قصيدة المطر الرؤيا الصادقة في قصيدة السقيا للفراعنة قراءة أدبية

الغياب المر

عضو مؤسس
بسم الله الرحمن الرحيم
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي{25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي{26} وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي{27} يَفْقَهُوا قَوْلِي{28})طه

كثير ممن أدلى بدلوه في هذه القصيدة الجميلة وتفاوتت القراءات كل حسب إسلوبه ومستوى ثقافته وأنا واحد منهم وأتمنى من الله أن يكون دلوي أعذبهم وأشفاهم لأنفسكم في الخوض في إظهار درر هذه القصيدة التي ربما خفيت على كثير من الناس
وقد نهجت في قراءتي هذه الاقتراب من الشواهد الأدبية من أبيات وألفاظ معجمية بكتابة كلمة منقول بعده كأسلوب إشهاد كما حاولت إظهار المقاصد الحقيقية والإشارة إلى التوظيفات الأدبية والتتبع المنطقي الدقيق لمراحل بناء السحاب والقصيدة مدعما ذلك ببعض الصور ..املا من الله أن تنال على إعجابكم وعلى بركته ابدأ..
يقول الفراعنة:

تلاوة كاهن أو نفث قاري "=" بصدري يوم أجر الصوت ساري
أدندن دن دني دن دن دني دن "=" مثل ما دندن الدندان جاري
هنا موطن دعاء ورجاء فتحدث في مستهله عن حالته التي هو عليها أثناء كتابته القصيدة وعن الأصوات التي تصدر من صدره مشبها بها الأصوات والتمتمات التي تصدر من العباد الراجين المتضرعين فالكاهن متصوف في دينه ولتلاوة الكهان طنين كطنين النحل يصدروه في دعائهم ذكره الإخباريون وأيضا للقارئ صفير يصدره أثناء نفثه ولكن كان أعظم تلك الأصوات في الدعاء هي دندنة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه في الصلاة لما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأل الصحابي: (ما تقول في الصلاة ؟ قال : أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ . فقال صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن) صححه الألباني.فمن هنا جاء توظيف الدندنة في أعمق صورها وهي دندنة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه في الصلاة ولذلك أكد عليها ناصر بتكرار الدندنة... وإلا لو كانت الدندنة ردا فقط على دربنة بدر صفوق بدون توظيف لكانت حشوا عروضيا..ولكنها احتملت الاثنين(الرد مع عرض قوة التوظيف البديع)..(مثل ما دندن الدندان جاري) لكن دندنتي سأصيغها على طريقة الشعر وما هو جاري على ألسن الشعراء الفحول أمثال الدندان رحمه الله و(جاري) أي في المَقام الشعري ولا أتصور المُقام المكاني

على ربع كبطن الكف قبرٌ "=" حلقه من الذواري موس ذاري
الدعاء كان لتلك المرابع التي أصبحت كبطن الكف ومعلوم أن بطن الكف أملس لا ينبت فيه شيء من الشعر فكذلك مرابعهم فالربع مفرد لمرابع البدو وهي أماكن رعي إبلهم وماشيتهم . وأرض قبر أو قبور: غامضة. فالأرض القبور هي التي تهجر ولا يرعى فيها ولا يسكن ولذلك سميت المقابر بهذا الاسم فالحال واحد... (حلقه من الذواري موس ذاري ) ما بعد الموس في الحلاقة إلا الصلع . أي أن رياح السموم تركت ذلك المربع أصلعا بلقعا.

كأن الريح فيه وحوش غاب "=" تحاور في حشا صدري حواري
هنا إشارة إلى رياح العذاب التي أهلك الله بها الأقوام السابقين .فالحواريون هم أنصار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجاء في قصة خروج لوط ومن امن معه أنهم سيسمعون أصواتا مدوية تهز الجبال. فكانت أوامر لوط أن لا يلتفت أحد من حواريه إلى مصدر الصوت وإلا سيهلك مع من في القرية . وقد خرجت معه امرأته وقد حاورت تلك الرياح امرأة لوط وملأت صدرها خوفا فالتفتت إلي مصدر الصوت فكانت من الغابرين. فأصوات الرياح التي أهلكت هذه المرابع أوقعت نفس المشهد في مخيلة الشاعر لما أحدثته أصوات الرياح التي عذب الله بها الأقوام السابقة حتى كادت أن تهلكه

كأن جبال سلمى دون سلمى = هنا وهناك أنياب الضواري
(دون) يعني حول ..(جبال سلمى دون سلمى) أي جبال سلمى حول منطقة سلمى مثل قولنا ابار الأفلاج حول منطقة الأفلاج (ابار الأفلاج دون الأفلاج)..(هنا وهناك) أي أن الجبال المتوزعة في تلك المنطقة في تعطشها وتشكلها وحدتها بدت كأنياب السباع من شدة الجفاف فكلنا يعلم متى تكشر السباع عن أنيابها
x.png

وادي مشار شمال حائل ونشاهد تشكلات الجبال حوله

شعى شاعي شعى شايع شعاها "=" شعاعاً ما يباريها مباري
شعى (أشعل) (أشْعَى القوم الغارة: أشعلوها.منقول )(الشاعي) الذي يأتي أولا و (الشايع) الذي يأتي ثانيا (شعاها) احرقها (شعاعا) من اشعة الشمس. (ما يباريها مباري) لا يظلها أحد
أنتقل في هذا البيت بعد وصف صورة المكان و وصف الرياح إلى وصف ما تحدثه أشعة الشمس في ذلك المكان من تصحر فقد اهلكت تلك الأشعة تلك المرابع من أولها إلى تاليها وهو تعبير عن سعة امتداد الجفاف في كل المنطقة في حين أنه لا يستطيع أحد مداراة تلك الرقعة الضخمة من عوامل التعرية تلك

شعاشيع قراشيع شعثها "=" إلى شعشع سبيب ما تماري
(والشَّعْشاع بالفَتْح : شَجَر . وقريةٌ بمِصر.منقول) و(القِرْشِع: الجائر: وهو حَرُّ يجده الرجل في صدره وحَلْقه.منقول) وربما أراد الشاعر بذلك المساحات المتصحرة على صدر ذلك المربع من الشجيرات الصغيرة و(الشعث ) النشر و التفريق ومنه (جمع الله شعثكم).. أي أن الحر الجائر تسبب في تفرق الأشجار المعمرة وهو إشارة إلى التصحر وتباعد المسطحات العشبية .(إلى شعشع سبيب) إذا نشر الأشعة في كل مكان سبيب ممتد من الشمس وللتوضيح فالسبب هو كل ما تدلى من أعلى إلى أسفل على هيئة خيط ومنه جاء سبيب الفرس وسبائب المرأة وأسباب السماء وسبب الرجل (ذريته.يقول سببي) وسبيب الدلو (حبله) وكثير من الاشتقاقات الأخرى فعلى القارئ توسيع مخيلته للوصول لبعد الصورة الحقيقي في توظيف معنى السبيب الذي يتناسب مع اتساع رقعة الأرض التي أثّرت فيها تلك الأشعة وعدم ربط السبيب بذيل الفرس في كل الأحوال..(ما تماري) لا تستطيع مقاومة تلك الأشعة المنبعثة من السماء باستمرار وفي كل الأرجاء وكأنه غيّظ لها خيوطاً بل رماحاً من أشعة الشمس تقطع في جسد تلك الرقاع . وفي تفسير الجلالين {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى }النجم12. أي تجادلونه وتغلبونه
فقد ذكر في البيت السابق و هذا البيت أنه لا يباريها أحد ولا هي تستطيع الدفاع عن نفسها وهو إظهار لافتقار وعجز تلك الأرض القبر ولقلة الحيلة

ألا يالله طلبتك ثم طلبتك "=" سحاب من حياض الخلد جاري
(طلبتك ثم طلبتك ) هذا إسلوب إلحاح في الدعاء في أن يكون السحاب محملا بماء من أحواض الجنة وهذا فيه إشارة إلى أن يكون المطر مباركا كما يدعو الداعي( سحاً وابلاً غدقا مغيثاً هنيئاً مريئاً مجلِّلاً نافعا غير ضار، تحيا به البلاد، وتسقى به العباد، وينعش به الضعيف من العباد، ويحيا به الميت من البلاد، يروى القيعان، ويسيل البطان، ويستورق الأشجار..) فعليك أن تتصور من أين سيأتي مطر بهذه الصفات

تزبر ثم تعبر لين غبر "=" و حبر ماطره وسط الخباري
ولا زلنا في الدعاء بذكر مراحل تطور ذلك السحاب ..هذا البيت هو الأب و مفتاح ما بعده من أبيات في وصف رحلة المطر المشوقة التي سنمر عليها.
تزبّر انتفش كزبرة الأسد وغالبا يكون التكون من البحر على شكل فطر عظيم يبدأ بالتعاظم شيئا فشيئا إلى أن يأخذ شكل زبرة الأسد وأكثر من يلاحظ هذا المنظر المهول هم أهل المناطق الساحلية.. ثم (تعبّر ) تنقل بين المحيطات والأقاليم.. ثم(غبّر) تكثف على هيئة غبار.. ثم(حبّر) اختلط وتعكر ماؤه بتراب الخباري والخبرة هي(الروضة التي يتجمع بها ماء المطر لمن لا يعلمها)
وقد استطاع تصوير رحلة المطر كاملة في هذا البيت الفريد فقط من نشوئه إلى اختلاطه بالتراب ..ثم يبدأ بتفريد نوع السحاب الذي سيقل ذلك المطر في كل كلمة مرت في هذا البيت بالشرح التفصيلي .

تجلهم ثم تدلهم ثم أكلهم "=" بأمر باري برى باريه باري
من هنا بدأ في تفصيل مراحل تحول السحاب في كلمة (تزبر)
تجلهم (تجلّ) ظهر من البحر-وهو الثوب الأول الذي يلبسه السحاب بعد ولادته- ثم تدلهم (تدلّ) تدلى بين السماء والأرض –وهو الثوب الثاني- ثم أكلهم (أكلّ) (غمام مكلل: محفوف بقطع من السحاب، كأنه مكلل بهن . منقول.)وهو -الثوب الثالث- وهي صورة حية لنفوذ أمر الله في الكون وقدرته سبحانه وتعالى على أن يخرج السحاب من البحر وبهذا التدرج المعجز
بأمر باري برى باريه باري {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً}النور43
x.png



يحوف الشمس لين الشمس تصغر "=" شوي شوي مثل عين البخاري
كلمة يحوف تدل على بدأ حركة السحاب وتنقله وهي الانتقال عن الحديث في مرحلة كلمة (تعبر)
لحظة تأمل وترقب من مستبشر الغيث وهو يراقب تحرك تلك الغيوم برياح البشرى ببطء صوب قرص الشمس إلى أن يصبح قرص الشمس صغيرا كعين البخاري ومعلوم أن أعين الشعوب البخارية صغيرة إلا أنها عادة تكون مع صغرها باسمه..فهي لحظة توديع جميلة وغمزه لطيفه من الشمس للمتأمل .(شوي شوي) موسيقى عالية زادتني شوقا وقلق انتظار أثناء تغطية قرص الشمس
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }الأعراف57

إلى أن يختفي في ثوب نوه "=" جذب طاريه أهل درم السماري
(النو) البرق و قد فصّل للبرق ثوبا يختفي فيه السحاب كلما أضاء وهو الثوب الرابع الذي يلبسه السحاب وهو السحاب الذي يكون فيه برق ورعد ولم يتأكد المطر وهو الذي يلحظه البدو من بعيد ويتبعونه بإبلهم العجاف راجين من الله أن يرزقهم الحيا فيه (درم السماري هي التي غار خفها من الإبل)
يقول الشاعر محمد الفهاد (شاقني مزن تحدر من القبله برق .... واقف واخيل نوه وانا أظنه صدوق)
attachmentphpattachmentid7515stc1d118003-1.jpg


مزونه مزنة ومزنة ومزنه "=" جواري حاكم تتلو جواري
(المزن) هي الغيوم الثقال المحملة بالمطر وهي الثوب الخامس للسحاب وهي المرحلة التي يرتفع فيها إشفاق المستبشر وهي بداية مرحلة(غبر).
لاحظ الترتيب والتقدم والانصياع للأمر الرباني للمزن في قوله(مزنة و مزنة و مزنة ) فكأنه طابور عسكري منظم يتقدم
(جواري حاكم تتلو جواري) تداعى لي جمال منظر تقدم المزن الثقال الواحدة تلو الأخرى كجمال منظر جواري أحد السلاطين عندما دعاهن فأقبلن واحدة تلو الأخرى يتقدمن بانصياع راجين رضاه واجتمعن في مكان واحد ووقفن ينتظرن أمره بأكف ممدودة ينتظرن أمره أو نهيه .فكيف إذا كان ذلك السلطان هو الله وتلك الجواري هي المزن فسبحان من ذلة لقدرته جميع الخلائق..

بروقه في فتوقه من تشوقه "=" يلاعبها بأطراف الشباري
الذي (يلاعب) هو البرق والملاعب هي المزن
(إلى الان لم يكتمل اتحاد تلك المزن لذلك يكون بينها فتوق ومساحات صغيره تسمح بتفريغ الشحنات بين بعضها البعض كشوط كهربائي متكرر) .فيصور البرق بحدته وخطورته وهو يضرب بين فتوق تلك المزن التي تتقدم وكيف يداعب من تشوقه وتتوق له من بينها كأنه يتحرش بها وينغزها بضوئه فما أن يطلق ضوءه بسرعة في اتجاه مزنه ويصل إليها حتى تراه يتراجع ويختفي فجأة في أداء سريع جدا ومهارة عالية ويكرر ذلك مع أخرى وفي اتجاهات مختلفة كمن يلعب بالشبرية فتجده يقدمها ويقوم بسحبها مرة أخرى بطريقة فجائية وسريعة مضافا إلى المنظر السطوعات التي تنتج من تقلب أوضاع الشبرية ..والشبرية (نوع من السلاح يشبه الخناجر. لمن لا يعلمها)
attachmentphpattachmentid7484stc1d118000-1.jpg


شهب مشهاب ضوٍ او شهاب "=" شهب شباب اشهب برق عاري
ذهب هنا إلى وصف ألوان تلك البروق في الشطر الأول والى وصف حدتها في الشطر الثاني والتتبع هنا يكون بالعين وقد لا نحتاج هنا إلا لفك معجمي للكلمات الواردة لبلوغ مرام الصورة
ِ(شهب مشهاب ضوٍ ) أي أنار المكان سطعة نور من ضوء..(أو شهاب) شعلة نار ساطعة من السماء
(الشبّاب) (ومشبوب الأظافر: محدّدها كأنها تلتهب لحدتها. منقول) ( أشهب) أي لونه والأشهب ما غلب بياضه سواده
(برق عاري ) أي أبلج واضح كما المثل العربي (الحق عاري ) وأيضا السيف العاري إذا أخرج من غمده وبانت حدته وربما الحديث هنا عن خطورة البرق عندما يضرب الأشجار أو المرتفعات كخطورة حدة السيف

attachmentphpattachmentid7405stc1d117986-1.jpg


رعوده كل ما نقض جعوده "=" قنيب اذيابة وسط الغداري
هنا ذهب لوصف صوت الرعود الذي يعقب البرق والتتبع هنا يكون بالأذن
التي تنقض جعودها هي المرأة ذات الشعر الطويل بمعنى أنها تسبله إلى أسفل وتبدأ بتحريكه يمنة ويسرة والى الخلف والأمام وباليد واليدين إما عبثا معه أو استعدادا لتسريحه هذه الإلتقاطة الجميلة أسقطها على صورة تلك الغيوم عندما تنشر ضوئها على هيئة جعود تمددها بين السماء والأرض وفي جميع الاتجاهات. إلا أن هذا المنظر المهيب يتبعه صوت رعود رهيبة جدا تبعث بالخوف في القلب والحيرة في مصدر الصوت الحقيقي كمن لا يسمتع إلا لأصوات الذئاب في الظلمات فيجد نفسه يتلفت في جميع الاتجاهات فلا يعلم من أين مصدر الصوت الحقيقي فمرة من هنا ومرة من هناك وكأن هنالك شيء سيتخطفه من حيث لا يدري
ومع هيبة وعظمة الرعد إلا أنه يصغر و يسبح لله سبحانه وتعالى يقول تعالى({وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }الرعد13
attachmentphpattachmentid7403stc1d117986-1.jpg


صدى أصواتها في كل ضلع "=" تلاميذ تردد خلف قاري
وأيضا هذه الرعود لها أصداء تتردد عندما ترتطم بتضاريس الأرض كالتلاميذ التي تردد خلف مقرئها وهذا التشبيه بعث فينا صورة جميلة من الذكريات القديمة وقت جمال الحياة وبراءتها ....و(الضلع) نوع من التكوينات الجبلية الصغيرة في الصحاري ليس لها قمم

تحارش ثم تهارش ثم تكارش "=" خطارش غيمته من غير طاري
لا زلنا الان في مرحلة التكثف الركامي (غبر)
هنا بدأ الاحتدام ومرحلة الالتحام المرتقبة بين تلك المزن وهي تمر بمراحل ..(تحارش ) و التحارش هو ما يحدث قبيل الاصطدام من مناوشات بين تلك المزن والتهارش هو اشتداد الاحتدام وبدأ مرحلة التصادم والعراك الحقيقي كما أن هذه اللفظة تستعمل للسباع التي تقدم على القتال بضراوة
(كَأَنّ طُبْيَيْهَا إِذا ما دَرَّا... جروا ربيضٍ هورشا فهراً)
(تكارش) (المرأة الكرشاء هي عظيمة البطن)هنا يشير الى تعاظم حجم تلك المزن وأنها بدأت مرحلة الالتحام الكامل لتصبح أبعاد السماء كلها قطعة واحدة أينما لددت بنظرك فكأن السحاب سماء مع اشتداد سماكتها وهي مرحلة تعرف باسم الجبال الركامية وهي عادة ما تحمل المطر في قاعها و يكون البرَد في وسطها تحت درجة حرارة قد تنخفض إلى 40درجة تحت الصفر .. (خطارش غيمته) (خطرشة من خطرفة) أي الحركة السريعة للغيوم التي تدنو من سماء السحاب ..(من غير طاري) من غير عدد ... (الطرا يكثر به عدد الشيء- منقول)
من الملاحظ أن للغيوم حركة غير ثابته فمرات تراها تسير بثبات ومرات تراها تدور وتلتف على بعضها بشكل لولبي ومرات تعلو ومرات تدنو في حركة مستديمة ومن الملاحظ أن الشاعر لم يترك لحظة من لحظات تكون وتحرك الغيوم إلا واستوقفنا معه ليقول لنا أنظروا لجمال ذلك المنظر

بطش الرش حش القاع حشٌ "=" يبش ولا ينش وله مواري
هذه هي اللحظة المرتقبة للمستبشر ويبدأ الشاعر الان مع مرحلة ما يدخل تحت كلمة (حبر ماطره) من البيت الأب.
(الطَّشُّ من المطر: فوق الرك ودون القطقط .وقيل: أول المطر الرش ثم الطَّشّ.منقول) ولم يخلف الشاعر هذا الترتيب حيث جاء بحرف الباء أولا في كلمة (بطش) ليفيد النسب الى الرش ...(حش القاع حشٌ) أي غذاها من (حَشَّ النّارَ : أَشَبَّهَا وأَطْعَمَها الحَطَبَ- منقول)
(يبش) يُسعد .. بالتأكيد الأرض ستتهلل وتسعد باللقاء بعد طول الفراق .. لو علمت الدار بمن زارها لفرحة واستبشرت وباست موضع القدمي .
(ولا ينش ) لا يصدر صوتا لأن النش صوت الزيت في المقلاة فهو لا يصدر صوتا عند هطوله لصغر حجمه ففجأة تراه على يدك وعندما ترفع رأسك يقع على عينك كأنه يداعبك في تسلل وخلسة فيتأكد لك أن الطش بدأ يتهلل فتسعد بلقياه فما هي إلا لحظات حتى تراه بلل الأرض من حولك ..(وله مواري) له سرعة وخفة في ذلك ..يقول الشاعر محمد بن عبدالله بن عثيمين رحمه الله في قصيدة غزلية له :
(و موارة الضبعين محكمة القرا..أمون السرى عبر الهجير ذمول) موارة الضبعين أي كثيرة الحركة وسريعتها للعضدين.


دغاريق هماريق بريق "=" باباريق ترقرقها عصاري
النقلة التالية هي إلى وصف حالة مرئية لما يحدثه انهمار المطر من مناظر في الطبيعة وعلى التلال
فالدغرقة هي الكثافة في الصب والهَمْرَجَة الخفة والسُّرْعة
(بريق باباريق) البريق هو اللمعان والسطوع.أما الأباريق(جمع برقه أو برقاء) وهي مرتفعات محشوة بالصخور والتراب في الصحراء ولها قمم.
الطش والرش في البيت الذي سبق هذا البيت لا يحدث بريقا على التلال الصخرية ولكن هنا الوضع تطور مع كثافة الهطول فقد بدا للأباريق أو البواريق في الصحراء لمعانا ينعكس من صخورها المتبعثرة على سفوحها كبريق الأحجار الكريمة المرصعة على التيجان وهي صورة حية لما تحدثه المعصرات من السحاب على تلك التلال.(ترقرقها عصاري) طبعا الرقة ضد الغلظة (ورقراق السحاب: ما ذهب منه وجاء.منقول) و( العصاري ) هي المعصرات في قوله تعالى {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً }النبأ14..وهي الثوب الأخير الذي لبسه السحاب في تشكلاته في رحلتنا هذه

لقبل ثم وبل ثم سبل "=" وطبل تحسبه يصرف مصاري
ينتقل هنا إلي وصف سمعي لسرعات المطر بتدرج جميل بدأ بقدوم المطر المعتاد ثم انتقلت السرعة إلى مرحلة الوابل و الوابل لا مطر يعلوه ثم الإسبال دفعة واحدة كإسبال ستار وهذه الأخيرة كناية عن استمرارية وضع الوابل بثبات فإن لتلك السرعات صوت إيقاع تطبيل متناغم ومتدرج إلى أن يبلغ قمته كماكينة صرف النقود في البنوك (تررررررر) فهي تصدر إيقاعات قصيرة ومتتالية وسريعة جدا كصوت إيقاع حبات المطر على الأرض وقت التسبيل..وهذه حالة مسموعة أيقظ فيها أذاننا من سباتها فشاركتنا الغيبوبة في هذا الفلم المشوق

ولا جل البرد وبله وهلل "=" مكلل ماه يالماشي حذاري
ينتقل هنا إلى مرحلة أخذ الحيطة والحذر أثناء سعادتنا في تواجدنا تحت المطر
(لا جل) إذا ظهر وتهلل البرد بين ثنيات الوبل فعلى من لا يعبأ بماء المطر الحذر من بَرَده فقد يكون خطره كبيرا إذا كبر حجمه فقد يصل إلى حجم الجماجم كما ذكر في البيت الذي يلي ( فقد وجه الشاعر تحذيرا من التواجد تحت المطر وقت ظهور البرد لئلا يتطور حجمه ويضر بك ولم يدعو على الناس به ) ...(وانطلق مكلّلاً: ذهب لا يبالي بما وراءه .منقول)
x.png


محاذيف البرد كبر الجماجم "=" وأصغرها مثل روس الحباري
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }النور43
وصف الله أن البَرد يسقط من جبال في السماء لذلك جاء توظيف كلمة (محاذيف) بليغة هنا فالمحاذيف من الجبال تكون خطيرة لذلك حذر الشاعر منها الماشي .فتوظيف كلمة المحاذيف هنا مع الجبال فيه اكتمال وظيفي للكلمة أجمل كوضع الفسيفساء في مكانها الصحيح

كأن القوس من قزح على أول "=" ظهور أول ظهير شبه ناري
والان مرحلة ما بعد المطر والغيث يوقفنا الشاعر معه لنتمتع بمنظر قوس قزح وقت الظهيرة والذي كأن له حمره بسيطة شبه نارية في أول ظهور له
rainbow-1.jpg


سنى شفق به رمق تدلى "=" سويعة مغرب من فوق صاري
لازال مفعول أداة التشبيه (كأن) متواصلا( فكأن حمرة القوس أيضا سنى شفق به..) أيضا كأن لتلك الحمرة لون شفق غاب وبقي منه رمق من الحياة يتدلى في الأفق وفي دقائق المغرب القليلة قبيل انقطاعه من الليل . وهذه الصورة رقيقة وشفافة شفاية حمرة الشفق ..(من فوق صاري) قبل أن ينقطع .
قال ابن جني: في قول الهُذَلي: (أقولُ وقد جَاَوَزْتُ صَارَى عَشِيَّةً ... أَجَاَوَزْتُ أُولى القومِ أمْ أنا أَحْلَمُ )....(صراه يصريه ) صريا ( قطعه )

سحاب جعل ربي لا ومربه "=" يعم ابه اليماني والنزاري
ويسقى كل اهل شبه الجزيرة "=" تهامة والحجاز ونجد داري
وأبو ظبي ووادي العين منه "=" تغار لحسنه جزر الكناري
اليماني أي القحطاني والقحطانيون هم العرب العاربة ويسمون اليمانيين نسبة إلى موطن قبائل قحطان الأصلي..و النزاري أي العدناني ويسمون بالنزاريين، نسبة إلى نزار بن معد بن عدنان ومنه النبي الهاشمي النزاري (عليه الصلاة والسلام) وهم العرب المستعربة ...
وجاء في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني باب ما جاء عن ابن عباس ما نصه((..فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوا بها وتدالدوا فيها على خمسة أقسام عند العرب وفي أشعارها‏:‏ تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن..)) والعروض هي اليمامة والبحرين وما والاها.
فقد ذكر أربع من تلك الأراضي بمسماها اللفظي في القصيدة واستعار عن العروض بأبوظبي ووادي العين لتكتمل رقعة الأراضي العربية
وهذا الدعاء لا يخرج منه أحد من قبائل جزيرة العرب.


ولأن الإطناب في الكلام المفهوم فيما لا يستدعي حاجته يعد من الحشو لذلك أترك للقارئ جمال الاسترسال فيما بقي من أبيات تعارف على معانيها الجميع

عساه فوق قبر الشيخ زايد "=" مئة ليل وهو سكاب جاري
قبر زائد ومن هو مثل زايد؟ "=" و أفعاله تغنيها القماري
هنا أستفهام فهو يسأل . ومن يكون مثل زايد في هذا الزمن؟

ملك بالطيب كل قلوب شعبه "=" بحب وخير وأسلوب حضاري
حمل شعبه على كتفه إلى أن "=" تباكوا له بأطراف الصحاري
سقى الله ضحكتك يا بو خليفة "=" فلا زلت أعذب الأحباب طاري
x.png


اللهم امين يا رب العالمين
 
عودة
أعلى