخطَّاهم بثبات كالسراب الأسود، وتجنبَّت قضبان البوابة الحديدية في ضبابٍ أسود وكأن جسدها تفكك لمليون جزيء وعاد ليتشكَّل بداخل ساحة القصر.

هلعَ آدم وقام يصرخ: 'وحـــش! وحـــش! ســأطـلــق أجراس الإنـــذار!!'

ترددَّ بسيل، إما أن يلحق بـ الشيطان الذي يشبه الأميرة ، أو أن يوقف صاحبه حتى لا يثير الجدل والرعب في قلوب العامَّة، في لحظة هلع قام بضرب آدم فأغمي عليه ولم يضرب جرس الإنذار.

ولكنه عندما ألتفت للساحة لم تكن ريما موجودة ! قد سبقته بدخول القصر...

قام يسرع بفتح البوابة لكِي يتمكن من لحاقها...

...يتبع~
 
عودة
أعلى