لغة الصحافة

كانت إجادة اللغة والمهارة في استخدام الأساليب اللفظية هي المؤهل الأول وجواز المرور إلى عالم

الصحافة , لذا فقد اعتمدت الصحافة فيما مضى على الأدباء الذين قامت الصحافة على أكتافهم سواء

في الغرب أم في الشرق . ولم تعرف الصحافة العربية صحافيين بالمعنى الحقيقي إلا منذ سبعين عاماً

تقريباً في مصر وبلاد الشام .. وظلت السيطرة معقودة للأدباء حتى الخمسينيات من القرن العشرين

وكانت المساجلات الأدبية والمقالات التي دبجها يراع كبار الأدباء هي المحور الأساسي للصحافة

التي لم تكن تحفل بالخبر حتى ذلك الوقت احتفالاً كبيراً .. وبعد وقوع الحرب العالمية الأولى بدأت

الصحافة عملية التحول من صحافة رأي إلى صحافة خبر .. وبهذا التحول تحول الأسلوب أيضا من

الأسلوب الأدبي إلى أسلوب سريع مختصر عرف بأسلوب (التلغرافي) وأصبح الخبر هو واجب

الصحافة الأول , وأصبحت مهنة الصحافة مهنة لاتهدف إلى امتاع القاريء .. بقدر ما يهمها

رواجها الذاتي .. وقد كانت الصحافة تقوم بنقل الخبر فعلاً ولكن بأسلوب أدبي , حتى كتب مندوب

وكالة ( الاسوشيتدبرس) الأمريكية خبره الشهير على علبة سجائره بعد أن فُرض حصار حول

الحاضرين في حفل مسرحي صرع فيه أحد الممثلين الرئيسَ الأمريكي (إبراهام لنكولن) وكان الخبر

المختصر المفيد :< أطلق الرصاص على الرئيس هذا المساء ومن المحتمل أن تكون الإصابة قاتلة"

وفي هذه الكلمات المعدودة - التي فرضتها الظروف- أجاب الصحفي الذكي على أهم التساؤلات التي

عرفت فيما بعد بالشقيقات الخمس والسؤال السادس غير الشقيق أو ما يطلق عليه اختصاراً عندهم

(W'sand H5) وكان ذلك عام 1865م بيد أن هذا الأسلوب المباشر لم ينتقل إلى الصحافة

العربية بسرعة , فقد ظلت الصحافة العربية بأسلوبها التقليدي قرابة نصف قرن منذ ذلك التاريخ

وحتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م ولتوضيح هذا الأسلوب أسوق المثال التالي:

نشرت صحيفة الأهرام المصرية في عددها الأول تحت عنوان( حوادث مختلفة) على الصفحة الأولى

مايلي: ( لقد تشرف بالمثول أمام حضرة المرشال مكماهون رئيس الجمهورية الفرنساوية الجنرال

شالديني دوكه ده جانتا وقدم إلى حضرته كتاباً من جلالة ملك إيطاليا يعلن تسميته سفيراً لدى

الحكومة الفرنساوية , وعند تقديمه الكتاب قال: إنني باحترام أقدمه إلى عظمتكم حيث يقلدني بموجبه

جلالة ملك إيطاليا مأمورية السفارة لديكم , أما الأوامر التي قيدني بها فهي بذل الجهد بدوام المحبة

والاتفاق بين المملكتين , وإنني سعيد لحصولي على هذه المأمورية لدى مهابتكم . فأجابه حضرة

المرشال بما ملخصه أن محبتي لدولة إيطاليا أكيدة واتفاق المملكتين عائد لخيرهما ) ويتضح من

هذا المثال الممل أن المقصود بلغة الصحافة الحديثة : < أن ملك فرنسا تسلم اعتماد السفير

الأيطالي الجديد في باريس> ولكن شتان بين الصياغتين. وبذلك أصبح للصحافة لغة خاصة أو

أسلوب خاص متفرد داخل إطار اللغة يفهمه الجميع ممن يختلفون اختلافاً عظيماً في قواهم العقلية

- عدا البله والمجانين - .. وهكذا برزت لغة تبعد بعداً ظاهراً عن لغة الأدب , حتى إننا لو تخيلنا

عودة سيبويه - مثلا إلى الحياة , وجدناه مشدوهاً أمام تلك التعبيرات الجديدة التي اصطنعها

الصحفيون , ولعله يصاب بدهشة أكبر أمام تلك النعوت الجديدة التي لاوجود لها في بطون الكتب

القديمة مثل( الحقيقة الصارخة , والأكذوبة البيضاء , والليلة الحمراء , والغيرة الصفراء ,..)

وكذلك تلك الجمل التي دخلت إلى لغتنا عن طريق الترجمة من أمثال " كان علي أن أضع اعصابي

في ثلاجة بعد سماعي لهذا النبأ..) وغير ذلك من مئات النماذج .. وفي المجمل فإن ماساهمت به

الصحافة في اللغة يعد إنجازاً رائعاً لتقدم اللغة إلا هذه العملية تتطلب العمل الدائب على فرض رقابة

ساهرة على ذلك تؤمّن للغة ما يقيها من المسخ والتحريف والتخلف والجمود .. وهذه هي مهمة

اللغويين والصحفيين جميعا.​
 
عودة
أعلى