صورة جانبية ..

توجهت الطائرة بوجهها تجاه الريح , ودارت مراوحها بسرعة تحفّزاً لمغادرة الغبراء إلى قبرص , وأضاءت الإشارة بمنع التدخين , وإقفال الجوالات , وشد
الأحزمة , ووثبت تستقرب النجم مجالا , وتهادت تسحب الذيل اختيالا .. وحلّقت بنا
في جو السماء , عندئذ فككنا الأحزمة .. وكان يجلس في المقعد الذي أمامي رجل
ضخم طاعن في السن ..يجول بعينيه التائهتين كأنما يتفحص الركّاب ..وكان له رأس تشك لأول وهلة بأنه متورم .. وهو حين يتحدث إليك تتقلص أنت في مكانك
وتنكمش خشية أن تنفجر أوردة كالأفاعي الصغيرة في رقبته الضخمة .. وكان يسحب نفساً طويلاً جداً بعد كل جملة يقولها ثم يمسح وجهه بيده السمينة
كغريق ينشف الماء والعرق الطافح من مساماته المنتشرة هنا ..وهناك
.. طلب من المضيفة كأساً من الأوزو .. أما أنا فطلبت عصير تفاح , ثم استرخيت
متخيلاً كيف ستكون رحلتي إلى قبرص فكرت بطريقة .. أو بأخرى ..
أخذت أراه الان بدا وديعاً سعيداً , كان يجلس بجانبه رجل تجاوز الأربعين ..وقد
بادره الضخم السمين :
- أهلاً سيدي
- أهلاً.
رحت استمع إلى كل كلمة يتفوه بها ..
-الحقيقة السفر عن طريق البر أفضل.. وتزحزح في مكانه ..وعدّل من هيأته, بينما
كان الرجل الذي بجانبه مؤدباً قليل الحركة
- الظروف ..
ورد الرجل الضخم بسرعة:
- طبعاً الظروف ...كانوا قديماً يرسلون رسائل الحب والغرام بجناح الحمام.. والأماكن التي يكثر فيها الصيد يرسلون الرسائل بأحد أرجل النعامة !
- النعامة ؟؟! ! !
- نعم فالحب كان ملتهباً يا صديقي !
وضحك الرجل المؤدب ضحكة قصيرة جداً , وكان يريد بذلك أن ينهي الموضوع ,
لكن الضخم أجاب بمرارة : - نعم .. هناك حكمة تقول : ليس التوفيق في الزواج
أن يجد المرء زوجة صالحة , بل أن يكون هو زوجاً صالحاً..
فكّرت بهذا جيداً فلم أجد في كلامه شيئاً من الحكمة .. وقبل أن اقترب من هذه الحقيقة خرج الرجل الذي بجانبه عن اتزانه , وردّ
- وكيف ..؟!
- نعم ياسيدي ..فالمرأة مسكينة .. لطيفة .. رائعة .. ترتدي أشياء خفيفة جميلة..
تتعذب كثيراً حين تتزوق وتتبرج..كل يوم .. كل يوم.. وأحياناً مرات عديدة في اليوم
.. مخلوق مسكين .. رائع.. ذوّاق بكل شيء.. هي .. رائعة حين تضحك.. جميلة
حين تبكي .. فاتنة حين تمشي .. وحين ترقص .. وحين تأكل .. و.. وخرجت تلك
الأفاعي من رقبته الغليظة , وسحب ذلك النفس الطويل , وكان الرجل الذي
بجانبه ينكمش ويتقلّص شيئاً فشيئاٍ..ويبتسم شيئاً فشيئاً..
كان الضخم يتحدث بجدية كبيرة وبألم وحرقة شديدة .. وحزن خفيف يرتسم على وجهه الأحمر العريض وهو يسترسل : أنيقة في اختيار الأشياء كل
الأشياء حتى أنها تثقب أذنيها من أجل الأقراط والحلي , وفي أفريقيا يثقبن أنوفهن
وفي أوروبا تثقب المرأة لسانها بل وسرتها .. إنهن يفعلن ذلك من أجل الرجل..
.. إنها.. وحين جاءت المضيفة .. ضحكت كل قطعة في رأسه .. الذي هزّه
ثلاث هزات متتالية .. وقد خُيل لي في المرة الأخيرة أنه سوف لن يرفعه ابداً....
ثم استأنف : " إنها الجزء العظيم من الرجل .. الناقص بدونها - وهي لاتطلب
مقابل هذا التبرج .. واللبس .. والتأنق .. والولادة .. والسعي وراء الاستقرار
شيئاً . إنها دمية .. دمية مقدسة..وتزحزح في مكانه .. وكان الرجل المؤدب الذي
بجانبه قد خرج عن اتزانه تماماً .. وفتح منخريه بعصبية ورد عليه بخشونه:
- ولكنها مزعجة .. هل أنت شاعر أم يتيم ..؟؟ ومسح فمه بعصبية , وكأنه تذكر
أن حديثه هذا سيجره إلى أشياء أخرى مجنونة ربما مع رجل يعشق النساء وهو
في هذا العمر المتأخر .. على حين جرع الضخم قدح الأوزو دفعة واحدة وأومأ
للمضيفة -بواحد اخر- وأردف قائلاً: انظر الى هذا الجسم البديع وهو يتلوى
كأفعى حين يقدم الكأس .. انظر إلى ابتسامتها .. , حاجباها المحفوفان - شعر
ساقيها الذي أزالته .. انظر .. إني فخور وأعتز كثيراًأ ن الله خلق هذا الجمال من
أجلي ..
انزعج الرجل المؤدب كثيراً وردّ عليه منفعلاً : "ولكنها ابتسامة وظيفية" أرجو أن
تفهم ذلك !!! ضحك الضخم ضحكة لاتعني شيئاً بوجه أو باخر وقال: أنت ترى ذلك
لماذا..؟ خذ الجانب اللطيف في نظرتك للأمور , الموظفون لايفعلون ذلك اطلاقاً!!
احتار الرجل المؤدب لايدري ما ذا يقول .. إنها طبيعة العمل طبيعة العمل تختلف..
رد الرجل الضخم : - لا ........ إنه الذوق .
سأله المؤدب: يبدو أنك شاعر .. هل أنت شاعر؟؟
ضحك الضخم حتى تقلّصت الأفاعي المعقدة في رقبته وقال: أنا عاشق ياسيدي..
أنا هنا في الطائرة وبعد قليل سأكون في قبرص , في جنتي .. مع عجوز أحلامي..
وباستغراب قال المؤدب : ..تحب..؟!
- نعم .. سيدة محترمة ..متزوجة ..ولها أولاد وبنات..
- منذ متى ؟؟
- منذ خمسة وعشرين عاماً ..
- كم عمرك.. أنت كم عمرك؟؟
- خمسة وسبعون .. فقط ! ! !
قالها باستصغار وكأنه يطلب من الدنيا خمسة وسبيعين أخرى..
سأل المؤدب : " ولكن ماذا عن زوجها ..؟؟؟؟!!!!!!!!!!
ضحك الضخم وتمطى .. وهز لحمه المتناثر هنا .. وهناك
- يعرف قصتنا .. وهو يدعوني إلى العشاء دائما مع أبنائهم ويقول لهم : هذا
العجوز يحب والدتكم" وكانوا ينادونني : " الجد المخلص "
- تقول إن زوجها يعرف قصتكم "
- نعم إن زوجها طفل رقيق ولا يتوقع منا تلك الوقاحة
- وأين تتقابلان؟؟؟
- في الفندق .......)
وهنا .. توقف
- اربطوا الأحزمة من فضلكم .. وهبطت الطائرة..
وفي المطار وعند الجمارك فارقت الرجل الضخم وهو يترنح مسرعاً إلى حقائبه..








التوقيع :​
 
الله يرحم العجوز العاشق

فعلا الحب والعشق ليس له عمر ولا شكل

اخي الشاعر الرجيم

انت مبدع فلا تيئس من عدم ردود الاعضاء على كتاباتك

فأنا من اشد المعجبات لكلماتك المبدعه

بس اتمنى انك تكبر الخط شوي في كتابه القصائد او عموما في مواضيعك

ليس لشي فقط لتوصيل المعنى بعمق لمن يكون الخط واضح

ارجو ان تقبل ملاحظتي برحبه صدر

يعطيك العافيه

سلمت يمناك

تحياتي لك

ام عمر
 
عودة
أعلى