حكايات بين الرفوف (م.ق)

- قطعة دجاج صغيرة

(إدريس) ذاك الرجل ذو قلب هادىء , حليم لايغضب أعصاب باردة مشاعر كبيرة نيته صادقة , مشكلته الوحيدة التي يعاني منها وكثيرا ممن هم على شاكلته , متزوج بامرأة سليطة اللسان كثيرة الصراخ لاتمل لاتتعب من مشاكلها , ماستحت من أحد حتى زوجها المسكين (إدريس) إذ مرمرته وشيبته بلا سبب فقط أنه كان طيب محب

لاشيئ يعجبها متذمرة متهكمة لاتشكر لاتحمد , يشتري لها طعام أو لباس أو عسى هدية باهضة إذ بها تذمه وذوقه وسوء أختياره تصفه بإلقاب نابية كثيرا ماكان يسمعها منها , تستهزء به وعائلته عمله ماله .

شيئا شيئا إذ ب(إدريس) يعود متأخرا إلى منزله الذي تمنى أن يخرج منه يوم ولايرجع , لجحيم من تعيش معه تلك المرأة التي قلبت عالمه عالي سافل .

كعادتها تلك الزوجة راحت تتذمر وتشتكي منه إذ لايعود ألا متأخر لايجلس معها كثير يتركها لوحدها في المنزل الذي سمته أو شبهته بقفص للفئران لم تغير عاداتها الرديئة ظنت كل شيئا تستطيع أخذه بصراخها ولسانها ذاك كسم الأفعى يؤذي من يصيبه ولو أحتكاك , من الصعب أن يتغير المرء بين ليلة وضحاها لاسيما أن حمل صفاته السيئة في صغره وربت معه لتكبر غير ابهى بمتغيرات الزمان والمكان والمحيطين حوله .

لم يهتم (إدريس) لتهكم الزوجة ضارب بها وعيشتها عرض الحائط فقد بلغ السيل زبى , أخذ يتصرف كما يحلو له ينام خارج المنزل لايكلم الزوجة ولايلبي متطلباتها , وقاحتها أزدادت أكثر راحت تشك فيه سوء ربما تزوج عليها بأخرى أو لديه صديقة ما .

ذات ليلة عاد إلى منزله كأنه مرغما , إذ بزوجته غاضبة تصرخ لقطيعته وعدم أهتمامه , مادار لها بالا أشتد غضبها صرخت إلى أن بح صوتها دون أن يرد عليها , فكرت برهة كأنها تشاور أحد عفاريتها أرادت أن تلطف الأجواء معه فسألته بغزل: أين تذهب , لما تعود متأخرا, أخبرني , يازوجي العزيز
إدريس : شاءت الصدف أن أتعرف بصديق لطيف أحببته مذ رأيته أول مرة , يسعدني الجلوس معه , لم أرتح في حياتي هكذا من قبل .

كبر الشك لدى الزوجة أكثر من ذي قبل أفتعلت له مشاكل ماعرف كيف يخرج منها , تمر الأيام والمشاكل تزيد وتيرتها حده كبالون أنتفخ وأنتفخ ينتظر إبرة صغيرة تفجره.

ذات ليل كريه رطب وقتئذ دخل (إدريس) بيته , إذ بزوجته ومن عذبته في عيشته بكل شرورها تنتظره صرخت في وجهه قائلة : عليك الأختيار أما أنا أو صديقك هذا الذي ماعرفه أحد !
كأن (إدريس) ينتظر هذا اليوم من ليلة زفافة إذ قال بلا تردد : حسنا , لك ماأردت , أطلقك ثلاث , دون تراجع , أسمعيني , لاأريد أن اراك هنا وقت عودتي .

في قمة غضبها وحنقها فكرت الزوجة : هو الان خرج بالتأكيد سيذهب إلى صديقه الذي أخبرني عنه , سألاحقه كي أعرف مالحكاية ؟

بهدوء تبعته كي تكشف سر زوجها وصديقه الذي تطلقت من أجله تدمرت حياتها وأنكسرت شوكتها بسببه , إذ بها تتفاجأ بدخول (إدريس) كوخ خشبي صغير لايكاد يتسع لشخصين؟

زاد ذاك من دهشتها التي أصابتها وقت طلاقها , دخلت دون أن تستأذن وليتها لم تفعل , إذ بها تكتشف أن صديق زوجها الذي تطلقت بسببه مجرد كلب .

تبسم (إدريس) لحظة رؤيتها , بمشاعره تلك سألها : ماتفعلين هنا ؟
الزوجة : أمجنون أنت , طلقتني لأجل كلب ؟
إدريس : هذا الكلب , يتفوق عليك بكل شيء , وفاء صدقا إخلاص محبة , ذات مرة أشتريت لك طعام بدلا من شكري أمرتني برميه في السكة لأنه ماعجبك , خرجت كالغبي لأفعل , وقتئذ رأيت هذا الكلب يلهث عطش وجوعا أسقيته ماء ناولته لحظتها قطعة دجاج صغيرة من ذاك الطعام وماتذمرتي منه , تركته , بعد بضع يوم كنت أمشي كارها عيشتي ألعنها تفاجأت بهذا الكلب يجري خلفي كي يحميني , ليس هذا فحسب , مرت أيام أخر خرجت أجري أمارس رياضتي , بغفلة مني هاجمتني كلاب متوحشة جاء هذا الكلب أنقذني منها , كاد يموت بسببي ساعتها , أخبريني , من أجل ماذا ؟ قطعة دجاج صغيرة , أنما أنتي أعطيتك ماتريدين وأكثر , ماستفدت منك بشيء , صراخ وعويل وبكاء مشاكل لاجزاء لاشكور , أوتظني نفسك أفضل من هذا الكلب , إذ أصبح خادما لي ومطيع يفني عمره لحمايتي من أجل قطعة دجاج صغيرة .

أجهشت الزوجة بكاء شديدا ماجربته مرة كأنها تندب حظها المجنون إذ تساوى بكلب , قالت : أرجوك , يا إدريس ماسيقول الناس عني , ومايظنون بي , ومايعايروني ساعتها , طلقها زوجها لأجل كلب , كلب يا إدريس كلب , ألم تجد غيره , هيا , دعنا نعود للمنزل , سأكون خادمة مطيعة أكثر من كلبك هذا .

لم يهتم لها وكأنه لم يسمع شيئا لعب برهة وكلبه , قال لحظتها: أبتعدي قليلا , سأخرج وكلبي , نتمشى نلعب نمرح , سأشتري له حينها قطعة دجاج كبيرة أظنها يستحقها أليس كذلك ؟
أخذ كلبه خرج من ذاك الكوخ معه مغادرا تارك زوجته بحسرتها تبكي وحيدة
 
- صندوق المال

(هارون) وشقيقه أكثر من الأخوة تجمعهم رابط الدم ذاك عندهم يختلف عن كل الفصائل الأخرى , تلك الكيمياء بينهم إذ حاول أن يفكها الفقر والعمر وكوارث الدهر التي تعصف بالجميع لكنها أنكسرت ذلا أمام جبروت الصمود .

يعملون في صيد السمك رزق حلال ما تربوا عليه , ذات يوم شؤم بدا البحر هائجا معاتبا معاقب أياهم لتلاحمهم محاولا أن يفك جزيئات الكيمياء تلك التي أثارت جدل كل من يعرفهم فلم يكن هناك أسماكا أو شيئا اخر تعودوا على أصطياده لم ييأسوا بل ظلوا يعومون بقاربهم هنا وهناك علهم يجدون مكانا يفيدهم , لحظات بحالتهم تلك إذ وصلوا منطقة في البحر تقبع عليها جزيرة يحيطها ضبابا وظلام , الأمر الذي أثار ربيتهم فلم يعهدوا أو يسمعوا من قبل بوجود جزيرة أو شجرة أو حتى صخرة في هذه البقعة , بعد تخبط تردد ذهبوا إلى الجزيرة نزلوا فيها بحثوا عن أحدا أو شيئا أو عسى علامة يستدلون بها , لكن كل ماحولهم يوحي بوحشة ذلك المكان .

بحيرتهم طيشهم وحدتهم ظلوا يتمازحون تارة وأخرى يبحثون وإذ بصندوقا كبيرا بدا أمامهما جليا , له لمعان وبريق مبهر , بسرعة فتحوه كأنهم غير مصدقين ذلك , ياإلهي ! أنها نقودا ذهبية سلبت لبهما , وأحنت ظهورهما لملامستها بأيدي جافة ماعرفت النعيم قط , مالا كثيرا يذل العزيزويعز الذليل , هكذا تراود لديهما .

هنا وقفوا ينظران لبعضهما بنظرات لم يعتادونها قط تلك اللحظة قد تفرقهم كما فعلت بخطى السابقين من قبلهم , لم يعجب الشقيقان ماحدث بينهم تركوا صندوق الفتنة ذاك أبتعدوا عن المكان الذي يغرر بأحدهم وجلسوا في محلا منعزل على جزيرة الشؤم بجمالها البشع وأشجارها المخيفة التي لن تنم قبل أن تفتن أحدهم .

لحظات قليلة مرت أستلقى فيها الشقيقان يتكلمون فيما بينهم عن طريقة للخروج من الجزيرة التي بدت ككابوس مرعب قضى مضاجعهم الهادئة إلى أن غطوا في سباتهم

ساعة مرت فتح (هارون) عينه لم يجد شقيقه نظر يمينا شمالا راه يتصرف بشكلا مريب للشك والغدر يذهب ويعود تجاه القارب والصندوق لكنه لم يحرك ساكنا تصرف كأنه نائم , لحظات عاد شقيقه أستلقى بجانبه غطى في نومه .

تلك اللحظات حملت بين طياتها علامة التعجب والقهر (هارون) يوسوس بين نفسه :
- هل شقيقي سيسرق المال ويهرب ؟
- هل سيقتلني خلسة في نومي ؟
كل دقيقة تمر والشك يكبر فيها لديه ظل يخطط يجهز يستعد خوفا من أن غدر شقيقه في أية لحظة , لم يقدر أن يغمض عينيه كل تلك الكوابيس والهواجس التي يعيشها بداخله تجعل جزيرة الشؤم بهيبتها تحذر منه , هنا قال لايوجد سوى حلا واحد أن أقوم بقتله كي امن نفسي وأسرق المال وأرجع .

شيئا فشيئا كبرت الفكرة داخل عقله فقام وأخذ حجرا كبيرا من الأرض أضاء برقا في السماء تبعه صوت رعد فرفع (هارون) مابيده عاليا وضرب رأس شقيقه بقوة شديدة أهتزت منه جزيرة الشؤم هز , أعاد الكرة مرارا تكرارا حتى هشم رأسه بالأرض بأنفاسه الحنقه وعرق يتصبب منه ومشاعرا تلبد تحتها لهيب أشد من الشمس حرارة

بسرعة حمل صندوق المال إلى قاربه رغم ثقله الذي بدا كحجرا ضخم صلب وهرب تاركا جزيرة الشؤم خلفه وشقيقا تتلذذ بلحمه السباع .

أبحر عائدا إلى دياره بلا نفس تلوم أو ضمير يأنب فالمال الذي أراده وجعله يفعل فعلته أصبح لديه وملك له لوحده , في غمرة سعادته تلك لاحظ بأن الماء يدخل القارب بكثرة ماكدر مزاجه بشدة فذهب بسرعة كي يصلحه يحاول تارة وأخرى يغطيه لكن بدون فائدة أمتلى نصفه بالماء وهو لايفعل شيئا ,شعر لحظتها بأنه عقاب لجريمته وكأن روح شقيقه سكنت القارب معه .

وقتئذ كان منشغلا بمشكلته يفكر مايفعل يمد يده هنا هناك وجد رسالة حشرت تحت إحدى الخشبات أخذها فتحها بدأ يقرأ :
شقيقي العزيز , عندما رأينا صندوق المال بالإمس كل شيئا تحطم بيننا الأخوة الدم الصداقة التعاون المحبة كلها ضاعت في نظرة , عرفت حينها بإنك ستقتلني أو سأقتلك , فالليل وجدتك نائما ذهبت لقاربنا الذي حمل ذكرايتنا أحلامنا دموعنا أفراحنا وأحدثت فيه شقا , فمن سيقتل فينا الاخر غدرا وهو نائم ويركب القارب ليهرب بالمال فلن يستطيع العودة به تذكرت عهدا قطعناه صغارا , نحيا معا أو نموت معا لايفرق شيئا بيننا , عندما نظرنا إلى بعضنا بعضا تلك النظرة المخيفة لم نكن نحن كنا أشخاصا اخرين باعوا أغلى مالديهم بأبخس ثمن , أشخاصا نظروا إلى الصندوق ولم ينظرون بداخله فتحوه وأخذوا منه مالا , أشتروا الكراهية وباعوا الحب , أشتروا الكذب وباعوا الصدق ,أشتروا الخيانة وباعوا الأمانة , أشتروا الذل وباعوا الكرامة , أشتروا الغدر وباعوا الشجاعة , أشتروا القسوة وباعوا الرحمة , اللعنة على تلك اللحظة التي رأينا فيها المال , المحب شقيقك .

أنهى (هارون) قراءة الرسالة أنتابته قشعريرة ما شعر بها من قبل كخنجرا يطعن في بطنه وصدره وكل جسده صرخ حسرة هزت البحر بمداها , ظل يبكي ويبكي ويبكي حتى امتلاء القارب بالماء غرق (هارون) وصندوق المال معه .
 
- فليسوف في المطعم

كان هناك فليسوفا يمتلك علما وثقافتا قل نظيرها في وقتنا , لاينطق إلا بما هو ناجع يفيد من يستمع إليه كل مناظرة دخلها خرج منها فائزا منتصرا بكل سهولة حتى مع من كان يدعي الأدب ويقرأ كتب ألفتها فطاحلة العلم مذ بدأ التاريخ إلى يومنا , يصعب جدا خداعه في مناقشة أو محادثة كيف ذلك وعقله لايتوقف عن ضخ المعلومات والثقافة التي جعلته يتسلق علا درجات الحكمة .

مايعيبه أنه كان متكبرا جدا ومتعالي يستحقر الأميين وينبذ الجهلة يكره من لايملك شهادة تنفعه أو شخص لاطموح له سوى العيش بسيط وعمل يسد حاجته من الجوع .

في ظهر يوم حارق ألقت به الأقدار داخل قرية صغيرة جدا لاذكر لها ولا وجود حتى على الخرائط , يتبختر في مشيه كأنه يملك الأرض ومن عليها مستصغرا ناسها ومن يقطنها لتخلفهم وجهلهم , رغم شبعه علما وأدبا ألا أن بطنه كان جائعا يزغزغ من الداخل يريد شيئا يأكله فلم ينفعه حينها فلسفته وماكان يتباهى به .

بينما كان يسير في أحدى الشوارع بغرورا كأنه وحيدا دونا عن أحد بخطواته المتساوية ينفض الغبار عن ملابسه التي شوهت رأى مطعما في الزاوية قد أعجب بشكله من الخارج فدخل كي يشبع بطنه ذلك العضو في الجسد الذي ركع حتى كبار القوم جوعا .

بكل عبوس وأشمئزاز أخذ ينظر في وجوه المتواجدين لملابسهم الرثة البسيطة وعقولهم التي بدت له واضحة قليلوا العلم محدودي الذكاء , جلس على طاولة بعد أن نظف مايحيطها من كراس مسحهم بقوة كأنه سيجلس على عرش من عروش الأباطرة .

قرأ بكبرياء كتاب قائمة الطعام متأفف إذ الأكل هنا أقل شأن منه نظرة سريعة لفها حول المطعم أراد فيها أن يعرفهم بنفسه قال بنبرة تعال : أما فيكم رجلا ذات ذائقة علمية وأدبية ؟ قالوا له : لا , لايوجد ,أبتسم بعدها قائلا : توقعت ذلك ,
طلب بعض الطعام الذي غصبه على نفسه كأنه مجبرا لجوع ذله كم ذل من كان قبله , جلس يأكل بنهم وشهية مفتوحة لحظتها لفت نظره شابا متواضعا قد دخل المطعم .

فناد عليه كي يجلس معه على الطاولة مما أثار غرابة الشاب وجعله متردد لثوان معدودة حتى أنظم لمائدته .

باغته الفيلسوف بسؤاله : ماأسمك , وماهو مجال عملك ؟
الشاب : أسمي (سلمان) , وأعمل كاتبا
الفليسوف بعد فرحة غمرته : أخيرا وجدت أحدا هنا لديه بعض من الثقافة
قال سلمان متعجبا : لما , مانوع وظيفتك ؟
شعر الفيلسوف بإهانه شديدة من ذاك السؤال وقال : أنظر إلى طريقة كلامي وكيف هو سلس منمق ستعرف حينها أنني فيلسوف
سلمان : ولما كل هذا الغرور ؟
الفيلسوف : لنكن واقعيين قليلا , أتعرف أحدا لديه نصف ماأملك من العلم ؟
سلمان : صدقني , قد كتبت أشياء لم يفهمها حتى المتمرسين في العلم لشدة تعقيدها وفلسفتها , ومع ذلك لم أتعالى على أحد أو أدعي المعرفة
ضحك الفيلسوف ساخرا مستهزء وقال : حسنا أيها المثقف , أخبرني شيئا لا أعرفه ؟
سلمان : ولما أفعل ذلك , ثم أن لدي عمل بعد قليل
الفيلسوف : يبدو أنك تخاف من أن أكتشف مدى جهلك وقلة حيلتك
سلمان : لا , ليس كذلك , لكنني في عجالة ولست في مزاج يسمح لذلك .

متحدي مستكبر كأنه أحس بأهانة منه إذ أخرج من جيبه 5000 دولار وضعها على الطاولة وقال ل(سلمان) : أعطني سؤالا واحد لا أعرف أجابته ويصبح كل هذا المال ملكا لك ؟
سكت سلمان قليلا ثم قال : حسنا , أنا موافق أيها (الغثد) ؟
أبتسم الفيلسوف وفهم سؤال سلمان ماذا تعني (كلمة غثد)؟ بدا سهلا كلعبة سخيفة كان يلعبها كل يوم حتى مل منها حفظها وعرفها ظهرا عن قلب .

نظر الفيلسوف يمينا شمالا وقال : كلمة (غثد) تعني شخصا شديد الذكاء
سلمان : لا
الفيلسوف : تعني شخصا لايتكلم ألا بالحكمة
سلمان : لا
الفيلسوف : تعني شخصا ذو حنكة
سلمان : لا
سكت الفيسوف قليلا بدأ يفكر ثم قال : أعرف معنى كلمة قثد وكلمة غث ولكن (غثد) ؟ أظنه سؤالا مخادع , فهذه الكلمة ليست موجودة أصلا ؟
ضحك سلمان مبديا غرابته وقال : بالطبع موجودة , ألم تسمعني قبل قليل أناديك (بالغثد)؟
الفيلسوف : حسنا , تعني شخصا متعمق في العلم
سلمان : أقتربت قليلا ؟
أبتسم الفيلسوف كثعلب يجهز ضحيته كي ينقضى عليها وقال : تعني شخصا بارع في الفلسفة
سلمان : لا
ظل الفيلسوف يقول كلمات كثيرة و(سلمان) يقول له : لا .

أصابته حالة من التوتر إذ شعر بأن ماحفظه كل سنينه قد يذهب في لحظة غفلة منه أستغل حينها ) سلمان) الفرصة وقال له : هيا , لدي عمل الان , إذ كنت لاتعرف معنى الكلمة أخبرني ؟
الفيلسوف بحرج سارع أنفاسه قال : لا , لا , أنتظر قليلا , سأعرف معناها ؟
نظر (سلمان) لساعته وقال : تأخرت عن عملي , سأعطيك أجابة واحدة وبعدها سأرحل ؟

أستجمع كل علمه وثقافته وأدبه يفكر في تلك الكلمة التي لم يذكر مرة أنه سمعها أبتسم خلالها كأنه عرف الأجابة التي كادت تطيح به سافلا , وقال : عرفتها , تعني شخصا فذ البصيرة
تبسم سلمان وقال : لا , ليست كذلك .

حرج وخجل أصيب الفيلسوف ضيق ماأحسه من قبل كضربة قوية على رأسه نفضت حتى الأحرف من على جبينه , محاولا أن يلملم فشله , قال ل(سلمان) : ربما قلت المعنى الصحيح للكلمة ولكنك لاتريد الأعتراف بهذا , أنظر لدي هاتفي وسأبحث في مواقع الأنترنت عن الكلمة , إن كان كل ماقلته خاطئ , سأعترف لك بهزيمتي وخذ المال واذهب .

بعجالة رد سلمان : حسنا , تأكد من ذلك ولكن بسرعة ,
بدأ الفيلسوف يبحث في مواقع الأنترنت عن الكلمة متمنيا بين ذاته أن يجدها كي يكسر شوكة من تحداه وجعله صغيرا بلا معنى ألا أنه لم يجد شيئا , قلبه يشتعل قهرا وغضب يبحث أكثر وأكثر لكنه لم يجد لا الكلمة ولا معناها , دهشة وحيرة أصابته وخلخلته مما أسقط الهاتف من يده نظر مذهولا إلى (سلمان) بعد أن أقنع بواقعه , وقال له : اللعنة , أي شهادة تمتلك , أي علما لديك .

لم يتباهى (سلمان) بتغلبه بل قال بكل أدب : يجب أن نكون متواضعين دائما , ثم أخذ المال الذي أكتسبه ببساطته وبلاغته الشديدة وأكسبه أحترام خصمه المغرور المتباهي هم بعدها بالخروج مما جعل الفيلسوف يستوقفه بسرعة ويسأله : أنتظر , لم تخبرني ماذا تعني كلمة (غثد) ؟ قال سلمان بعد أن حك رأسه : ألم تقل بأنك فيلسوف , حسنا , أخبر كل فلاسفتك بهذه الكلمة وإذا عرفتم الأجابة ساضاعف لكم المبلغ ثلاث مرات , ثم تركه ورحل .

منبهرا معجبا من ثقافة (سلمان) وعلمه وتواضعه خرج الفيلسوف من المطعم مشى قليلا فرحا بعلما زاد في خزائنه وكلمة أضيفت إلى كنوز يختزنها في عقله لايعرفها أحد .

لم يبتعد من ذاك المطعم كثيرا لشدة تفكيره في الكلمة التي صفعته وجننته وقللت من قدره فتفاجأة بطفلان صغيران مرا بجانبه يلعبون ويمزحون بين بعضهم إذ أحدهما قال للاخر: أبتعد عني أيها (الغثد)؟
مما حذى بالفيلسوف أن يتوقف راغما عن أنفه وذات الشمال واليمين تتمتم بين نفسه : ويحي , كأن الطفل قال (غثد)؟

مخاطب غروره الذي لم ينتشل : كيف لطفل صغير يقول كلمة ظنا منه أنه الوحيد الذي سمعها بينما هي عقدته وجعلت كبرياءه يذهب هباء منثورا , فناداه بسرعة حتى جاء إليه ,
سأله الفيلسوف بلهفة : أيها الطفل , أقلت (غثد)؟
الطفل : نعم
الفيلسوف : ماذا تعني هذه الكلمة اللعينة ؟
الطفل : تعني (الشخص الذي يأكل بطريقة قذرة ومقرفة) , نحن في هذه المدينة نسميه (غثد) ولاأحد يعرف معنى الكلمة ألا من يعيش هنا .

لحظتها اه , اه , بعد أن فات منه الوقت المحدد للسؤال عرف ذكاء (سلمان) إذ أراد منه أجابة لا أحد يعرفها ألا أهل مدينته الصغيرة .

شعر بعدها بغباء يتملكه وحماقة في داخله وصغر عقلا أقل من الطفل فسأله : هل رأيت الشاب الذي خرج قبل قليل من المطعم ؟
الطفل : أي شاب , أتقصد (سلمان)؟
الفيلسوف : نعم , نعم (سلمان) أتعرفه , في أي وظيفة يعمل ؟
أجابه الطفل ضاحكا : أنه لصا مخادع , أمي لايقرء ولا يكتب
_____________________________

ملاحظة \ كلمة (غثد) ومعناها الذي ذكرتهم في القصة , أنا من أبتكرتهم لأحداث القصة فقط , إذا كانت الكلمة موجودة فعلا ولها معنى يختلف أو حتى نفس المعنى فهو مجرد التباس لا غير
 
- حلما لم يراودني مرة

(جابر) رجلا عرفت عنه أخلاقه العالية مدرس متزوج لديه طفل أشغله بحياته التي أنشغل عنها قبلا فلا يحب المشاكل أو أخواتها يسير مع الحائط جنب إلى جنب لم يؤذي حتى قطط الشوارع التي أفزعته في نومه ومنزله , الجميع كان يحترمه ويقدره لطيبته وصدقه وأمانته ,إذ كان قدوة لطلابه ومن حوله .

ذات ليلة حارة رطبة وقتذ كان القمر مختفيا بنوره كأنه يلبد خلفه بلوة ما أو مصيبة , كان يجوب الشوارع بسيارته إذ أدخله القدر كمن تعمد ذلك إلى أحد الأحياء المهجورة ومبانيها الموحشة المتهالكة لاصوت يعلو فيها عدى صرير الحشرات المخيف .

تفاجأة أمام سيارته إذ رأى رجلا ملقى على الأرض ملطخا بدمائه يلتقط أنفاسه الأخيرة , توقف مفزوع خائف من ذلك هب لنجدته بسرعة كي ينقذ نفس كأنه ينقذ بذلك الناس جميعا , وضع يده على صدره يضغط ويضغط ليدب الحياة فيه من جديد لكن محاولته تلك بائت بالفشل إذ وصل متأخر ومات الرجل بين يديه .

متحيرا لايدري (جابر) ما العمل؟ وكأن دنياه تعاقبه لأنها أبعدته عن مشاكلها كل تلك السنين ,أحاطته الشرطة من كل جانب قبضوا عليه زجوا به في السجن , لم يتكلم لم يرد لم يدافع عن نفسه من تلك المصيبة التي تسللت إليه وأصابته في مقتل .

وحيدا متهم في قضية لاناقة له فيها ولاجمل ذنبه مر بلحظة غدرت به الحياة وبدل أن ينقذ روح أصبح يصارع ليبقى روحه حية تنبض .

حكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص لكفاية الأدلة التي تدينه , كان يعيش حلما يعيش أو وهما كابوس ما أفزعه من نومه قط , معاتب ذاته التي كانت طيبة مع الجميع إذ كافأها القدر بهذهالتهمة والحكم الجائر بحقه لم يرحمه أو أخلاقها ونيته التي صفاها مع كل من قابلهم .

موعد أعدامه أقترب وهو لايحرك ساكنا , والده أشقاءه زوجته أصدقاءه طلابه فعلوا كل مابوسعهم لتبرئته لكن دون جدوى ألتزقت به تلك الجريمة وسكنته كأنها أرتكبها فعلا .

الأيام تمر عليه كالثواني حالته النفسية تزداد سوء فمن يلومه , لايأكل لايشرب لايتكلم , يجلس منزويا في زنزانته التي أصبحت كعالمه لايريد أن يغادره .

جاء يوم الشؤم الذي سينفذ حكمه ويقطع نفسه ويسفك دمه ظلما , كما في السجن كثر من شاكلته , تجمع الحشد أحضرته الشرطة بقوة بعد أن جرجروه وسحلوه إذ كان ممسكا بأعمدة الزنزانة التي بدت اخر صديق لديه قد يساعده .

الجميع كان يدعو يصلي حتى الساعة الأخيرة عل معجزة من السماء تنزل وتنقذه , حان الوقت المحدد لتنفيذ الأعدام حضر الشرطي الذي سيطلق النار عليه دون رحمة أو ذرة شفقة ماهتزت شعرة منه رغم ماسمع عن (جابر) وأخلاقه الحميدة التي لن تفكه من رصاصة الشر تلك حيث ستستقر في رأسه يعلم ذلك لكنه لن يستطيع أن يردعها فعينه تبصر ولكن يده قصيرة .

رفع سلاحه كي ينهي حياة (جابر) التي عاش اخرها ميتا أصلا , لكن قبل أن يطلق الرصاص بلحظة واحدة ؟ جاء رجلا من الخلف يجري مهرولا وقال : أوقفوا تنفيذ الحكم , أنا القاتل الذي تبحثون عنه ؟

حدث ضجيجا بين الحشد سمعه حتى الأصم , تهليلا وتكبير يالها من لحظة , يالها من نصرة لمظلوم حكم عليه بالإعدام , ياللرحمة السماء , ألقت الشرطة القبض على الرجل برء بعدها (جابر) من التهمة حينما تحققت الشرطة من أقوال القاتل , كأنها مصيبة أشتدت به لتنفرج بسيناريو الحياة المحكم حيث هذا العالم المجنون يسير وفق خطة .

مرت الأيام ظل (جابر) يتابع تلك القضية التي كانت تدق المسامير في نعشه , كأنه حلما لم يستفيق منه بعد , يتابع أدق التفاصيل , يقرء كل ورقة لدى الشرطة يسأل أي شخص له علاقة بالجريمة , شعر بأن هناك حلقة مفقودة , شيئا لم يكتمل , غموضا يلفها في مكان ما , سرا دفين وراءها .

ضاع في كل تلك الألغاز لم يعرف طريقة لحلها الشخص الوحيد الذي يعرف كل ذلك هو القاتل نفسه (جابر) لم يزره ولو لمرة واحدة ربما خائف أو مستكرها أو هارب من نظرات عيون من أنقذه وأرجع له ماكاد يقتله .

أياما قلائل تفصل القاتل عن موعد تنفيذ حكمه مما خشي (جابر) أن يرحل الرجل ويدفن معه كثيرا من الأسرار والأسئلة التي لم يعرف أجاباتها , فقد قضت مضجعه ومن يحب حذرته وأختبرته بحكاية الجريمة تلك وماشابها من أعدام .

معاندا نفسه زار القاتل في زنزانته جلس قليلا دون أن يتكلم يتلعثم يتردد ينظر إلى عينيه وبرودها كي يكتشف حقيقة ماوراءها , لحظات ثم قال :
في الحقيقة لا أعرف ماذا أقول لك , فالكثير من الأسئلة تشغلني , لكن لما أعترفت بجريمتك ؟
ظل القاتل هادئا لم ينبس بشيء ذو أعصاب باردة إذ انتظر (جابر) إجابة أعتقد بأنه يعرفها مسبقا ,
قال الرجل بعد صمت متقع إجابته الغريبة : أنا لست القاتل .

كان وقع الكلام عليه كالصاعقة , هز أركانه , وأفقده رشده مصدقا مكذبا بعد حيرة , قال : كيف لست أنت القاتل , لما أعترفت بالجريمة إذا , لما ذهبت للموت بقدميك ؟
الرجل : لمعروفا فعلته لي
توقف (جابر) في مكانه , تزلزل في صدمته , أخذ يمعن النظر في الرجل جيدا يمينا شمالا يسأل نفسه المشتتة ويصارعها : اللعنة , من هذا الرجل , لاأتذكر بأني رأيته من قبل!

ظل يحدث نفسه برهة ويصفعها لعلها تذكر شيئا مضى لكن دون جدوى , قال بعدها:
- من أنت ياهذا ؟
- مالمعروف الذي فعلته لك ؟
- ماقصتك معي ؟

قال الرجل : أتعرف , أحيانا تفصيلا صغير يغير مجرى حياتك إلى الأبد , قبل سنتين طرق بابك رجلا مشرد يطلب طعاما أدخلته منزلك وتناولت العشاء معه وأسرتك جعلته ينام تلك الليلة في منزلك , أتذكر ؟
قال جابر الذي لم يفق من صدمته بعد : نعم , نعم , ذلك المشرد , أتذكره .
الرجل : أنا ذلك المشرد ؟

سكت بعدها لحظات ودقائق مسترجعا طفولته القاسية التي عاشها وتمرمر منها , وقال :
30 سنة عشت مشردا بلا منزل بلا عائلة أذهب من مكانا إلى اخر , قرية تلو قرية , أطلب المال من الناس , أنام على الأرصفة , يمر الجميع بجانبي ويرمون علي القمامة , كنت نكرة , لاشيئ ,لم ينظر إلي أحد , لكنني لم أنتحب يوما أو أتذمر فلم يهمني ذلك , لأنني ولدت في هذا الواقع فتقبلته , كنت ميتا بلا مشاعر فلا قلب يخشع أو عين تدمع , لكن عندما دخلت منزلك تلك الليلة وأتناولت الطعام معكم , كانت أسعد لحظات حياتي , حلما لم يراودني مرة , لدي عائلة منزل أناسا ينظرون إلي ويهتمون لأمري , بعدها ذهبت للنوم وأستلقيت على السرير كنت أسمع صوت طفلك يضحك أحسست بالطمأنينة والسكينة , غططت حينها في سبات عميق , جلست صباحا كأنني ولدت من جديد , شعرت بالحياة بعد أن كنت ميتا , شعرت بالأمان بعد أن كنت ضائعا , شعرت بالحنان بعد أن كنت قاسيا , خرجت من منزلك أردت أن أرى العالم بعد أن عدت للحياة ذهبت من مكان إلى اخر أبحث عن عمل ومنزل حتى حققت ماأردت , رغم سعادتي بذلك لكن قلبي ظل منشغلا , لأنني أردت أن أشكرك على مافعلته لي ولم أعرف بأي طريقة أفعل ذلك , أعطيتني حياة
جديدة وأسرة ومنزل , فأنا مدينا لك بحياتي , كنت خائفا لأني لم أقدر أن أقدم لك شيئا بقيمة ماأعطيتني أياه . جئت ذات يوم لزيارتكم فأخبروني أنكم أنتقلتم , بحثت عنكم في كل مكان دون جدوى , وقتها لم يهنأ لي بال ولم يرتح ضمير ولم أنم جيدا إذ الرجل الذي أنقذ حياتي أختفى .

لم يعرف (جابر) بما يجيبه ضاع في كل الموقف وكأن صفعة التهمة تلك أحس بها ثانية فظل بلا حول أو قوة يستمع ,
أكمل الرجل مابدا قصة أوجعته دينا وتفننت تعذيب في قريرته :
في الحقيقة لم أكن أعلم بقضيتك لكن في يوم تنفيذ حكم الأعدام الذي صدر بحقك , كنت في أجازة فأنا وظيفتي هي (مشرف عمال بناء) , ذهبت للمطار قاصدا السفر فجأة أتصل بي أحد الزملاء في العمل وقال : وقعت مشكلة كبيرة بين العمال في أحد المواقع ويريدون مني الذهاب , ترددت في البداية ثم ذهبت , حللت المشكلة بعدها وقفت أتكلم مع أحد العمال على عجالة لأنني أردت العودة إلى المطار لألحق بالطائرة , بالصدفة مر أمامي طفل يضع يده على وجهه ويبكي لوحده , شعرت بالأسى عليه تذكرت طفولتي وحياة التشرد الأليمة , فحاولت أن أشتت ذهني عن تلك الذكرى الأليمة , لحظات ركبت السيارة مشيت قليلا فكان الشارع مزدحما فدخلت أحد الأحياء لأختصر الطريق , ماأثار أستغرابي بأنني رأيت ذات الطفل مرة أخرى على حالته يضع يده على وجهه ويبكي , أقتربت منه بالسيارة فقطع علي الطريق أبعد يده عن وجهه نظر إلي ورحل ؟ عندما نظرت إليه قلت في نفسي : كأنني رأيت هذا الطفل من قبل ؟ أثار فضولي كل ماحدث ظللت ألحقه حتى وصل إلى منزلا به جمعا من الناس بدا عليهم الحزن والعزاء ودخل , توقفت في الحي سألت : مالخبر ؟ قالوا لي : بأن رجلا من هذه العائلة حكم عليه بالأعدام ظلما , وبعد قليل موعد تنفيذ الحكم ؟ سألت عن أسمه : فأخبروني , عرفت بأنه أنت وذاك الطفل هو أبنك , قلت في نفسي حينها : أنه وقت سداد الدين , فحضرت بسرعه إلى مكان تنفيذ الأعدام , وحصل مارأيته قد حصل .

أنتابت (جابر) قشعريرة روعته لخبطته وضربت لبه من الداخل , أحس بأن ماسمعه جريمة كالتي أتهم بها لكن هذه المرة أشد قسوة وعنف من تلك متعتعا أراد أن يتكلم قاطعه الرجل وقال مختنق في عبرته :
الان سددت لك دينك , وسأموت مرتاح البال , أذهب من هنا , فمثلك لايقتل
 
عودة
أعلى